رواية جلاب الهوى للكاتبة رضوي جاويش هي حكاية تنبض بالمشاعر وتفيض بالصراعات الداخلية والخارجية، حيث تتقاطع الأقدار وتتشابك المصائر في قصة حب مختلفة لا تخضع للمنطق أو الزمن.في رواية جلاب الهوي، يعيش القارئ حالة من الانجذاب العاطفي والتوتر النفسي، وسط أحداث متسارعة تكشف أسرارًا مدفونة وقرارات مصيرية تغير كل شيء. الرواية لا تقدم حبًا مثاليًا، بل واقعيًا، مليئًا بالتحديات والتضحيات.
رواية جلاب الهوى من الفصل الاول للاخير بقلم رضوي جاويش
وقفت العربة رباعية الدفع السوداء امام البناية المقصودة ليطل منها هو ناظرا لها بتردد و أخيرا تنهد و اسند جبينه على عصاه في قلة حيلة يتساءل هل ما سيقدم عليه الان صحيح .. ام لا ..!؟.. دوما ما كان يحكم الشرع و الأصول و الأعراف في كل ما يقوم به من أفعال .. لكن ما يهم بفعله الان لا يجد له تصنيفا في ايهم .. لكنه رغم عن ذلك هو مضطر لفعله ..
همس سائقه و كاتم أسراره مناع بصوت هادئ و هو مدرك تماما لتلك العاصفة العاتية التي تجتاح نفس سيده وولى نعمته:- مش هتنزل يا عفيف بيه ..!؟.. العمارة بتاعت الباشمهندس اهى ..
رفع عفيف جبينه من فوق كفيه المتشابكتين فوق الرأس المعقوف لعصاه هامساً بما يعتمل بصدره لمناع:- و الله ما اني عارف يا مناع اللى هنعِمله دِه صح .. و لا عملة شينة هنتعيروا عليها العمر كله ..!؟
همس مناع بدوره:- يا عفيف بيه .. ما اللي حُصل برضك مش هين .. و انت باللي بتعمله بتمنع المصيبة الكَبيرة واللى بچد ممكن نتعيروا بسببها العمر بطوله و تطول عيال عيالنا كمان يا بيه ..
هز عفيف رأسه متفهماً و مدركاً لصدق حديث مناع و حقيقة ما همس به ..
تنهد من جديد و قد استقر به الامر ليندفع خارج السيارة و خلفه مناع لداخل البناية و التى جاءا خصيصا اليها ليمنعوا ما لا يمكن منعه او الوقوف امام طوفانه ..
وقفت في حيرة امام خزانة ملابسها لا تعرف ما عليها انتقائه لتضعه في تلك الحقيبة المشرعة أمامها على طول الفراش
كل ما يدور برأسها الان هو انها لن تستطيع وداع اخيها الوحيد قبل سفرها المحدد له بعد الغد صباحا.. فها هي تجد نفسها مضطرة للسفر بديلا عن احدى زميلاتها الطبيبات لذاك المؤتمر بالخارج نظرا لظروف ألمت بها.. و ها هي متحيرة في كم الملابس و نوعها و المفترض وضعها في حقيبتها حتى يتنسنى لها الاهتمام بالامور الأخرى الخاصة بشقتهما .. تلك الشقة هى ميراثهما الوحيد من والديهما الراحلين و التي سكنتها معهما و أخيرا مع اخيها الذى يعمل الان مهندسا للرى معين حديثا بإحدى مدن الصعيد ..
تنهدت وهي تندفع خارج الغرفة باتجاه المطبخ لتصنع لنفسها كوبا من الشاي الساخن لعله يمنحها بعض الدفء وتساءلت ماذا ستفعل في تلك البلاد الباردة التي هى في سبيل السفر اليها عما قريب وهي لا تحتمل البرد بهذا الشكل و ابتسمت و هي تحتضن كوب الشاي الذي صنعته على عجالة متخيلة نفسها أشبه بتلك الدجاجة التي تحتفظ بها في المبرد و هي وسط ذاك الثلج الذى يحيطها من كل جانب في تلك البلد الاروبية الباردة..
جلست تضع شالها الصوفي يضم كتفيها والذي كان يوما ما لأمها و فتحت التلفاز لعلها تأنس بما يصرف عنها ذاك الشعور القاتل بالوحدة ..
و لكن لم يفلح اي من تلك المشاهد المعروضة على الشاشة في جذب انتباهها لتسرح كعادتها في ذكريات الماضى الذى تزخر به أركان تلك الشقة العتيقة ..
رحل والداها تباعا لتصبح هي المسؤولة عن اخيها الذى لا تكبره الا ببضع سنوات .. أصبحت الام و الأب له في مرحلة خطيرة من حياته .. لكنه لم يخيب ظنها وكان دوما نعم الأخ العاقل المستقيم أخلاقيا و دينيا والذي كانت تفخر به دوما في كل محفل مؤكدة على الرغم من فارق العمر البسيط بينهما انه ابنها و ليس اخيها ..
لكم تفتقده ..!؟..
يغيب كثيرا منذ جاء تعيينه في تلك البلدة البعيدة فلا تره الا عدة ايّام كل شهر او ربما اكثر .. وخاصة في الآونة الأخيرة اصبح يمر اكثر من شهر و نصف الشهر حتى ينعم عليها بزيارة لا تستغرق يومين لا تسمن و لا تغنى من جوع .. اه لو يعلم مقدار اشتياقها لمحياه و مجلسه الذى لا يخلو من المزاح و المحبة!؟..
تنهدت و هي تتذكر عتاب احدى صديقاتها
"... لما لا تتزوجي ..!؟.. هل عدم الرجال أنظارهم ..!؟.."..
و كم ظلمت الرجال ..! .. فالعيب فيها لا في الرجال .. فهى لم تعدم إطلاقا وجودهم بحياتها .. و كم تقدم لها الطالب تلو الاخر يتمنى الاقتران بها لكن هى من كانت ترفضهم بحجج مختلفة كان أولها اخيها و دراسته و انها كرست حياتها لخدمته حتى يقف على قدميه ويشق طريقا لمستقبله .. و ها قد فعل ..!؟.. فما حجتها الان ..!؟..
الجميع يعلم انها على مشارف الثلاثين .. و انها بحكم عادة المجتمع الغبية هي الان على وشك الحصول على كلمة عانس و الدخول الى نادى العنوسة المجتمعي بجدارة .. فلا امل قريب في الاقتران بمن تراه مناسب قبل بلوغ هذه السن المخيفة ..
ابتسمت في حسرة و هي تهمهم .. ان لا احد يدرك .. و لن يدرك بطبيعة الحال ان السبب الحقيقى في عزوفها عن الزواج هو رغبتها الدفينة و التي تحتفظ بها في أعماق قلبها .. انها تتمنى لو تتزوج عن قصة حب عميقة و رائعة كتلك التي عاشها أبواها ..
ذاك السر الذى لم تطلع عليه حتى اقرب صديقاتها زينب وظلت تحتفظ به داخلها تغذيه يوما بعد يوم بأحلام وردية و حكايات من نسج خيالها عن فارس أحلامها .. كانت تشعر انها ستنال التقريع الشديد من صديقاتها ان أخبرتهم بذلك .. و تحاشت ان يتهموها بأنها لازالت ترفل في أحلام المراهقة و ان ذاك ليس تفكير طبيبة تعيش فى مطلع التسعينيات من القرن العشرين بل انها احلام فتاة من مطلع القرن الماضي .. و ان عليها النظر حولها للواقع الذى ينتظرها وليس الأحلام التى تُغرق صاحبها في التعاسة عندما يتأكد من صعوبة تحقيقها و يصطدم بالواقع ومجرياته ..
تنبهت ان كوب الشاي بين كفيها قد برد وهى لم تتناول نصفه تقريبا .. همت بالنهوض الى المطبخ مجددا الا ان جرس الباب علا رنينه لتستدير عائدة لتفتحه و هي تلتقط حجابها من على المقعد المجاور لباب الشقة .. رفعت قامَتَها القصيرة نسبيا لتنظر من تلك العين السحرية التى اصر نديم اخيها على تركيبها بالباب منذ امد بعيد حتى يصمئن بأنها لن تفتح الباب لغيره عندما لا يكون بالمنزل وخاصة عندما كان ينسى مفتاحه كعادته ..
تطلعت عدة مرات في حيرة من تلك العين فلم تر بوضوح من يكون بالخارج ..
هتفت بخوف من خلف الباب:- مين بره .!؟
تكلم عفيف بلهجة هادئة لا تعكس مطلقا خبايا نفسه:- سلام عليكم .. افتحي يا داكتورة عايزينك ف كلمتين ..
هتفت بنبرة ترتعش خوفا:- إنتوا مين ..!؟ و كلمتين ايه اللى إنتوا عايزيني فيهم ..!؟..
هتف عفيف من جديد:- عايزينك بخصوص الباشمهندس نديم ..
كان ذكر اسم اخيها هو كلمة السرالتي جعلتها تنتفض في ذعر لتفتح الباب بلا وعي و خاصة عندما ادركت انهم من الصعيد حيث يعمل اخوها وهتفت في قلق بالغ و هي تشرع الباب:- ماله نديم!؟.. هو بخير ..!؟.. أوعى يكون حصله حاجة!؟..
تطلع اليها عفيف للحظة قبل ان يحيد بناظريه عنها تأدبا و هو يهتف:- متجلجيش يا داكتورة .. هاتعرفى كل حاچة .. بس مينفعش ع الباب كِده ..
تنبهت انها لاتزال على عتبة الباب واقفة في ذعر و هو يقف في هدوء بجلبابه و عمامته وعصاه التي تسبق موضع قدماه بخطوة و خلفه يقف احد مرافقيه كأنه ظل له..
ترددت هل تسمح لهما بالدخول ام لا .. و خاصة انها بمفردها بالشقة و حتى خادمتها التى تعينها بأعمال المنزل من وقت لأخر ليست هنا ..
ادرك هو ما يعتمل بنفسها من صراع ليهتف مؤكدا:- انا مش هاخد من وجتك كَتير يا داكتورة و مناع .. و أشار لمرافقه .. هيدخل معاي .. وهجولك المفيد و نتوكلوا ع الله..
كان فضولها و رغبتها في معرفة كل ما يخص اخيها اكبر من اي قلق او صوت تحذيري همس داخلها يردعها ..
تنحت جانبا مفسحة لهم الطريق في محاولة لوأد التحذيرات التى تصدح عاليا بجنبات صدرها و تركت الباب مفتوح و الذى وقف مناع على عتباته كحارس لن يتزحزح عن موضعه حتى يأذن سيده بذلك.. عادت ادراجها للداخل حيث وجدت عفيف يقف في منتصف الردهة لا يحرك ساكنا ..
همست محاولة تلطيف الأجواء:- اتفضل .. تحب تشرب ايه ..!؟..
هتف عفيف بلهجة محايدة:- احنا مش چايين نضايفوا يا داكتورة ..!؟ فين اخوكِ الباشمهندس نديم ..!؟..
هتفت بذعر:- نديم ..!؟.. ليه ..؟!. هو مش المفروض عندكم ف الصعيد ..!؟.. مش إنتوا برضو من البلد اللى اتعين فيها بقاله سنة ..!؟..
أومأ عفيف برأسه مجيبا:- ايوه .. هو كان متعين في بلدنا مهندس ري لحد امبارح …
هتفت في ذعر:- يعنى ايه ..!؟.. راح فين وعملتوا فيه ايه ..!؟..
هتف عفيف بلهجة باردة:- انتِ اللى هتجوليلنا راح فين يا داكتورة دلال .. مش دلال برضك ..!؟..
اومأت برأسها إيجابا و هي تهتف في تعجب:- أدلك ازاى على مكانه و انا معرفش هو فين أصلا ..!؟.. و بعدين انت عايزه ليه من أساسه!؟.. اخويا عمل ايه عشان تيجى تدور عليه بالشكل ده ..!؟..و انت مين م الأساس ..!؟..
جلس عفيف في نزق هاتفا:- ان كان على انا مين ..!؟.. فأنا عفيف النعماني .. كبير نچع النعمانية اللي اخوكِ شغال فيه .. و ليه بدور عليه!؟.. عشان المصيبة الكَبيرة اللى عملها و اللي لو ملحجنهاش هتضيع فيها رجاب و أولهم رجبة المحروس اخوكِ..
شهقت دلال في رعب و لم تعلق للحظات محاولة استيعاب الامر برمته ..الا ان عفيف لم يمهلها لتستفيق حتى من صدمتها بل اندفع باتجاه الردهة الداخلية التى تشمل غرف المنزل ..
هتفت هي في تعجب:- انت رايح فين .. !؟،..هي وكالة من غير بواب ..!؟..
لم يستمع لندائها او اعتراضها بل اندفع يفتح جميع الغرف في ثورة عارمة حتى وصل أخيرا لغرفتها ليطالع الحقيبة المفتوحة على الفراش مؤكدة ان احدهم كان في سبيله للرحيل بدوره .. لمعت في رأسه الفكرة ليجز على أسنانه في غيظ هاتفا بصوت كالفحيح من بين شفتيه المطبقتين تقريبا و هو يستدير ليطالع دلال التى كانت في أعقابه تحاول منعه من اقتحام حرمة منزلها بهذا الشكل السافر:- جلك اهُربى جبل ما نوصلولك .. مش كِده ..!؟..
تراجعت خطوة للخلف في هلع من مرأى الغضب الكامن في حدقتيه الفحميتين ..
وردت في حروف متقطعة:- اهرب ايه .!؟ و اهرب ليه من أساسه ..!؟..
هتف عفيف بصوت كالرعد:- تهربي عشان تداري ع المصيبة اللى اخوكِ وجع فيها حاله .. و هيوچعنا كلنا وياه .. هو مش عارف هو هيچر علينا ايه باللى عِمله دِه ..!
تجرأت و سألت في تردد:- معلش بس هو اخويا عمل ايه لكل ده ..!؟. اعرف بس ..
همس بنبرة مشتعلة بالقهر:- اخوكِ يا داكتورة هرب وَيَا اختي الصغيرة .. و الله و اعلم ايه اللى حصل دلوجت ..
شهقت دلال من جديد هامسة:- نديم مش ممكن يعمل كده ..
هتف في غضب:- لااه .. عِمل .. وهي اللى چالت الكلام دِه بنفسها .
واخرج من جيب جلبابه ورقة مطوية ألقاها باتجاه دلال التى تلقتها في عجالة و فضتها لتقرأ اعتراف المغفلة الصغيرة اخته بالحب..
انها تحب نديم وقررت الهرب معه بعيدا رغبة في الحفاظ على ما بقي من حقها في اختيار شريك حياتها و حتى لا تُغصب على الزواج من احد أبناء عمومتها حتى ولو لم يكن مناسبا لها او لا تحبه ..
أغلقت دلال الخطاب و نظرت الى ذاك الواقف كالطود بحجرتها لتشعر فجأة ان ابعاد الغرفة نفسها قد تغيرت و تبدلت بشكل عجيب ..
همس ساخرا:- هااا.. صدجتى يا داكتورة ..ايه رأيك في عمايل اخوكِ ..!؟..
هتفت مدافعة:- اخويا متربى و مش ممكن يعمل كده ..!؟.. ده تربيتى .. نديم لا يمكن يعمل كده ..
انفجر عفيف ضاحكا بسخرية:- تربيتك ..!؟ و الله وتربيتك زينة يا داكتورة ..عرفتى تربي صحيح ..
لتهتف هي بغضب كان المرة الأولى الذى يظهر جليا بصوتها منذ قدومه:- اعتقد تربيتى لأخويا اللي مش عجباك متفرقش كتير عن تربية اختك اللى هربت معاه..
ساد الصمت للحظات كانت نظرات كل منهما للاخر كفيلة بقتله حيّا .. وأخيرا قطع عفيف ذاك الصمت مندفعا باتجاه الحقيبة التى كانت ممتلئة لمنتصفها تقريبا بالملابس من كافة الأنواع و الأشكال ليغلقها بعنف هاتفا:- هما دجيجتين تچهزي فيهم حالك و تلبسي و أهي شنطنتك چاهزة ..
اندفعت هاتفة بحنق:- اروح فين!؟..واجهز ايه ..!؟.. انت اكيد جاى تهزر!؟.. انا مسافرة مؤتمر طبى مهم جدا بكرة ..
هتف بلهجة جزلة:- مؤتمر مهم !؟ اكيد مش اهم من حياة اخوكِ و اللي ممكن يحصل له بعد العملة السودة اللى عِملها ..
تنهدت و قد ادركت انه يعلم تماما نقطة ضعفها فهمست بقلة حيلة:- يعنى انت عايز ايه دلوقت ..!؟.. اخويا و انا معرفش مكانه و معتقدش انه عمل اللى انت و اختك بتقولوه ده .. مش يمكن بترمي بلاها عليه !؟ ..
جز على اسنانه غاضبا:- و الله لو راچل اللى جال الكلمتين دوول لكان زمانه مدفون بمطرحه .. اما مكان اخوكِ .. سواء عرفاه ولا لاااه .. لما يعرف انك عندينا هايجي زاحف.. وساعتها هعرف مكان اختى .. و الحساب يچمع ..
قال كلمته الأخيرة في لهجة جعلت البرودة تسري بأوصالها ويرتعش لها بدنها كله ..
وأخيرا اندفع خارج الغرفة وهو يهتف في لهجة امرة:- هستناكِ بره يا داكتورة .. شهلى لسه الطريج طويل و ماجدمناش النهار بطوله..
عاد لموضعه الأول مع مرافقه الذي لم يبرح مكانه في الردهة الخارجية بينما أغلقت هي باب حجرتها لا تعرف ما عليها فعله و لا كيف يمكنها التصرف ..
نظرت للحقيبة المغلقة أمامها على الفراش و هي تشعر انها كالدنيا التي أغلقت أمامها في تلك اللحظة المصيرية أبواب الخلاص ..
فهل هناك من منجى ..!؟..
قررت انها لن تستسلم لذاك المتسلط الذي جاء لبابها يرهبها و يثير فيها رغبة الحماية لأخيها لترحل معه بهذا الشكل .. انها لن تبرح مكانها حتى تدرك مكان اخيها لعلها تستطيع ان تنقذ ما يمكن انقاذه و خاصة ان ذاك الرجل لا يعلم لغة للتفاهم غير العنف و ما يمكن ان يتبعه من مصائب هى فى غنى عنها .. انها متأكدة ان اخيها لا يمكن ان يقوم بتلك الفعلة المشؤومة .. لا يمكن ان يضع نفسه فى مأذق كهذا ابدااا ولو بدافع الحب ..
عزمت ان تضع قرارها موضع التنفيذ و تسللت بخفة من حجرتها حتى المطبخ و فتحت بابه الذي يطل على سلم الحريق كما هو الحال فى معظم البنايات القديمة ..
وما ان هبطت السلم حتى اصبحت خلف بنايتها فاندفعت تشير بلهفة لأحدى سيارات الأجرة التى توقفت بجوارها لتصعدها على عجالة امرة السائق بالاندفاع مبتعدا فى أقصى سرعة ..
طال انتظاره لها و شعر ان الامر اصبح غير عادي بالمرة .. توقف على اعتاب الردهة مناديا:- يا داكتورة .. متهئ لي طولتى جووى كِده ..
لم يسمع ردا .. فشعر بالقلق يعربد بصدره فاقترب من باب الغرفة فإذا به مشرعا و هى ليست بالداخل .. اندفع باتجاه المطبخ و صدق حدسه عندما رأى ان هناك باب اخر للخروج غير باب الشقة الأصلي و انها هربت ..
صرخ لاعنا مما استرعي انتباه مناع خفيره ليلحق به للداخل هاتفا فى اضطراب:- چرى ايه يا عفيف بيه !؟..
هتف عفيف بغيظ:- هربت .. هنعملوا ايه دلوجت !؟.. جلت هتاچي معانا .. چوم اخوها يظهر و نلموا الموضوع بدل الفضيحة ما تفوح ريحتها و تبجى سيرة النعمانية على كل لسان .. و الله ساعتها ما هيكفيني الا اني اشرب من دمهم الچوز..
هتف مناع محاولا امتصاص غضب سيده:- هتداوى يا عفيف بيه .. ربك هيدبرها ..
اندفع عفيف خارج الشقة و تبعه مناع بدوره و اغلق خلفه بابها و هو يشفق فى قرارة نفسه على حال سيده الذى وضعته اخته الصغري فى مأذق كهذا … كانت مدللته و اخته الوحيدة التى لم يكن يرفض لها طلبا و لو كان فى اقاصى الارض .. كيف تفعل به ذلك !؟.. كيف تضع رأسه في الطين و تجعل ذكره العطر مضغة فى افواه أسافل البشر ..
اندفع عفيف لداخل السيارة وتبعه مناع امام مقودها وهمس فى حذّر متقيا نوبة غضب سيده:- هنطلعوا على فين دلوجت يا عفيف بيه !؟.. ع النچع ..!؟
هتف عفيف فى اصرار:- لاااه .. مش راچع الا و معايا حد فيهم .. يا الباشمهندس و اختي .. ياخته الداكتورة عشان تبجى الطعم اللي يچيبه .. مش هعتب النچع الا و حد فيهم بيدي .. اطلع ع الفندج اللي بيتنا فيه عشية .. و ترچع انت على هنا تاني تجعد جدام العمارة .. و لو لمحت الداكتورة رچعت تكلمني ف ساعتها ..
هتف مناع مؤيدا:- حاضر يا عفيف بيه .. مش هايغمض لى چفن لحد ما ربنا يسهلها و ترچع ..
هتف عفيف و مناع يدير السيارة مبتعدا:- هترچع .. يعنى هتروح فين !؟.. و خصوصى انها جالت لى انها مسافرة بكرة و كانت محضرة شنطتها .. يعنى غصبا عنها هترچع ان مكنش عشان السفر ..هترچع عشان اخوها..
ابتسم ابتسامة صفراء عندما استشعر انه على حق .. و انها لامحالة عائدة من جديد الى شقتها و لن تستطيع ان تبتعد مهما حاولت ..
بكت دلال بدموع ساخنة و صديقتها زينب تقدم لها مشروبا ساخنا فى محاولة لتهدئة أعصابها المحترقة لوعة على اخيها الأصغر ..
هتفت دلال من بين دموعها:- مش عارفة اعمل ايه !؟.. قوليلى يا زينب .. اعمل ايه !؟.. بقى بزمتك نديم ممكن يعمل اللى بيقول عليه الراجل العجيب ده !؟.. انت تصدقى الكلام الأهبل ده على نديم!؟..
هزت زينب رأسها نفيا مؤكدة بثقة:- طبعا مش ممكن .. نديم ميعملش كده .. لا تربيته و لا اخلاقه تسمح له بانه يعمل الكلام المريب اللى قاله الراجل المجنون ده .. اهدى بس انت يا دلال و اكيد نديم هيظهر بين لحظة و التانية و نفهم منه ايه الحكاية ..
انتفضت دلال صارخة:- نفهم ايه يا زينب !؟.. هو الراجل ده هيسيبه اصلا لو ظهر !؟.. ده مش بعيد يقتله حتى من قبل ما يتكلم معاه و يعرف فين الحقيقة .. دوول شكلهم ناس مش بيتعاملوا الا بالسلاح .. و الدم أرخص حاجة عندهم .. يا حبيبى يا نديم .. يا ريتنى ما وافقت تتعين بعيد كده .. انا ايه اللى خلاني سبيتك تبعد عني !؟… اعمل ايه يا رب !؟.. اعمل ايه ..!؟.
لم تنطق زينب بحرف فلم يكن لديها ما تواس به صديقتها فقد كانت على حق بكل كلمة نطقتها و ما من هناك لحل لتلك المعضلة ..
مرت لحظات من الصمت لم يقطعها الا شهقات متقطعة صادرة من دلال على حال اخيها الذى لا تعلم مصيره حتى اللحظة الآنية ..
و اخيرا هتفت فى حزم:- انا هروح مع الراجل ده و اللى يحصل يحصل ..
انتفضت زينب مذعورة:- انتِ اتجننتى يا دلال !.. تروحى فين!؟.. تروحى بلاد بعيدة مع حد ما نعرف ان كان صالح و لا طالح!؟..او حتى ممكن يتعامل معاكى ازاى !؟ .. و لا يعمل فيكِ ايه !؟..ده جنان رسمى ..
هتفت دلال بقلة حيلة:- امال اعمل ايه !؟.. اسيبه لحد ما يوصل لنديم و يعمل فيه حاجة !؟.. اهو لو رحت معاه أكون موجودة لو حصل حاجة يمكن اقدر انقذ الموقف .. اهو أكون قريبة منه و اعرف اذا كان نديم وقع ف ايده و لا لأ .. يمكن ساعتها اقدر اتصرف .. اعمل اى حاجة يا زينب بدل ما اقعد كده حاطة أيدي على خدي مستنية خبر اخويا يجيلي ..
ربتت زينب على كتفها متعاطفة و هتفت فى إشفاق:- و الله ما عارفة اقولك ايه !؟.. ربنا معاكِ .. و ينتهي الموضوع ده على خير ..
انتفضت دلال فى اتجاه باب الشقة راحلة لتهتف زينب متعجبة:- على فين دلوقتى !؟.. استنى طب خدى نفسك .. انت ملحقتيش تستريحي م المشوار ..
هتفت دلال و قد كانت بالفعل تقف على اعتاب الشقة الخارجية:- مفيش وقت يا زينب .. لازم ارجع و حالا .. انا متأكدة ان اللى اسمه عفيف ده مستنيني .. لازم أخليه يرتاح انى بقيت ف ايده قبل ما نديم هو اللى يقع ف ايده و ساعتها معرفش ايه اللى ممكن يحصل .. دعواتك ..
هتفت زينب خلفها بعد ان اندفعت مبتعدة:- ربنا معاكِ .. و لو احتجتى اى حاجة اتصلى بيا .. و متقلقيش هبلغ اعتذارك حالا عن السفرية .. ربنا يسهل لك الحال ..
هتفت دلال مؤمنة:- اللهم امين ..
اشارت لأحدى عربات الأجرة لتستقلها عائدة الى حيث ذاك الذى تعلم تمام العلم انه بانتظار ظهورها.. و هاهى قادمة لتقدم له نفسها قربانا على طبق من فضة فداء لأخيها .. و ليكن ما يكون ..
كان القطار يتهادى مبتعدا عن محطة قنا وامامه اكثر من ثلاث عشرة ساعة سيقضيها يمخر عباب الطريق من قلب الصعيد حتى القاهرة و منها للأسكندرية .. كانت عيناه فى سبيلها للنعاس الذى جافاه بعد كل ما حدث عندما استيقظ بكامل وعيه مع صوت رئيس القطار مناديا رغبة فى الاطلاع على التذاكر ..
مد كفه بداخل سترته الثقيلة و أخرجهما ليهز رئيس القطار رأسه فى استحسان و يندفع متجها لأحد المقاعد الأخرى .. لاحت منه نظرة جانبية على محياها .. كانت قد راحت فى النوم منذ مدة قصيرة فقد جافاها النعاس بدورها .. فما حدث خلال الساعات الماضية يشيب له الوليد .. اشفق على حالها و هو يراها تضم ذراعيها حول جسدها رغبة فى بعض الدفء ..
نهض و خلع عنه سترته ووضعها برفق عليها و رغم انه حاول الا يوقظها بفعلته الا انها انتفضت فى ذعر متطلعة اليه فى شرود لدقيقة و اخيرا تذكرت ما حدث فدفعت سترته بعيدا فى رفق و بدأت الدموع تترقرق بمآقيها و استدارت تولي وجهها لنافذة القطار الزجاجية التى لمح دموعها الصامتة منعكسة على صفحتها .. تنهد فى قلة حيلة و ادار ظهره لها بدوره و هو يتساءل فى اضطراب و تيه .. هل ما فعله كان صحيحا !؟.. و هل كان عليه الهرب برفقتها !؟..
لم يجد نديم ما يجيب به على تساؤلاته التى شعر انها متأخرة بعض الشئ عن موعدها الطبيعى و المنطقى اناذاك غير زفرة قوية خرجت لاأراديا من اعماق صدره مؤكدة على كم المعاناة التى يرفل فيها عقله و مدى التيه الذى يسربل قلبه…
ما ان هم عفيف بوضع عصاه جانبا و شرع فى خلع عمامته حتى سمع رنين هاتف يلح فى طلبه .. اندفع ملبيا ليؤكد عليه عامل الفندق انها مكالمة لأجله .. جاءه صوت مناع هاتفا فى لهفة:- رچعت يا عفيف بيه .. الداكتورة اخت الباشمهندس توك راچعة ..
هتف عفيف فى عجالة:- طب خليك مطرحك .. و راجب مدخل العمارة و كمان خلى عينك على السلم الورانى اللى هربت منيه .. و انا چاى مسافة السكة .. سلام ..
اغلق عفيف الهاتف و اندفع يضع عمامته على عجالة و يجذب عصاه مندفعا للخارج ليلحق بها ..
لم يمر بعض الوقت الا و كان عفيف امام البناية من جديد .. اندفع باتجاه مناع متسائلا:- هااا .. خرچت و لا لساتها فوج !؟..
اكد مناع:- لاااه .. تخرچ فين و انا چاعد من ساعتها كيف الصجر !؟.. لساتها چوه ..
هتف عفيف امرا:- طب تعال وراي ..
اندفع عفيف بداخل البناية و خلفه مناع في عقبه كظله .. ما ان هم بطرق باب شقتها حتى وجدها تفتح فى هدوء و بجوارها حقيبة ملابسها التى كانت مشرعة منذ ساعات قليلة على فراشها و هى تقف فى ثبات هاتفة بنبرة حازمة:- انا جاهزة يا عفيف بيه ..
هتف و على شفتيه ابتسامة صفراء كرهتها من فورها:- كنت عارف انك هترچعي .. اتفضلى يا داكتورة..
مد مناع كفه متناولا حقيبتها حاملا إياها وهبط الدرج فى صمت لتغلق هى باب شقتها خلفها .. ليهبط عفيف الدرج بدوره و هى خلفه تتبعه فى هدوء ..
ما ان وصلا حتى العربة السوداء الفارهة حتى توقفت للحظة و عفيف يفتح بابها الخلفى هاتفا:- اتفضلي..
وقفت فى تيه للحظات لا تعلم هل ما تفعل فى صالح نديم !؟.. هل ذهابها سيكون رمانة الميزان التي ستحفظ التوازن عندما تحل الكارثة و يجده ذاك الرجل !؟.. ام انها تقدم نفسها الان كبلهاء على طبق من فضة كطعم لاصطياد اخيها ليقع بين براثن ذاك العفيف!؟..
تاهت فى خواطرها و نزاعات نفسها و لم تستفق الا على طلب عفيف هاتفا:- اتفضلي يا داكتورة اركبى !؟.. و لا غيرتي رأيك !؟..
كان ردها هو اندفاعها داخل العربة و قد سلمت امرها لله و استودعته نفسها و أخيها .. و ليقض الله امرا كان مفعولا .. مرت لحظات حتى انتفض قلبها بين صدرها و ازداد وجيبه عندما بدأت السيارة فى المسير لتبدأ رحلتها الى ارض لم تطأها اقدامها من قبل .. رحلة لا تعلم مداها و لا ما يخبئه لها القدر خلالها .. ألتقطت انفاسها فى عمق و تطلعت من النافذة فى اتجاه المجهول ..
↚
جلست باعتدال في المقعد الخلفي واختارت ان تجلس خلف مناع مباشرة اعتقادا منها انها بهذا الوضع ستكون ابعد له من كونها تجلس خلفه مباشرة لكنها لامت نفسها لانها ادركت انها أصبحت الأقرب اليه فى تلك اللحظة ..
هتف بهدوء و بنبرة واثقة من مقعده جوار مناع وهو يتحاشى النظر اليها و لم يستدر حتى برأسه الذي تعلوه عمامته الناصعة البياض و ذؤابتها التي تتدلى على كتفه تمنحه مظهرا أشبه بفرسان العرب قديما مؤكدا ومخرجا إياها من ذاك الخاطر العجيب الذى شوش مخيلتها للحظات لتنتبه لصوته الأجش:- يا داكتورة .. دلوجت محدش يعرف اى حاچة عن الموضوع بتاع اخوكِ دِه غير اتنين .. مناع و الحاچة وسيلة .. و دى هتجبليها لما نوصلوا بالسلامة .. و
هتفت بتعجل:- يا عفيف بيه .. مفكرتش للحظة انا هيبقى صفتى ايه هناك ..!؟.. انا هكون موجودة ف البلد قدام الناس على اي أساس!؟..
تجاهل عفيف الاستدارة لمواجهتها مجددا هاتفا فى هدوء:- لو صبر الجاتل ع المجتول يا داكتورة ..
هتفت بضيق:- قصدك ايه ..!؟..
هتف عفيف من جديد بهدوءه الذى يوترها و تجاهله لمواجهتها:- انا كنت لسه هسألك .. تخصص حضرتك ايه ..!؟..
هتفت و كأنه سأل بالفعل:- أمراض نسا و توليد ..
هتف في ثقة و كأنه يحدث زجاج السيارة الامامى المقابل له:- عز الطلب .. تاهت و لجيناها .. النچع محتاج داكتورة للحريم عشان انتِ اكيد عارفة الرچالة هناك مش بيرضوا يودوا حريمهم لداكتور راچل .. و انتِ چتيهم نچدة من السما ..
هتف مناع مؤكدا و هو ينظر لعفيف نظرة ذات مغزى:- كنها چت بوجتها يا بيه ..
استدارت دلال لحقيبتها الطبية التي تشاطرها المقعد الخلفى من السيارة و تنهدت براحة انها استمعت لندائها الداخلي و هي تهم بمغادرة الشقة لتتناولها معها وهي مغادرة للمجهول الذى لا تعرف ما يمكن ان يطالها من مواجهته و هتفت مستفسرة:- انتوا تقصدوا ايه !؟...
هتف عفيف و هو لايزل يتجاهل الاستدارة لموضعها:- اصلك انا كنت ناوي اني اچيب داكتورة للحريم ف النچع و اهااا كنها اتحلت على يدك يا داكتورة و دِه اللي هنجوله لأهل البلد .. انك الداكتورة اللي اتفجت معاها تاجي عشان الحريم و طبعا مفيش مكان ينفع للضيافة ف النچع كله اكتر من بيت النعماني الكَبير .. و دِه هايبجي سبب كافي عشان تشرفينا من غير ما اهل النچع يشوفوا وچودك ف البيت الكبير غريب .. حضرتك عارفة طبعا نظرة الناس ف البلاد دي بتبجى كيف !؟..
اومأت برأسها دون ان تجيب و اخيرا هتفت عندما ادركت انه لا ينظر اليها:- اه طبعا يا عفيف بيه .
ابتسم مناع ابتسامة واسعة و هو يهتف موجها حديثه لها:- انى مرتي حبلى .. و البركة فيكِ بجى يا داكتورة تتابعيها ..دى هاتبجى اول اللي هياجوكي ..
ثم استطرد متوسلا عندما لم يعقب عفيف بأى تعليق بل ألتزم الصمت المريب الذى يجيده و لا يتحدث الا للضرورة:- اه والله يا داكتورة .. دِه حضرتك ربنا بعتك ليها دي كانت هتموت النوبة اللى فاتت لولا ربنا نچاها ..
واستطرد في أمل:- و اهااا يمكن ربنا يكتب على يدك مچية الواد ..
هتفت مستفسرة بتعجب:- واد ..!؟.
فسر مناع:- اه .. نفسى ربنا يرزجني بواد .. اصلك أني عِندي بتين ..
صمتت و لم تعقب .. و تعجبت انه لازال ذاك الفكر العقيم يسيطر على الرؤوس هناك في تلك البلاد البعيدة التي حكى لها اخيها بعض من عاداتهم و تقاليدهم و نحن على مشارف الألفية الثانية .. و تعجبت اكثر ان اخيها لم يذكر و لو لمرة واحدة اسم عفيف بيه او اخته .. هى على يقين انه لم يفعل و لم يذكرهما في حديثه و لو مرة .. و الأعجب من ذلك انه قد تورط معهم بهذا الشكل .. لازالت لا تصدق انه فعلها ..
لكن هناك هاتف داخلها يخبرها ان ما قرأته بخطاب ناهد أخت عفيف حقيقي و لا يمت للعبث بصلة .. و ان اخيها متورط معهم حتى النخاع و هذا ما دفعها للانصياع لمطالب عفيف بلا قيد او شرط تاركة حياتها و كل ما يخصها خلف ظهرها مخافة ظهور اخيها في اى لحظة و حدوث ما لا يحمد عقباه .. عادت بنظرها لعفيف .. ألقت عليه نظرة خاطفة و اعادت نظرها مرة أخرى للنافذة جوارها و هي تشعر ان هؤلاء لا يمكن العبث معهم فيما يخص الكرامة و الشرف ..
عندها ازدردت ريقها في صعوبة و سرحت بناظريها بعيدا حيث ذاك الجبل الغربي على مرمى البصر يحتل امتداد الطريق يقترب تارة و يبتعد أخرى .. و لأول مرة شعرت بالخوف يزلزل أركان نفسها و هي تتجه لعالم اخر ابعد من مخيلتها .. لكن كل شيء يهون لأجل خاطر اخيها وسلامته ..
توقفت العربة بعد بضع ساعات امام احدى الاستراحات المنتشرة على الطريق .. هتف عفيف و هو يغض الطرف عنها متنحنحا فى ادب:- انزلي با داكتورة حركي رچلك شوية ..و تعالي نشربوا حاچة .. لساتها السكة طويلة ..
اكدت فى هدوء:- انا مش تعبانة يا عفيف بيه .. ولو كمت وقفت عشان خاطري انا كويسة .. يا ريت نمشي عشان زي ما بتقول حضرتك السكة لسه طويلة و ده معناه ان الليل هيدخل علينا و احنا ع الطريق ..
تنهد عفيف و ترجل من السيارة هاتفا:- براحتك يا داكتورة .. اني عن نفسي نازل …
ابتعد خطوات فى اتجاه الاستراحة و جلس على احدى الموائد الخشبية تحت مظلة ما عاد فى حاجة اليها و الوقت قارب على الغروب ..
شعرت انه كان على حق بعدما احست بتيبس في عضلات كتفيها و ظهرها .. كان عليها ان تستمع لنصيحته و تنزل عن السيارة قليلا.. مرت دقائق اخذت تنازع فيها تلك الرغبة .. و اخيرا دفعت باب السيارة و ترجلت منها في اتجاه طاولته ..
ابتسم في هدوء عندما رأها قادمة تجاهه وتعمد ان لا يشعرها بالحرج .. جلست على مائدته ولم يعقب هو بحرف .. لحظات و جاء النادل بكوب من الشاي .. ليهمس عفيف مخاطبا إياها:- تطلبى ايه يا داكتورة !؟..
تطلعت للنادل هاتفة متجاهلة اياه:- عايزة شاي بالنعناع لو سمحت ..
زفر عفيف فى ضيق و تطلع في الاتجاه المعاكس في حنق .. و ما ان ابتعد النادل حتى هتف معاتبا فى لهجة حاول ان يسيطر فيها على انفعاله:- يا داكتورة .. لما يبجى معاكِ راچل جاعد .. جوليله اللي انتِ عوزاه و هو يطلبهولك .. مش تكلمي انت الچرسون و لا كني ليا لازمة ف الچاعدة دي ..
هتفت بحنق:- يا عفيف بيه الكلام ده تقوله لواحدة تخصك .. لكن انا واحدة غريبة عنك لا اعرف عاداتكم و لا تقاليدكم و لا ايه المفروض او مش المفروض بالنسبة لك .. و لا يهمنى اعرفه بالمناسبة لأني هنا ف مهمة محددة و باذن الله تخلص على خير.. مش موجودة عشان تعلمني ايه اللى يصح او ميصحش من وجهة نظر سيادتك .. عن اذنك ..
و اندفعت فى اتجاه العربة و فتحت بابها و دلفت اليها و اغلقته خلفها فى عنف ..
لحظات و تبعها عفيف و تبعه مناع.. كانت هى تتطلع من النافذة لا تريد ان تلق بالا لمن دخل او خرج من السيارة كأن الامر لا يعنيها..
لحظات و خرجت العربة للطريق مرة اخرى .. تنحنح عفيف و هو يمد كفه ببعض الاكياس و كوبا كرتونيا من الشاي ..
هتف فى هدوء:- شايك اللى طلبتيه يا داكتورة .. و معاه شوية سندوتشات .. احنا مكلناش لجمة م الصبح .. اتفضلي ..
مدت كفها تتناول كوب الشاي و الاكياس هامسة فى تحذير للسانها ان يلزم الصمت و لا يسبق عقلها في العمل كعادته .. لأنها بالفعل تتضور جوعا وذاك الطعام جاء بالوقت المناسب و كوب الشاي ذاك هو الأثمن على الإطلاق لعله يهدئ و لو قليلا من ذاك الصداع الذى اكتنف رأسها ولا سبيل لعلاجه ..
تنبهت انه يتناول طعامه بالمثل و كذا مناع .. همست بنفسها .. جيد انه لم ينس سائقه .. هناك بعض من رحمة في قلب ذاك الرجل ..
مر بعض الوقت .. و الصمت هو اللغة السائدة داخل السيارة .. شعرت بالضجر يكاد يقتلها و الطريق حولها قد تحول للون قاتم جراء زحف الليل لتصبح العربة و كأنها تسير فى طريق من رماد لا نهاية له ..
تنبهت ان عفيف كان يسند رأسه للخلف مستندا على ظهر مقعده .. يبدو ان رأسه يمور بالأفكار كرأسها .. و ذاك الصمت يعد تربة خصبة للكثير من الخواطر و الشجون .. لكن اعتقادها كان خاطئا فما ان ترجرجت السيارة قليلا بفعل احد مطبات الطريق .. حتى انحرف وجهه باتجاهها لتدرك انه يغط فى نوم عميق ..
لا تعلم ما دهاها حتى تتفرس فى ملامح الرجل بهذا الشكل !؟.. جبهة عريضة تغطي الجزء الأكبر منها تلك العمامة لتنحدرعيناها الى حاجبين كقوسين فحميين يظللان عيون صارمة خبرت نظراتهما عدة مرات اليوم و كانت كافية و زيادة لتدرك ان تلك العيون هى عيون نظراتها امرة لا تقبل الا الطاعة .. انف شامخ .. ينحدر قليلا عند ارنبته ليظهر منخاران متوسطى الاتساع تشعر بأنفاسه من خلالهما عميقة قوية .. و دافئة..
يظهر اسفل منها شارب كث متناسق و مهذب يحتل منطقة ما فوق الشفاه العليا و يغطيها تماما .. و اخيرا فم واسع بعض الشئ .. و شفاه مكتنزة .. كان باختصار مثال حي لرجولة خشنة و ملامح لا تعرف اللين ..
ظلت على تأملها له للحظات اخرى وفجأة انتفضت موضعها عندما فتح عينيه بغتة متطلعا حوله فى تيه ..
أبعدت ناظريها عن محياه و حمدت ربها فى نفسها انه لم يدرك انها كانت تتأمله ..
سأل عفيف مناع بصوت متحشرج لايزل يغلب عليه النعاس مما جعلها تشعر فجأة بعدم الارتياح لذاك الشعور الذى استبد بها ما ان وصل لاسماعها:- لسه كَتير يا مناع..!؟
اكد مناع:- لاااه .. خلاص يا عفيف بيه .. جربنا ..
ادار وجهه مواجها لها هاتفا:- تلاجيكِ تعبتي يا داكتورة !؟.. معلش .. بلادنا بَعيدة ..
همست و هى تحاول ان لا تتقابل نظراتهما فهى لم تجمع أشتات نفسها بعد الذعر الذى سببه لها استيقاظه المفاجئ ذاك:- لا ابدا .. انا كويسة الحمد لله .. و بعدين دلوقتى نوصل و نستريح..
قالت كلماتها الاخيرة و هى لا تع هل حقا ستستريح ما ان تطأ اقدامها تلك الارض ام انها ستكون بداية المعاناة الحقيقة !؟.. ظل السؤال حائرا بلا اجابة و مناع يؤكد على وصولهم لحدود نجع النعماني .. ليبدأ قلبها فى الوجيب توترا و قلقا..
اطلق مناع نفير العربة عدة مرات و هو يمر من خلال بوابة قصيرة نسبيا من الحديد المفرغ كانت مفتوحة على مصرعيها .. سارت العربة صاعدة منحدر طويل ينتهى قرب باب خشبى ضخم اشبه بأبواب القلاع القديمة .. راحت تتطلع لما حولها فى تيه و هى غير قادرة على تبين ملامح المكان حولها في ذاك الظلام الذى يسربلهم وتنبهت من شرودها و عفيف يستدير ليفتح لها باب السيارة هاتفا في هدوء اعتادته:- اتفضلي يا داكتورة ..
خطت خارج العربة في وجل تشعر انها تخط أولى خطواتها تجاه مجهول لا تدرك كيف يمكنه التأثير على مجريات حياتها التي اعتقدت انها ستسير دوما في وتيرة واحدة ما بين عملها و بيتها و اخيها و لكن هاهى تكتشف الان ان الأمور لم تسر على ذاك النحو السلسل الذي كانت تتوقعه فما بين طرفة عين و انتباهتها وجدت نفسها في بلاد غريبة مع شخصيات اغرب لهم عادات و تقاليد لا تستوعبها و حياة اخيها الوحيد في خطر من جراء معاداتهم ..
انتقضت عندما وصل لمسامعها هتاف عفيف ربما للمرة الثالثة داعيا إياها لمغادرة السيارة ..
بالفعل ترجلت منها في بطء عجيب و كأنها تنوى التراجع و العودة من حيث أتت و لكن هل هذا ممكن ..!؟ ترى أين هو نديم اخوها في تلك اللحظة ..!؟.. و هل ناهد اخت عفيف بالفعل معه ..!؟..
وقفت في تردد تتطلع حولها بقلق و وقعت عيناها على ذاك البيت الذي يقف شامخا قبالتها .. لم يكن من الصعب حتى في ذاك الظلام تبينه كان بيت من البيوت القديمة يعلو لثلاث طوابق يغلب عليه الطابع الحجرى فله بعض الأيقونات و النقوش على بعض افاريز النوافذ و الشرفات جعله أشبه بقلعة قديمة من قلاع القرون الوسطى .. أين هي!؟.. تسألت في دهشة و هي تجول بناظريها حولها من جديد ..
كان عفيف مدركا تماما لحيرتها و توجسها لذا تركها و تمهلها قليلا حتى استعادت ناظريها ووجهتهما اليه من جديد ليهتف في هدوء مريب:- مرحب بيكِ يا داكتورة ف النعمانية .. اتفضلي ..
تقدمها خطوات لتتبعه و يتبعهما مناع حاملا حقيبتها الوحيدة التي استطاعت المجئ بها ..
دخلت خلفه لبهو الدار لتجده واسع رحب يحمل الكثير من المقاعد و الأرائك المريحة موزعة بشكل منسق على جميع الجوانب و في احد الجوانب يطل درج لابد و انه يقود للطابق الثانى ..
هل يعتقد انها ستبقى معه بنفس المنزل ..!؟
هل هذا من الجائز ..!؟.. انها لن تسمح بذلك... و ليكن ما يكون ..هو نفسه اشار لما يمكن ان يكون رد فعل اهل النجع من وجودهما معا تحت سقف بيت واحد ..
قطع استرسال افكارها دخول احدى النساء التي كانت تتلفح بالسواد من احد الأبواب الجانبية هاتفة في سعادة:- حمدالله بالسلامة يا ولدي .
اتجه اليها عفيف في تقدير يقبل هامتها القصيرة مقارنة ببنيته السامقة هاتفا:- كيفك يا خالة وسيلة!؟..
تسألت في نفسها:- خالة ..!؟.. كانت تعتقدها امه من حفاوة الترحيب ..و للمرة الأولى ترى ذاك النزق ينحني لأى من كان و هو يقبل رأس تلك العجوز في محبة و تقدير زاد من تعجبها ..
هتف بها عفيف بصوته الاجش الذى يثير رعبها لا تعرف لما و خاصة انها تحاول ابعاد ناظريها عن تفاحة أدم التي تعلو و تهبط عند تحدثه في منتصف رقبته:- دى بچى يا داكتورة الخالة وسيلة .. دى في مجام امى الله يرحمها .. هي اللى ربتنى انا و ناهد .. و غلاوتها من غلاوة امى بالمظبوط ..
ربتت الخالة وسيلة على كتفه بكفها المتغضن هاتفة في فخر:- ان شاء الله تعيش و تسلم يا ولدي .. زينة الشباب و نوارتهم .. و حمدالله بسلامتك يا داكتورة .. نورتينا ..
هتفت دلال بعفوية للمرأة العجوز الطيبة:- ده نورك يا خالة وسيلة ..
هتف عفيف من جديد و العجيب انه ابتسم هذه المرة و هو يسأل الخالة وسيلة:- ها محضرالنا ايه ع العشا يا خالة ..!؟.. مش عايزين الداكتورة تجول علينا بُخلة ..
شهقت المرأة العجوز هاتفة:- بيت الحچ النعمانى بُخلة !... دِه بيت الكرم و الچود كله .. هي ترتاح بس و هتشوف احلى اكل داجته ف حياتها من يدي ..
ابتسمت دلال في سعادة و قد ارتاحت لإستقبال المرأة العجوز و كرمها:- تسلمي و تعيشي يا خالة .. هنتعبك ..
هتفت الحاجة وسيلة و هي تستدير عائدة من نفس الباب الجانبى:- تعبك راحة يا بتي ..اروح اشوف اللي ع النار ..
عادت دلال لنفس الأفكار عن محل أقامتها و ما ان همت بمناقشة ذلك معه حتى رأته يعود ادراجه للخارج هاتفا و هو يتوجه يساراً و كأنه قرأ خواطرها مشيرا لها لتتبعه ..
سارا خطوات خارج باب الدار ليستديرا بعد خطوتين بالضبط و يتوقف فجأة امام باب اصغر حجما من باب الدار الواسعة المنقوشة بنقوش خشبية بارزة .. فتحه وأخذ جانبا ليدعوها للدخول في تأدب ..
ترددت قليلا و أخيرا دلفت للداخل تقف على بعد خطوتين من المدخل لتدع له الفرصة ليمر و يدوس احد الأزرار الموجودة على احد جانبي الباب ليسطع الضوء في المكان منيراً عتمته ..لتدرك ان حقيبتها وضعت هاهنا .. لابد و ان مناع يعرف أين سيكون موضعها بالضبط ليدرك أين يضع حقيبتها دون ان يدله احد ..
اندفع يضئ كل انوار الردهة في سرعة و يده تحفظ أماكن مكابس الإضاءة في مهارة لتتحول القاعة الداخلية التي تراها الان بعين خيالها قاعة بهو معد لحفل راقص من شدة الإضاءة مما دفعها لتجول بناظريها في ارجاء المكان بعين حالمة تشع رقة ..
هم بالحديث اليها لينتبه لشرودها و لتلك النظرة التي كللت عينيها ليلتقط أنفاسه في عمق متعجبا من تبدل نظراتها للنقيض بهذا الشكل .. منذ لحظات كانت نظرات تحفز و استعداد لقتال و الان نظرات حالمة تفيض رقة لمجرد رؤيتها لبهو ساطع بالإنوار ..
نفض تلك الأفكار المتمركزة حولها ليندفع هاتفا و هو يشير لبعض الأبواب المغلقة و الرواق الجانبي الطويل:- هنا هتلاجى المطبخ و الحمام بتاع الضيوف .. اصلك دي استراحة الضيوف اللي بناها الحاچ النعمانى الكبير عشان يبجوا براحتهم بعيد عن الدار و اللى فيه .. انت يمكن متعرفيش لسه عوايدنا .. على كد ما بنكرموا الضيف .. على كد ما الضيف له مكانه بعيد عن الدار و حريمه اللي مبينكشفوش على غريب ..
وتنحنح وهي تومئ برأسها متفهمة ليشير لباب اخر هاتفا:- دِه باب المجعد .. أوضة كبيرة فيها كراسي ممكن نفضوها و نجلبها أوضة للكشف .. و خصوصي ان ليها باب بيتفتح من بره و دِه هيسهل انها تبجى لحالها بعيد عن المضيفة و محدش يدخلها غيرك يا داكتورة ..
وأخيرا قال في تردد بعد ان عم الصمت للحظات:- اني عارف يا داكتورة ان اللي بيحصل دِه مش على هواكِ .. و صدجينى مهواش على هوايا .. لكن ما باليد حيلة ..
غير الموضوع فجأة ليهتف:- اي حاچة انتِ محتچاها عشان الكشوفات جولي عليها و انا اجيبهالك على طوول ..
تحرك في هدوء ووقف على عتبة الباب من جديد مستعدا للرحيل وهمس بصوت أجش:- اتفضلي يا داكتورة …
نظرت الى كفه الممدودة لها بمفتاح المضيفة متعجبة وهتفت بسخرية:- هتديني المفتاح .!؟.. مش خايف اهرب ..!؟..
نظر لها بثقة اغاظتها:- احنا مش خاطفينك يا داكتورة عشان تُهربي .. انتِ جيتى معايا بخُطرك .. و اكيد مش هتهربي لأنكِ هنا ف الأساس عشان خايفة على اخوكِ منينا .. يعنى انا لو جلت لك دلوجت امشي .. انتِ اللي هتجولي لاااه .. اما اطمن على اخويا هتعملوا معاه ايه ..
لم تعلق بحرف و ماذا يمكنها ان تقول و قد قال الحقيقة و أصاب كبدها بمجمل كلماته التي وصفت الحال التي هي عليها بالفعل ..
غير راغبة في البقاء ولا قدرة لديها على الرحيل..
مدت يدها لتتناول المفتاح من كفه الممدودة و تلك النظرة الواثقة مازالت تكلل عينيه و التي جعلتها تود لو تحيد عنها ناظريها و لكنها ابت حتى لا يستشعر ضعفها ..
تمنت لو انه يكف عنها و خاصة لانها توترها و تدفعها لتشعر بمزيد من الغيظ و القهر ..
خرج في هدوء و أغلق الباب خلفه لتندفع هي في سرعة لتغلق الباب بالمفتاح عدة مرات سمعها و هو يغادر لتضيق عيناه على تلك النظرة التي تمقتها ويبتسم وهو يلقي بنظرة أخيرة الى باب المضيفة و يغادر..
اما هي فقد أسندت ظهرها على الباب الذى أغلقته للتو وهي تلتقط أنفاسها في تسارع من شدة توترها .. فهى ستكون وحيدة في هذا المكان مع أناس لا تعرفهم و لا تدرك كيفية التعامل معهم .. تطلعت من جديد حولها لذاك البهو الواسع الأنيق رغم قدم الأثاث المستخدم الا انه لا يخل من ذوق و فخامة و طالعها ذاك الدرج في اخر الرواق لتدرك ان غرف النوم بالأعلى .. فلابد ان تلك المضيفة مقامة على نفس طراز الدار الأساسية الملحقة به ..
حملت حقيبتها التي لم تكن بالثقيلة على الإطلاق .. و صعدت الدرج في تمهل تنظر بترقب للأعلى و هي تصعد الدرجات في حرص حتى وصلت لرواق طويل يبدو انه يحوى عدة غرف لم تتبين في الظلام عدد الأبواب التي تراها على جانبيه ..
لم تكن تملك الترف في تلك اللحظة و قد وصل بها الإنهاك و التعب لمبلغ شَديد ان تبحث في الغرف عن أجملها او أفضلها لذا فتحت اول الأبواب التي طالعتها و دخلت تتحسس الجدار حتى تجد زر الإضاءة الذى لمسته أخيرا لتسطع الغرفة لتدخل و تفتح النوافذ و تلك الشرفة الوحيدة بها ليطالعها منظرا جانبيا للحديقة الخلفية المحيطة بالدار وعلى مدد البصر لم تتبين الا بعض أعمدة الإنارة المتفرقة هنا و هناك ..
لا تعرف كم ظلت تقف تتطلع الى الظلام و تخيلت مصابيح الإنارة البعيدة ترقص جعلها ذاك الخاطر ترتجف و هي تتخيلها رؤوس اشباح تطل على القرية الناعسة التي تعمها العتمة في تلك اللحظة مما جعلها تنتفض و تدخل إلي الغرفة مغلقة الشرفة بإحكام ..
هي تدرك ان لياليها في تلك المضيفة لن تمر بسلام .. بل ستكون أطول مما تتخيل ..
لقد كانت تموت رعبا و هي وحيدة في شقتها عندما غادر اخوها لعمله هنا .. و كم ظلت مستيقظة الليل بطوله حتى اعتادت أخيرا على عدم وجوده و استطاعت التكيف مع شقتها ووحدتها فيها ..
الان كيف يمكنها التكيف على العيش و المبيت في مثل تلك المضيفة الواسعة وحيدة ..!؟..
ان الأيام و الليالي القادمة لن تكون من السهولة ابدا بأى حال من الأحوال ..
و همست و هي تحتضن جسدها بكفيها في محاولة لبث الطمأنينة داخلها لعلها تهدأ:- يا ترى انت فين يا نديم ..!؟.. سؤال ما كان له اجابة تريح اوجاع روحها ..
دس صديق نديم مفتاح شقته بكفه و هما واقفين بالقرب من ناهد التي كانت تنتظره تحت ظل احدى الأشجار على مقربة منهما ..
تطلع صديق نديم لها ببعض النظرات المتفحصة التي دفعت نديم للغضب هاتفا فيه بحزم:- سمير .. ركز معايا هنا ..
هتف سمير باستحسان:- مكنتش اعرف ان ذوقك عالي كده .. طلعت..
قاطعه نديم هاتفا بغضب حقيقي و هو يدفع بسمير مبتعدا عن مجال ناهد حتى لا يصلها صوتهما .. و هتف و هو يجز على اسنانه في غيظ:- انت فاكر ايه ..!؟.. دى مراتى يا بنى آدم ..
هتف سمير مندهشا:- مراتك ..!؟.. انا أسف يا نديم ..مقلتش ليه كده من الأول !..
ثم استطرد متصنعا الحزن:- و بعدين تعال هنا.. اتجوزت امتى و ازاى و انا معرفش و لا تعزمنى كأنى مش صاحبك ..!..
تنهد نديم في ضيق:- و الله الموضوع جه بسرعة يا سمير و فيه شوية أمور كده ملخبطة .. المهم .. انت هتحتاج الشقة امتى !.
صمت سمير للحظة مفكرا ثم هتف:- يعنى مش قبل أسبوعين .. انت عارف احنا شتا دلوقتى و الشقة ف إسكندرية ملهاش مطلب الا ف الصيف .. بس ربنا يهدي ابويا عشان ده من عشاق إسكندرية ف الشتا .. ربنا يجعل كلامنا خفيف عليه ..
ابتسم نديم و هو يدس المفتاح في جيب بنطاله هاتفا و هو يمد يده مودعا سمير:- متشكر يا سمير .. ربنا يقدرنى على رد جمايلك ..
هتف سمير موبخا:- جمايل ايه يا راجل ..!؟.. هو في بين الأخوات جمايل .. ياللاه روح لعروستك شكلها زهقت من الوقفة و الدنيا برد الصراحة ..
ألقى نديم نظرة عابرة على ناهد فتيقن من صدق سمير ليودعه و يلتفت متوجها اليها حاملا حقيبتهما..
همس بصوت رتيب:- أسف اتاخرت عليكِ .. اتفضلي .. الشقة مفتاحها معايا .. ياللاه بينا ..
اومأت ناهد برأسها إيجابا و سارت خلفه دون ان تعقب بكلمة و كل ما برأسها هو اخوها عفيف .. كيف استقبل خبر هروبها بهذا الشكل..!؟.. و كيف تصرف حيال ذلك ..!؟.. أغمضت عينيها رعبا و هي تتخيل مجرد تخيل ما سيكون عليه حاله ما ان يعلم بالأمر .. فكيف سيكون حالها و هي تقف أمامه مذنبة و متسربلة في خطيئتها ما ان يجدهما .. فهل تراه يفعل و يعثر عليهما ..!؟.. انتفضت عندما وصل بها الامر لهذا المنحى .. و استفاقت على صوت نديم هاتفا:- اتفضلي .. وصلنا ..
خطت اعتاب البناية الشاهقة المقابلة للبحر و الهادئة في تلك الفترة من العام حتى تظن انه لا يسكنها مخلوق .. و ارتعشت عندما أدار نديم المفتاح في موضعه ليهمس لها مشيرا لداخل شقة سمير:- اتفضلي..
دخلت بأرجل مرتجفة و هي لا تعلم الى اى شاطئ مجهول سيرسو بها قارب أيامها...
كان التعب قد بلغ منها مبلغا عظيما و هي تضع جسدها على طرف الفراش راغبة ف البقاء ممددة قليلا لعلها تُهدئ من ألام ظهرها التي انتابتها جراء ذاك السفر الطويل بالسيارة على الطريق الذي كان في في بعض الأوقات غير ممهد ..
لكنها لم تشعر الا و هي تنتفض غارقة في هزيانها .. تلفتت حولها لتتأكد ان ما رأته ما هو الا حلم او بالأحرى كابوس وولى هاربا ما ان فتحت عيونها بانتفاضة .. و ها هي تنتفض من جديد عندما طالعها ذاك الشبح الأسود قادما اليها من الباب و الذى اخيراً تبينته لتستكين روحها متنهدة .. لكن ضربات قلبها التي كانت تصم آذانها في تلك اللحظة لازالت على علوها فزعا ..
دخلت الخالة وسيلة بردائها الأسود الذى ارعبها بعد ذاك الكابوس العجيب لتهتف وهي تتطلع حولها في اضطراب:- يا بتي ..!؟.. ايه اللي دخلك الأوضة دي !؟... ما الأوض عِندك كَتير ..
تطلعت اليها دلال في تعجب متسائلة:- ليه يا خالة ..!؟.. هي الاوضة دي فيها ايه ..!؟..
تنبهت الخالة وسيلة أنها افضت بأزيد من المفترض فهتفت متعجلة بصدمة:- مفيهاش يا بتي ..هيكون فيها ايه يعني ..!؟.. هي بس ريحها تجيل .. و مش هاترتاحي فيها ..
و مدت كفها لملاءات السرير النظيفة التي كانت قد احضرتها معها و وضعتها جانبا ما ان دخلت الغرفة لتهتف بدلال متعجلة:- جومي يا داكتورة اختارلكِ أوضة تريحك .. تعالي معاي ..
مدت دلال كفها لحقيبتها تحملها في استكانة طائعة لاوامر المرأة العجوز لتخرج من الغرفة لتضغط المرأة ذر إطفاء النور على عجل و تغلق الباب خلفها وهي تتمتم ببعض الكلمات التي لم تتناهى كاملة الي مسامع دلال و لم تستوضح حروفها للأسف ..
توقفت المرأة العجوز عند اخر حجرة في الرواق لتفتحها متنهدة في راحة هاتفة:- الأوضة دى هتعچبك و هتستريحي فيها و كمان طالة على الدار كله .. و الباب اللي جارها دِه باب مكتب عفيف بيه ..
هتفت دلال بتعجب:- مكتب .. !؟..
اكدت الخالة وسيلة في حماس:- اه ..معلوم مكتب .. بياجيه الناس اللي عيشتغل معاهم و يجابلهم فيه ..و بيدخلوا من هنا .. هو عمره مدخل حد غريب البيت الكَبير .. الأغراب دايما بيچبهم على هنا طوالي و أكلهم و نومتهم هنا و لما يحب يجابلهم و يتحدتوا ف اشغالهم بيجوه ع المكتب من الباب دِه ..
اصلك النعمانى الكبير كان عايش ف المندرة دي جبل ما يبني البيت الكَبير و لما بناه عِمل بابين مفتوحين على المُندرة باب المكتب دِه والباب التانى باب المطبخ تحت .. يعنى ف اى وجت عايزة تاجينى سهلة اهااا ..
ابتسمت دلال للمرأة الطيبة التي استشعرت معها حنان امومي افتقدته منذ رحلت أمها عند دنيانا .
تذكرت المرأة لما جاءت من الأساس لتهتف و هي تضرب كفا بكف:- واااه يا وسيلة كنك كبرتي و خرفتي يا حزينة .. متأخذنيش يا بتى .. اني چاية أجولك عفيف بيه مستنيكِ ع العشا وجالى اجولك اتفضلي ..
همست دلال و هي تتثاءب في كسل و إرهاق واضح:- اشكريه يا خالة .. بس بجد انا مش قادرة انا بس عايزة انام و مليش نفس اكل ..
هتفت وسيلة في تعجب:- كيف دِه.!؟.. تنامي كيف من غير عشا ف البرد !؟ .. الچوع يجرصك ف الليل ماتعرفيش تنامى و لا تدفي .. جومى يا بتى ياللاه ..هِمي ..
تنهدت دلال و هي على يقين انها لن تستطع إقناع الحاجة وسيلة بما ترغب و لن تثنها عن تنفيذ أوامر عفيف بيه في الإتيان بها و لو محمولة على الأعناق من اجل العشاء المقدس في حضرته ..
↚
سارت خلف الحاجة وسيلة و كل خلية من خلاياها تكاد تهتف برغبتها في الراحة و النوم.. فقد مر على اخر مرة نامت فيها بعمق ما يقارب الثلاث ليال منذ جاءها ترشيح سفرها و هي تدور حول نفسها توترا لتنجز اكبر قدر من أعمالها المؤجلة و تنظيم مواعيدها و حقيبة سفرها قبل الموعد المحدد و أخيرا جاء ذاك الخبر القاصم للظهر بظهور عفيف على عتبة دارها يخبرها بفعلة اخيها لتسرع بالاعتذار عن سفرها لظروف طارئة و تأتي لتلك البلاد البعيدة التي ما وطأتها قدماها من قبل في سبيل إنقاذ ما يمكن إنقاذه مع ذاك الذى يدعوها للعشاء على مائدة داره في تلك اللحظة ..
وصلت لتلقى التحية في شرود و جلست على طاولة الطعام التي تتسع لعدد كبير من الأفراد .. و وجدت عليها ما لذ و طاب من أصناف الطعام التي يسيل لها اللعاب .. لكن هي لا ترى أمامها الان الا دفء الفراش و دثاره ..
كما ان طعام كهذا كفيل بإصابتها بالعديد من الكوابيس لسوء الهضم و هي اكتفت الليلة من نصيبها من الكوابيس بعد ذاك الذى رأته في اول تلك الليلة الميمونة .. تطلع اليها عفيف بتعجب هاتفا:- ايه يا داكتورة .. اكلنا مش عاچبك و لا ايه ..!؟.. نجيبوا لك غيره ..!؟
هتفت هي في رفض:- لااا .. غيره ايه ..!.. ده جميل جدااا تسلم أيد الخالة وسيلة .. بس انا مش متعودة ع الاكل ده بالليل .. فمعلش اعفينى و استأذنك ارجع المندرة ..
نفض يده من طعامه الذى كان يلتهمه بشهية كبيرة و نهض على عجل هاتفا:- اتفضلى يا داكتورة .. أوصلك ..
هتفت دلال بإحراج:- لااا .. خلي حضرتك مرتاح انا عرفت طريقي ..متقلقش ..
هتف بأريحية:- على راحتك يا داكتورة .. دِه بيتك ..
ثم نادى الخالة وسيلة بصوت جهورى جعل دلال تنتفض لتظهر الخالة بسرعة كعادتها ليؤكد عليها هاتفا:- من دلوجت و طالع هتبجي مع الداكتورة ف المُندرة لو احتاچت اى حاچة تاجي جواام .. و تخليكِ بايتة معاها كل ليلة عشان متبيتش لحالها .. و اذا كان على كمال لما يرچع من مدرسته هايبجى معاي متجلجيش ..
سألت دلال بتهور دون تفكير اوعزته لتشوشها نتيجة رغبتها الملحة في النوم و الراحة:- مين كمال ..!؟..
لم يجبها احدهما للوهلة الأولى لكن الخالة وسيلة إجابتها:- دِه واد ولدي يا بتي .. هو اللي بجيلي من ريحته ..الله يرحمه
صمت عم المكان و لكن الخالة وسيلة اومأت برأسها موافقة على كل حرف نطق به عفيف دون ان تعقب بينما شكرته دلال داخليا في امتنان خاصة بعد ان امر الخالة وسيلة بمصاحبتها في المبيت .. الان فقط ستنام ملأ جفونها .. و ستحظى بنوم هانئ بعد ما حدث معها اول الليل في تلك الغرفة العجيبة التي دخلتها صدفة و لا تعرف هل كانت كوابيسها داخلها صدفة أيضا ..
استيقظت من نومها على صوت طرقات و ضوضاء تأتى من أسفل حجرتها مباشرة .. تنبهت انها نامت لفترة طويلة اكثر من المعتاد .. اطلت برأسها خارج أسوار شرفة غرفتها لتجد بعض من الرجال يحملون تلك المقاعد التي كانت موجودة في غرفة الجلوس او المقعد كما اطلق عليه عفيف بيه أمس يبدو انه يعمل على ترتيب تلك الغرفة لتليق بغرفة للكشف كما اخبرها البارحة .. ارتدت ملابسها على عجل و توجهت للأسفل ليقابلها هو بنظرته الغامضة و الواثقة دوما ..
تطلع للحظات لمحياها و هي تهبط الدرج في هوادة كأميرة متوجة و لكنه تنبه لنفسه فعاد يغض الطرف عنها حتى وصلت و ألقت التحية في ثبات هاتفة:- شايفة ان حضرتك بدأت بدرى .. و بتجهز الأوضة للكشف كمان ..
هتف عفيف مؤكدا وهو يتجاهل النظر اليها معطيا جل اهتمامه للعمال وعملهم:- اه .. جلت خير البر عاچله و اهو نشوف ناجصك ايه يا داكتورة عشان نچيبوه ..
ابتسمت في هدوء:- تمام .. انا هكتب لحضرتك أسماء الأجهزة و المعدات الطبية المطلوبة و بإذن الله أفيد البلد الفترة اللى قعداها معاكم ..
و صمتت فجأة لتهتف في وجل:- مفيش اخبار عن نديم يا عفيف بيه!؟..
تنهد في ضيق هامساً:- لو فيه اخبار حضرتك اول واحدة هتعرفيها .. بس مفيش .. حتى مهوبش ناحية شجتكم اللي ف مصر..
تنبهت لتسأل متعجبة:- و عرفت ازاى ..!؟..
أخيرا استدار لمواجهتها في ثقة تثير غيظها:- انى سايب اللى يتابع شجتكم هناك لانه اكيد هيلف و يرچع لها مهما بعد .. هو هيلاجي مين يوجف چنبه الا اخته .. و لما يعرف انك هنا .. هاياجى چرى على ملا وشه .. معلوم ..مش معجول يسيب اخته تدفع تمن غلطته السودا لحالها ..
هتفت دلال ساخرة:- و افرض عرف و مجاش .. هتعمل ايه ساعتها ..!؟..
ظهرت ابتسامة ساخرة على جانب فمه ثم هتف واثقاً:- مياچيش كيف يا داكتورة ..!؟.. لو بيعزك و بيخاف عليكِ كد ما بتعزيه و خايفة عليه .. يبجى هاياچي وهو بيرمح كمان..
تنهدت في ضيق وهي متأكدة ان كل كلمة نطق بها عفيف هي صحيحة تماما و ان أخيها لن يتورع عن المجئ الى عرين الأسد بقدميه متى علم انها هنا وانه قد تم استغلالها من اجل البوح بمكانه الذى لا تعرفه بالفعل ..
نظرت اليه بغيظ و هي تكاد تنفجر قهرا من كم الثقة الذى يعترى كل حرف ينطق به .. يا له من مسيطر ..!.. لا عجب من هروب اخته بعيدا عن سيطرته الخانقة و نظراته الواثقة حد الغرور و التي تخبر الجميع انه على علم بمجريات الأمور و كيف يمكن ان تسير على افضل وجه دون تدخل احدهم .. و أخيرا تنهدت و همست برجاء داخلي متضرعة:- ليتك لا تظهر يا نديم و لا تقرب الشقة مهما حدث فأنا قد احتمل ما يمكن ان يحدث لى هنا و لو بقيت مائة عام و لن احتمل ان يصيبك مكروه مهما كان من هؤلاء القوم و الذين على ما يبدو ليس لديهم اى عزيز او غالي يبقون عليه .. و على الرغم من غيظها و ضيقها من ناهد اخت عفيف والتي هى سبب هذا البلاء الذى حل بأخيها الا انها شعرت ببعض الشفقة تجاهها فماذا سيكون مصيرها اذا ما وقعت هى الأخرى بين يدى عفيف و رجاله و الذى ينتظر ظهورهما بفارغ الصبر حتى ينقذ شرف عائلته !؟..
تنبهت من خواطرها على نداء عفيف هاتفا:- الاوضة چهزت يا داكتورة ادخلي شوفيها لو ناجصها حاچة ..
اومأت برأسها و على شفتيها ابتسامة باهتة بقلب منقبض خوفا على اخيها الغائب الذى لا تدرك له مكان او ملجأ يمكن ان تستنتج انه لجأ اليه...ثم ردت بكلمات مقتضبة و توجهت حيث تركت حقيبتها الطبية على احدى المناضد لتتناولها رغبة في فتحها و التأكد ان الأجهزة الأولية التي ستحتاجها داخل الحقيبة بالفعل ..
حاولت مرارا و تكرارا ان تفتح الحقيبة لكنها ابت ان تُفتح ..
ليدرك عفيف حيرتها ليهتف في تساؤل:- خير يا داكتورة .. الشنطة مالها ..!؟..
تناولها منها رغبة في فتحها لكنها رفضت ان تبوح بسر مكنوناتها لأى منهما.. لذا هتف عفيف لأحد رجاله الذى لبى على الفور ليأمره هاتفا:- روح چيب الواد خرابة طوالى على هنا ..
اندفع الرجل ملبيا الامر على وجه السرعة لتهتف دلال بشك:- هو خرابة ده اللى المفروض انه يصلح الشنطة حضرتك ..!؟..
قفزت ابتسامة على شفتيّ عفيف لتعليقها الملئ بالسخرية على اسم خرابة و مدى تناقضه مع اي إصلاح يمكن ان يأتي من قبله ..
ليهتف مؤكداً و قد تنبهت ان تلك الابتسامة المتوارية قد غيرت في ملامحه الكثير:- متخافيش يا داكتورة .. دِه واد چن .. هيفتح الشنطة ف لحظة و من غير ما ياچى چنبها او يخربها.. متجلجيش..
ابتسمت ساخرة:- لا طبعا .. أخاف ازاى و انا خرابة بذات نفسه اللي هيفتح لى الشنطة ..!؟..ده انا طايرة من الفرحة ..
استدار مبتعدا تكلل شفتيه الابتسامة على الرغم انه يعلم انها تسخر من ذاك الشخص الذى ما تعاملت معه حتى لتحكم على قدراته لكنه لم يجادلها بل انتظر في صبر حتى ظهر خرابة على باب المندرة و معه ذاك الرجل الذى بعثه لاحضاره و الذى اختفى ما ان أتم مهمته ليندفع خرابة لداخل المندرة في اتجاه عفيف بيه يود لو يقبل كفه ليجذبها عفيف في صرامة و نبرة عاتبة لذاك الشاب الذى تعجبت انه صغير بالسن وهي التي ظنته رجل كبير و مخضرم في التعامل مع تلك النوعية من الحقائب الغالية الثمن و القيمة..
و شعرت بالضيق لاندفاع الشاب باتجاه كف عفيف الذى كان قابضا كعادته على عصاه العسلية اللون المعقوفة الهامة .. و تطلعت بغضب لذاك الذى كان ينحنى امام عفيف ليقدم له فروض الولاء و الطاعة .. هل هذا مفترض في بلد كهذه ..!؟.. هل هذا من عاداتهم و تقاليدهم ..!؟. ام انه خوف و رغبة في مداهنة الأقوى حتى يستطيع ان يعيش بسلام ..!؟..
تنبهت لصوت عفيف الآمر:- اديله الشنطة يا داكتورة متخافيش ..
تعلقت قليلا بحقيبتها ثم مررتها لخرابة و هي تستشعر ان حقيبتها لن تعود كسابق عهدها ابدا و ربما تعود قطعة من الخردة لا نفع منها من بين يدى خرابة ..كم شعرت بالأسى لذاك فتلك الحقيبة عزيزة على قلبها و لها ذكرى خاصة لديها فهى من رائحة ابيها الراحل ..
تناول خرابة الحقيبة و كأنه يتناول قنبلة على وشك الانفجار .. عاملها بإجلال واضح و هو يضعها على فخذيه عابثا بأقفالها ليهتف عفيف فيه مشجعاً:- ها يا خرابة .. هتعرف تفتحها !؟.. و لا هتخربها.. و تكسفنا جدام الداكتورة !؟ ..
ما ان انهى عفيف كلمته حتى أطلقت الحقيبة صوت مميز لتكات متتابعة دلالة على انصياعها لتُفتح على يد خرابة الذى جعلتها مهارته تفغر فاها في دهشة و عدم تصديق انه فعلها ..
ابتسم عفيف في سعادة و هو يربت على كتف خرابة الذى انتشى بفعل انتصاره على اقفال الحقيبة التي ما قاومت غزوه لها اكثر من لحظات..
تناولت دلال الحقيبة و بدأت في التطلع لمحتوياتها ليهتف عفيف رابتا على كتف خرابة الذى هم بالنهوض منصرفاً .. ليشيعه عفيف بنظرة استحسان و كلمات مبهمة لم تستطع دلال تبينها ..
هتفت دلال لعفيف:- خسارة الولد ده .. لو كان اتعلَّم .. كانت هتفرق كتير اكيد ..
همهم عفيف هامسا:- كل واحد بياخد نصيبه ..و الحمد لله ان نصيبه چه على كد كِده ..
لترد الكلمة خلفه بوجل:- صدقت .. كل واحد بياخد نصيبه ..
نعم .. كل منا ينال نصيبه من أرزاق الله كافيا ووافيا و لا يعلم كيف يأتيه النصيب و لا متى يأتي.. كل ما يدركه المرء ان نصيبه الذى قسمه الله له سيدركه كالموت لا فرار منه …
صرخة دوت في جوف الليل كانت كافية لانتزاع نديم من قلب فراشه مندفعاً لحجرة ناهد دون ان يطرق بابها ليجدها لازالت تصرخ مشوشة الفكر:- لااه .. مش انا يا عفيف .. انا اختك .. مش انا ..
جلس نديم على طرف فراشها يهز كتفيها حتى تستفيق لكن نظراتها الملتاعة كانت وكأنها ترى اخيها أمامها الان واقفا يتوعدها حيث تتسمر نظراتها وتهتف صارخة بأسمه ..
هزها نديم من جديد لعلها تصحو من ذاك الكابوس المسيطر عليها بهذا الشكل و المتكرر منذ ايّام ..
هتف فيها رغبة في إيقاظها:- اهدي يا ناهد .. اهدي .. ده مجرد كابوس .. انا نديم .. انا معاكِ متخافيش ..
لحظات من الشرود و التيه مرت و هي لا تجبه و أخيرا بدأت في البكاء عندما تيقنت ان ما رأته لتوها لم يكن الا كابوسها المعتاد منذ غادرت النجع و تركت كل ما يتعلق بحياتها السابقة خلف ظهرها حتى اخيها الوحيد الذى لا تحب مخلوق على الأرض بقدر حبها له ..
أشفق نديم عليها و هي على هذه الحالة من الضعف و الهشاشة .. فما مر بهما الأيام الماضية لم يكن سهل على الإطلاق على فتاة مدللة و رقيقة كناهد .. مد كفه ليناولها كوب الماء من الطاولة القريبة ..
امرها في هدوء وهو يقرب منها الكوب:- خدى اشربي .. هاتبقى احسن ..
دفعت الكوب بعيدا في غضب ناري صارخة و هي تنهض من فراشها دافعة الغطاء عنها غير مدركة انها تقف أمامه الان برداء نومها و بلا اى غطاء لشعرها الذى كان يسافر على كتفيها في غضب لا يقل عن غضب صاحبته:- انا مش عايزة أشرب .. انا مش عايزة حاچة .. انا عايزة اخوى .. عايزة عفيف ..
و انفجرت ثانية في بكاء يدمي القلب ولَم يكن بوسعه ما يقدمه في تلك اللحظة الا النهوض في هدوء و الرحيل خارج الغرفة تاركاً إياها لعلها تهدأ بعد قليل و تدرك انه لا يقل عنها حزنا و حرماناً .. و انه شريكها في نفس المركب .. مركب الضياع التي كتبها عليهما القدر ...
استعدت دلال للنوم و ما ان همت بوضع نفسها تحت غطاء فراشها حتى سمعت طرقات خافتة على باب حجرتها عرفت انها للخالة وسيلة فهتفت:- اتفضلى يا خالة ..
دخلت وسيلة و على وجهها تلك الابتسامة الوديعة المحببة و ما ان همت بالتوجه لفراشها في احد جوانب الغرفة حتى ابتدرتها دلال هاتفة:- تعالي جنبي يا خالة احكي معايا شوية لحد ما اروح ف النوم .
ابتسمت الخالة وسيلة و اتجهت لتجلس بالجانب الاخر من الفراش حيث اشارت دلال لتتدثر بالغطاء اتقاءً للبرد القارص في تلك الفترة من الشتاء هامسة وهي تربت على جبين دلال بحنان دافق استلذته الاخيرة و هي تتذكر حنان أمها و طيبة ابيها لتجده متمثلا في تلك المرأة التي انفتحت لها ابواب قلبها على مصرعيها ما ان طالعتها منذ اللحظة الأولى التي وطأت فيها قدماها ارض النعمانية .. كانت تعتقد انها ستعاملها بجفاء و قلة اهتمام نظرا لمعرفتها بما حدث من اخيها لكن على العكس تماما كان تعاملها بكل حنان و ود و هذا ما اثار تعجب دلال و جعلها تسأل مستفسرة:- مقلتليش يا خالة ..
تنبهت حواس وسيلة لتجيب على ما تسأله دلال التي استطردت:- انتِ ازاى بتعملينى كويس قووى كده على الرغم من انك عارفة اللي حصل من اخويا و حكايته مع ناهد اخت عفيف بيه ..!؟..
تنهدت الخالة وسيلة و هي تملس على شعر دلال برقة هامسة:- أجولك الحج يا بتي ..اني مكنتش هديكى وش و لا كنت عايزة أعرفك م الأساس .. كفاية اللي عِمله اخوكِ .. لكن عفيف بيه كان محرچ علىّ اني أعملك زين .. و مضايجكيش و لا افتح معاكِ سيرة الموضوع دِه من اصله .. و ان چيتى للحج اني كمان اول ما اطلعت لكِ .. جلبي انفتح لك و جلت ذنبها ايه في اللي حصل من اخوها و ناهد ..
همست دلال بشجن:- بس نديم اخويا مش ممكن يعمل كده يا خالة..
همست الخالة وسيلة متنهدة:- و مين كان يجول إن ناهد بت النعمانى و اخت عفيف بيه تِعمل كِده ..!؟..
تنهدت دلال بدورها و همست بفضول:- بس إنتوا هنا بتسمعوا قووى لكلام عفيف بيه و محدش يقدر يكسر له كلمة . ..
واستطردت دلال ساخرة:- ده و لا الحاكم بأمره .. ده إنتوا شوية و تتنفسوا بإذنه ..
هتفت الخالة وسيلة من جديد:- معلوم يا بتي .. مش كبيرنا .. و امره و طاعته واچبة ..
هتفت دلال:- بس يعنى عفيف بيه مش كبير ف السن كده عشان يبقى كبير النعمانية .. ده سنه ميتعداش ال٣٥ سنة ..
هتفت الخالة وسيلة:- و من ميتا هي بالسن يا بتي ..!.. كفاية جوى انه يبجى حفيد النعماني الكَبير عشان يبجى ليه الامر والطاعة ..
تعجبت دلال:- يا سلااام ..!.. للدرجة دى ..!..
هتفت الخالة وسيلة مؤكدة:- معلوم .. اصلك انتِ متعرفيش يعنى ايه النعماني الكَبير .. النعماني چد عفيف بيه دِه .. هو اللي بنى النعمانية دي بيده .. يوم ما نزل أرضها و هي كيف ما انتِ واعية ف حضن الچبل .. الناس جالوا عليه مچنون .. رايح ف حضن الچبل يزرع و يجلع و الأرض عنديه براح .. لكن هو مهموش و عِمل اللى براسه و اول ما بنى .. بنى المُندرة دي .. كان عايش فيها جبل البيت الكَبير .. و اتچوز هنا .. و خلف ولاده كلهم .. لحد ما راحت مرته الست الكبيرة و هي بتولد واحد من عياله .. عاش بعدها كيف الرهبان .. مجربش على صنف الحريم من يوم ما غابت ..
تنهدت دلال في تعجب:- ياااه .. واضح انه كان بيحبها قوووى ..!.
ابتسمت الخالة وسيلة في شجن:- كان بيحبها بس .. جولى بيعشجها عشج كيف الحكاوي اللي بنسمع عنيها ف السيما .. عاش يتمنى يسمع منيها كلمة واحدة تريح جلبه .. لكن راحت جبل ما تجولها و هو عاش بحسرتها العمر كله لحد ما مات .. مجدرتش تنساله اللي عِمله فيها ..
فغرت دلال فاها و قد وصلت القصة لمنحى خطر لتهتف بفصول متسائلة:- عمله فيها ..!؟.. عمل ايه عشان متسامحهوش العمر ده كله و هو بيحبها بالشكل ده ..!؟..
تنهدت الخالة وسيلة و قد شعرت انها كعادتها تفضي بما لا يجب عليها البوح به فهمست و هى تنفض الغطاء عن جسدها لتنهض متوجهة لفراشها:- يا بتي سهرنا كَتير النهاردة .. نامي لحسن هتلاجى الحريم دريوا بمچيتك و هياجوكِ من فچر ربنا ..تتمسي بالخير ..
دست الخالة وسيلة نفسها بفراشها غير واعية لدلال التي اثارت القصة فضولها لأبعد حد لتتركها دون ان تخبرها بكل أحداثها ..
تقلبت بفراشها عدة مرات و اخيرا هدأت ممددة على ظهرها وهي تحملق بسقف الغرفة العالي جدا عن عادة المنازل الحديثة .. و ظلت تفكر في كل الاحداث التي سردتها عليها الخالة وسيلة حتى جذبها النوم الى احضانه لتنام هانئة قريرة العين…
لا تعرف كيف نهضت من فراشها لتجد نفسها تقف في ردهة المندرة حائرة بين الغرف الكثيرة المتناثرة أبوابها على جانبيها .. و أخيرا سمعت هناك من يناديها .. توجهت بكليتها باتجاه الصوت الضعيف الذى يناديها بإستماتة .. تحركت في آلية تجاه احد الأبواب و الذي لم يكن الا تلك الغرفة التي نامت فيها سهوا ليلتها الأولى هنا بالنعمانية..
فتحت باب الغرفة في ترقب ليطالعها الظلام الدامس للوهلة الأولى و فجأة يشع ضوء غريب يبدأ في الظهور على الفراش ليكبر بشكل مبهر كان يغشى عينيها عن رؤية ماهية ذاك الشئ المضئ الا ان الصوت الضعيف ذاك و الذى استمر يناديها طالباً للمساعدة بدأ في الظهور بقوة الان ..
لا تعرف كيف واتتها الجرأة و الشجاعة لتتقدم داخل الغرفة تجاه ذاك الضوء الساطع حتى اذا ما وقفت قبالته تبينت انها امرأة تجلس على طرف الفراش تمد لها يدها .. و لم تتردد هى لتعطيها تلك اليد لتنهض من على فراشها لتتبين دلال انها امرأة حبلى .. همست لها في رجاء وبنبرة ضعيفة:- خديني من هنا ..
اومأت دلال برأسها موافقة و أسندت المرأة و هما بطريقهما للخروج من الغرفة ..
خطوات بسيطة حتى ظهر ذاك الشبح الأسود الذى يقف على عتبة الباب يمنع خروجهما .. لم تتبين ملامحه لان الضوء كان يغمره من خلفه لكنه يبدو كظلا لعفيف ..
تمسكت بها المرأة المجهولة في وهن .. وهى تضع كفها الطليقة على بطنها المتكورة ..
همست بشئ لم تستوضحه دلال والتي حاولت وأصرت على الخروج من الغرفة مهما حدث مع المرأة المسكينة .. لكن ذاك الشبح الأسود كان الأسبق ليجذب باب الغرفة مغلقاً إياها و صدى ضحكاته يهز أركان المندرة جميعها حتى ان دلال نفسها لم تتوقع منه ذلك فهتفت صارخة ليفتح لهما الباب و يطلق سراحهما لكنه لم يكن ليسمع احد .. و عم الظلام من جديد حتى ان نور تلك المرأة بدأ يخبو رويدا رويدا حتى اختفى تماما و تلاشت هى معه ليسود الظلام الدامس من حول دلال .. لتصرخ في فزع ..
كانت صرختها تلك مدوية مع انتفاضة أيقظتها و الخالة وسيلة .. لتتطلع حولها في ذهول لتدرك انه كابوس اخر لا تدرك كنهه ..
ابتدرتها الخالة وسيلة مندفعة اليها بكوب ماء هامسة:- بعد الشر عنيكِ يا بتي .. استعيذى بالله و خدي اشربي ..
تناولت دلال كوب الماء لترشف منه القليل ثم اعادته لكف الخالة وسيلة التي ربتت على كتفها في حنان هامسة:- جومي يا بتي .. أتوضي و صلي و ادينا بجينا الصبح .. هنزل احضر لك الفَطور التمام ..
ما ان همت الخالة وسيلة بالرحيل حتى أمسكت دلال بكفها كطفلة تتشبث بكف أمها هاتفة:- لااا .. خليكِ معايا يا خالة لحد ما ألبس و ننزل نحضر الفطار سوا ..
ربتت الخالة وسيلة على كفها المتشبثة بها هاتفة:- و ماله .. استناكِ .. بس شهلى عشان عفيف بيه مبيحبش أتأخر عن فَطوره ..
هتفت دلال بوجل:- هو هيفطر معانا ..
اكدت الخالة:- معلوم .. ياللاه بس .. همي انتِ و انا مستنياكِ اهااا ..
أسرعت دلال في مهمتها وخرجت معها لتتوجه لتحضير الإفطار و مرت بجوار الغرفة وهى في سبيلها لنزول الدرج لترتعش لاأراديا ..
تنبهت الخالة وسيلة لتسألها في اهتمام:- مالك يا بتي ..!؟.. فيكِ حاچة ..!؟..
تنهدت دلال مفضية للخالة وسيلة بكابوسها العجيب و الذي لا تعرف له تفسيرا ..
امتقع وجه الخالة وسيلة مع انتهاء دلال من سرد حلمها .. لتربت على كتفها وتهمس بصوت تحمل نبراته قلق مبهم:- خير يا بتي .. خير ..
وضعوا الاطباق على طاولة البهو الواسع داخل البيت الكبير و ما ان انتهت كلتاهما من وضع اخر الاطباق حتى ظهر عفيف من اعلى الدرج متوجها إليهما .. هبط الدرجات في تؤدة مثيرة للأعصاب و اخيرا اصبح قبالتها ليهمس بصوته الاجش الذى يعبق الجو حولها بسيطرة عجيبة تجبرها الا تنتبه الا لنبراته القوية و تفاحة ادم الراقصة بحلقه:- صباح الخير يا داكتورة ..
اومأت هامسة بحشرجة عجيبة على صوتها:- صباح الخير ..
جلست على احد المقاعد على جانب الطاولة الكبيرة و التي تصدّر هو بطبيعة الحال مقعدها الأساسي على رأس احد أطرافها ..
بدأ في تناول الطعام بشهية معتادة و هي التي تشعر منذ الصباح ان بجوفها نار تستعر ..
تنبه انها لم تمد كفها للطعام بعد فهتف متعجبا:- طب ايه يا داكتورة .. البيت بيتك منتيش محتاچة عزومة ..يعني جلنا العشا ماشي طب و الفَطور كمان و لا انتِ حالفة ما تكلى من اكلنا .. !..
هزت رأسها نافية:- لا ازاي يا عفيف بيه .. بس اصل مش متعودة أفطر .. أدى كل الحكاية ..
أشار للطعام بتأكيد هاتفا:- مدي يدك بس كُليلك لجمتين هتلاجي نفسك اتفتحت ..
نفذت بآلية و هي تضع الطعام بفمها مختلسة النظرات اليه في غفلة منه تتذكر حلمها الليلة الماضية و شبحه الأسود لا يفارق مخيلتها .. و أخيرا تنبه هو لنظراتها المختلسة ليهتف متعجباً:- خير يا داكتورة بتطلعيلي كنك بتشوفينى لأول مرة..!؟ ..
تدرج الأحمر ليكسو خديها بإحراج واضح و ما كان لديها المبرر الكافي لتنقذ نفسها من سيل نظراته التي غمرها بها بدوره ..
لكن الخالة وسيلة تدخلت و هي تضع أكواب الشاي على الطاولة هاتفة:- اصلها حلمت بيك الليلة اللي فاتت ..
وليتها ما تدخلت .. هكذا هتفت دلال في سرها لاعنة نفسها ألف مرة انها حكت للخالة وسيلة حلمها الغريب ذاك رغبة في ان تجد تفسيرا لديها .. لا ان تضعها الان امام المزيد من سيل النظرات المسيطر ذاك و قد ضاقت عيناه متعجباً ليهتف أخيرا ساخراً:- حلمتي بيا ..!؟.. حاچة چميلة و الله ان حد يحلم بيك ..
هتفت في غيظ بغية رد اعتبارها:- مكنش حلم حضرتك .. كان كابوس..
انفجر ضاحكا على غير عادته حتى كاد يغص في احدى اللقيمات التي كانت بالفعل في حلقه و أخيرا هتف و هي يتناول كوب الشاي يرتشف منه رشفة سريعة قبل ان يهتف:- كِده يبجى ظبطت يا داكتورة ..اصلك حلم دي غريبة حبتين ..
ظنت انها ستقتص منه جراء إحراجها الا انها على العكس أصبحت وسيلة لتسلية صباحية غيرت مزاجه للافضل حتى انه نهض مغادرا و هو يجذب عباءته من على أطراف كرسيه الذى كان يتسيده منذ لحظات ليندفع للخارج ليطالها منه همس منتشي وهو يترنم على غير عادته المتجهمة بكلمات أغنية شهيرة هامسا:- بحلم بيك انى بحلم بيك ..
ظلت تتطلع الى مكانه حيث غاب منذ لحظات في ذهول واضح لتغير مزاج هذا الشخص الاغرب على الإطلاق .. ليعاجلها مناع مخرجا إياها من شرودها هاتفا:- الحريم بره ع البوابة يا داكتورة .. ادخلهم و لا لساتك بتفطري ..!؟..
هتفت لمناع:- دخلهم يا مناع .. انا خلصت ..
و نهضت من مكانها متوجهة للمندرة لعلها تجد ما يلهيها عن تذكر ذاك الكابوس و رد فعل صاحبه الأعجب على الإطلاق ..
↚
انتهت دلال من معاينة النسوة جميعهن و ما ان همت باغلاق باب حجرة الكشف الخارجية حتى طالعها مناع على عتبتها يسألها في لهفة على حال زوجته:- معلش يا داكتورة بس سؤال كِده .. ايه اخبار مرتى ..!؟.. تماام ..
ابتسمت دلال لاهتمامه هاتفة:- اه يا مناع ذي الفل .. قربت خلاص كلها حاجة بسيطة و تدخل الشهر التاسع ..
هتف مستفسرًا:- يعنى كل حاچة تمام .. طمنينى يا داكتورة .. اصلك كانت هتروح فيها النوبة اللي فاتت..
اتسعت ابتسامة دلال هاتفة:- متقلقيش .. لحد دلوقتى كل حاجة تمام .. بس الظاهر ان سعدية حظها حلو انها اتجوزت راجل بيعزها و خايف عليها كده !..
وللمرة الأولى ترى مناع الذى يشبه الأسد الجسور ببنيته الضخمة و شاربه المفتول أشبه بقط أليف مع تلك الابتسامة الخجلى التي ارتسمت على شفتيه ليجيب هامسا:- معلوم يا داكتورة .. لو مكنتش اتچوزت سعدية مكنتش هتچوز غيرها ..
ردت دلال في سعادة ضاحكة:- يا بختك يا سعدية ..
أكد مناع:- و الله يا داكتورة اني ما كنت عايز عيال تاني .. الحمد لله على اللى چابه ربنا .. بس هى .. اعمل ايه ف دماغها .. عايزة تفرحني و تچبلي الواد ..
هتفت دلال:- باذن الله خير و ربنا يرزقكم باللي تتمنوه ..
رفع مناع يديه و ناظريه للسماء متضرعا:- يااارب ..
وهنا انتفض مناع في مكانه عندما تهادى لمسامعه نداء عفيف بيه باسمه ليهتف مسرعا اليه:- نعم يا عفيف بيه .. جاى حلا اهاااا ..
و اختفى بلمح البصر من أمامها لتبتسم هي و تدخل غارقة في افكارها.. و ما لابد لها من فعله لتبدأ النساء هنا في ادراك الحقائق العلمية و التي مفادها ان الرجل هو المتحكم في نوع الجنين و ليس هن .. لكن كيف لها ذلك؟ .. ذلك ما اخذ منها جل وقت بعد الظهيرة ..
حاولت النوم قليلا لكنها لم تستطع .. تشعر بالملل الشديد هاهنا .. لاتجد ما يشغل وقتها بعد انقضاء فترة الكشوفات الصباحية .. بعد ذلك يصبح اليوم طويلا و مملا ..
تنهدت في ضيق و هي ترتدي تنورتها و بلوزتها و وضعت حجابها على رأسها بإهمال فهى على ايه حال لن تخرج خارج حدود المندرة و ستجلس بالأسفل قليلا ..
دارت حول البهو الواسع تتطلع الى أثاثه القديم القيم و تفتح الأدراج لعلها تجد جريدة او مجلة ما تطالعها .. لكنها و لحظها الحسن وجدت مذياع كبير الحجم حملته في سعادة داعية الله ان يكون غير معطل ..
بدأت في تشغيله ليصدح بالأنغام .. صفقت بيديها جزلا .. و بدأت تتمايل بفرح مع الأنغام الرقيقة المنبعثة من الجهاز .. أخذت تدور في البهو الواسع تضئ أنواره واحدا تلو الاخر لتسطع القاعة بنور مبهر يجعلها أشبه بقاعات الحفلات الكبرى .. جذبت احدى الوسائد الموضوعة على احد المقاعد وأغمضت عينيها لتسرح بخيالها كالعادة و تحلم بأنها تراقص ذاك الفارس الذى حلمت به دوماً ..
استدارة و أخرى بتنورتها الواسعة و حماسها للموسيقى جعل حجابها الواهن الاستقرارعلى رأسها يسقط دون ان تنتبه و هى التي كانت تركت شعرها الغجري منسدلا بعد ان مشطته لها الخالة وسيلة ككل ليلة .. شعرها الذى كلما كانت تهم بقصه تتراجع في اللحظة الأخيرة عندما تتذكر ان ابيها كان يحبه طويلا و غجريا هكذا .. لم تحظ بشعر ناعم مسترسلا كأمها و كان هذا الامر يثير ضيقها فكانت تكره ذاك الشعر الذى يشبه أمواج البحر في ليلة ظلماء بلا قمر ..
أخذت تدور و تدور و كأنها تفرغ شحنات الغضب و التوتر و القلق و الأرق الذى يعتريها لعلها تهدأ بعدها و تنام .. و صورة اخيها الان امام ناظريها و لا تعرف ما سيكون مصيره لو ظهر فجأة و معه اخت ذاك المسيطر الذى لن يقبل بأى عذر مهما كان لما حدث ..
و للحقيقة هي لا تلومه مطلقا .. فماذا ستكون ردة فعل نديم ان قامت هي بذاك الفعل المشين ..!؟..
عند هذا الخاطر استفاقت متأوهة فلابد ان افكارها جذبتها و لم تنتبه لتصطدم بباب المندرة الرئيسي .. لكن الباب ليس من هذا الاتجاه .. و الباب .. حسنا .. لا يملك أنفاساً .. فتحت عيونها فى بطء و خواطرها تتزاحم في تشوش لا تستطيع تجميعها لتستخلص فكرة واحدة مفيدة ..
نظراتها تباطأت متصاعدة لتصطدم بتفاحة أدم التي كانت تهتز في اضطراب صعودا و هبوطا مؤكدة ان صاحبها يزدرد ريقه في تكرار متتابع ..
و أخيرا اصطدمت نظراتها بنظرات فحمية كانت تموج بمشاعر و انفعالات لم تستطع ان تفسرها و لو للحظة نظرا لتشوش افكارها وهي في تلك الحالة من صخب و فوضى من المشاعر و الأحاسيس العجيبة .. فها هي الان تجد نفسها ملتصقة باحضان احدهم بهذا الشكل الحميمي اقرب لدقات قلبه من نفسه.. نظراتهما معلقة و كأنها مشنوقة الى لوح القدر لا تستطيع ان تنتزع نفسها من ما هو محتوم و مقدر منذ خلق الله الأرض و من عليها .. ارواحهما هائمة لا تجد براح كاف لتجول به مبعثرة النشوة البكرالتي تعتريها..
لا تعرف .. و لا تعتقد انه نفسه يعرف لكم ظلا على حالهما ..ربما ثوان او ربما دقائق .. لكنها كانت في مقياسهما أشبه بدهر كامل من الحلم ..
تنحنح هو و ابتعدت هي و لازال السحر العالق بينهما كامن لم يخبو...
همس عفيف بصوت متحشرج لم يكن له وقد اختفت نبراته المسيطرة فجأة و هو يشير لباب المقعد الذي اتخذته هي غرفة للكشف:- انا نادمت عليكِ .. و لما مردتيش جلجت و انتِ سايبة باب الاوضة البراني مفتوح ودِه اللي دخلني .. و..
لم تنتظر استطراده و لم تكن تملك جوابا و كانت لاتزل ترفل في ضياع تلك اللحظة العجيبة و المحملة بعبير الدهشة الصافي .. لذا ما كان منها الا ان اندفعت تصعد الدرج في هرولة مبتعدة عن محياه قاطعة ذاك الخيط الرفيع من الروعة التي كانت تجمعهما ..
دخل غرفته في سأم أغلق بابها خلفه و دفع بعباءته بعيدا و من بعدها عمامته التي ألقى بها على المقعد المجاور باهمال وألقى بجسده على المقعد الاخر في انهيار دافعا برأسه المنهك ليتكئ على ظهر المقعد و يمد قدماه الطويلتان أمامه بعشوائية كما اتفق ..
أغمض عيناه للحظات لكن خواطره ابت عليه الراحة لينتفض فاتحا إياهما من جديد عندما تجسدت أمامه صورتها الراقصة التي طالعها منذ قليل ..
هتف موبخاً نفسه:- وااه يا عفيف .. خبر ايه !؟.. من ميتا بتجلب حالك الحريم .. ايه ..!؟.. نسيت وعدك لحالك ..
لتعود نفسه للرد هاتفة:- و يعني اللي وعدت نفسك لچل عيونها وفت بالوعد و لا كانت جتى تستاهله م الأساس ..
رد من جديد على نفسه:- وااه يا ناهد .. ليه كِده يا بت ابوى .. دِه اني حرمت الحريم على حالي و حلفت ما تدخل مرة (امرأة ) البيت الكبير جبل ما انت تروحي لبيت چوزك معززة مكرمة .. يبجى دِه چزاتى يا بت جلبي !؟ .. ياللي ربيتك ع العزيز والغالي ..ليه يا ناهد..!؟.. ليه ..!؟..
لم يلق جوابا لسؤاله الحائر سوى الصدى لصرخاته الداخلية بجنبات روحه و صمت مطبق بعده .. تنهد في ضيق وهو يخلع جلبابه و يلقيه جانبا و يرتدي اخر اكثر راحة مستعدا للنوم ..
لكن من أين يأتي النوم و صورتها كأنها وشمت على مقلتيه فلا يبصر بعين خياله حين يغلق عينيه الا صورتها و هي تتمايل كنخلة جذرها ثابت لكن عروشها السامقة تتراقص في مهب ريح العشق في ليلة مقمرة .. شعرها ذاك الغجري ايقظ بداخله أحاسيس ما كان يدرك انه يملكها من الأساس .. ذاك الغجرى قاتله لا محالة .. و كأنه سعف نخل يضرب بعنف وجه السماء فيوقظها من سباتها .. ليطل القمر النائم من خلف الغيوم و يظهر متربعا عرش السموات بلا منازع ..
عيناها .. إعصار من المشاعر و الفوضى المربكة سمراء شهية .. تحمل الكثير من الأسرار و الأسرار ود لو افتضها واحد تلو الاخر لتبوح بهم له وحده ..
وجهها .. صفحة نقية خمرية .. تشبه ذاك العسل المصفى فيه شفاء لروحه العليلة منذ دهور ..
تقلب على الفراش كالمحموم لا يدرك ما دهاه .. و أخيرا تنبه انه يلتقط بأنفاسه عطر غريب .. بل عطر خطر ..
اخذ يتابع شهيقه لعله يدرك من أين يأتيه ذاك العطر .. لكنه لم يفلح في ادرك المصدر فألقى برأسه الذى يمور كالمرجل على وسادته ليتيقن الان ان مصدر ذاك العطر .. هو .. ووضع كفه على صدره ليصبح اكثر يقينا ان عطرها الخطر اصبح الان جزءً من روحه .. ولن يفارقها ابدا ...
اجتمعت النسوة امام باب غرفة الكشف و جلسوا جميعا في نص دائرة في انتظار الدكتورة دلال و التي استدعتهن لامر هام .. و التي ظهرت أخيرا لتجلس على احدى الوسائد على درجة من درجات السلم التي تفضي الى غرفة الكشف لتكون اقرب ما يكون لتجمع النسوة و اللائي تطلعن اليها في فضول و ترقب لتهتف هي قائلة:- بصوا يا ستات .. احنا لازم نتفق على حاجة من هنا ورايح .. اللى هى ايه ..!؟..
هتفت إحداهن:- ايه يا داكتورة..!؟..
ردت دلال بثقة:- انتِ قيمتك في نفسك .. في حياتك و اللى بتعمليه فيها .. في تربيتك لأولادك .. مش قيمتك ابدا في خلفتك للولد او البنت..
ردت سعدية زوج مناع:- كيف يعنى ..!؟.. الواحدة لما تخلف الواد تسعد چوزها و تخليه رافع راسه وسط الخلج يا داكتورة ..
ابتسمت دلال هاتفة:- و على كده بقى اللى مخلفش ولاد يفضل مطاطي راسه العمر كله .. !؟.. ايه معترض على عطية ربنا و رزقه..!؟..
لم ترد إحداهن لتستطرد دلال بحماسة:- ايوه .. اعتراضك على اللى ربنا وهبهولك ده مينفعش و خصوصا لما تعرفى ان ملكيش يد فيه .. لان الراجل هو اللي مسؤل عنه بعد إرادة ربنا طبعا ..
هتفت احدى النساء من الخلف:- كيف يعنى مسؤل ..!؟.. وهو الراچل اللب بيحبل و بيولد .. !..
انفجرت النسوة ضاحكات و شاركتهن دلال مزاحهن حتى هتفت من جديد:- لا طبعا مش قصدي .. القصد ان الراجل ف جسمه نوع من ال..
و تحيرت كيف يمكنها توصيل فكرة الكرومسومات الذكورية و الأنثوية لنسوة غير متعلمات و لم يحصلن على القدر الكافى من المعرفة ليدركن تلك الحقيقة العلمية الشائكة و اخيراً و قعت أنظارها على احد الأطفال الذى جلبته امه معها و في احضانه بعض الخضروات من طماطم و خيار يتسلى بقضمها فنهضت تداعب الطفل حتى استطاعت استخلاصها من بين كفيه..
و عادت ادراجها مرة أخرى لمكانها على الدرج هاتفة:- بصوا يا ستات .. احنا هنعتبر إننا كستات الطماطم .. و الرجالة هم الخيار ..
انفجرت النسوة ضاحكات لتشبيهها ولكنها لم تعبء لذلك بل قابلته بابتسامة مستطردة:- كل راجل بيبقى ف جسمه خيار و طماطم .. لكن الست معندهاش ف جسمها غير الطماطم بس ..
ردت سعدية مازحة:- طبعا اومال ايه .. الستات حمّااار و حلاوة ..
لتنفجر النسوة في الضحك من جديد و تشاركهن دلال مقهقهة:- تمام .. يبقى كده اتفقنا الرجالة عندها خيار و طماطم .. و الستات عندها طماطم بس ..
لو ربنا أراد المولود ولد .. هتيجى خيارة من عند الراجل و تركب مع طماطماية من مراته .. و لو ربنا أراد المولد بنت هاتيجى طماطماية من عند الراجل و هتركب مع طماطماية من عند مراته يبقى المولود بنت .. فهمتوا ازاى ان الرجالة هي المسؤولة ان اللى جاى يبقى ولد او بنت .. الست ملهاش دعوة .. احنا زى الأرض بنطرح اللى اتبدر فينا .. عمركم شفتوا ارض اتبدر فيها حب خيار طرحت طماطم .. و لا العكس ..
ت النسوة رؤوسهن و هُن بعد غير قادرات على تصديق ذاك الكشف الذى قلب موازين ثوابتهن رأسا على عقب و جعل بعضهن يتنفسن الصعداء أخيرا بعدما كن يشعرن إنهن حكم عليهن بالموت البطئ كمداً لأنهن أرضا لا تطرح الا البنات ..
بدأت النسوة في الرحيل واحدة تلو الأخرى بعد استشارة دلال في بعض الأمور الطبية .. حتى خلت الساحة الخلفية منهن فنهضت في سعادة و هي تشعر انها بدأت تخطو أولى خطواتها تجاه ما ارادت منذ وطأت قدماها ارض النعمانية .. و الان استشعرت انها ساعدت و لو بقدر ضئيل على تنوير نسوة كن قابعات تحت كاهل الموروثات القديمة و الجهل بالعلم الحديث في فهم مجريات حياتهن و حقوقهن المشروعة ..
لم تكن تخرج من غرفتها الا للصلاة ماعدا ذلك لم يكن يدفعها شئ للخروج من الغرفة التي اتخذتها معزل اجبارى لها .. حتى الطعام عافته و ماعادت تطلبه او حتى تمتلك الشهية له ..
جهز هو الغداء بالفعل على قدر ما سمحت له معرفته المتواضعة في هذا المجال و على قدر ما يملكه بالفعل من نقود هى على وشك النفاد ..
توجه لباب غرفتها ليطرقه في صبر بشكل متتابع لعلها تجيبه .. مرت مدة من الصمت قبل ان تفتح الباب ووجهها يحمل الكثير من ملامح الإرهاق والأرق البادية على عيونها التي دبلت من البكاء و السهد الذى كسى وجهها بسحابة من الوهن ..
هتف ما ان طالع محياها بصوت مشفق:- الغدا جاهز يا ناهد ..
و أشار حيث وضع أطباق الطعام همست بصوت متحشرج من حنجرة أدمنت الصمت لفترة طويلة ليخرج الصوت بتلك النبرة .. او ربما هو من اثر الصراخ الذى قد اعتاده يوميا في الليالي الماضية نتيجة كوابيسها المتكررة:- انا مش چعانة .. شكرًا ..
اعترض في لطف:- يعنى ايه مش جعانة ..!.. مينفعش الكلام ده .. انت مكلتيش بقالك يومين ..
ثم تحولت لهجته لنبرة مازحة هاتفا:- انا عارف طبعا ان اكلى لا يعلو عليه .. بس قدرك بقى .. ربنا يسترها علينا ..
ابتسمت رغما عنها و اومأت برأسها موافقة ليفسح لها الطريق لتمر باتجاه الاطباق الموضوعة على الطاولة ..
جلست و جلس قبالتها ليمد كفه للطعام و تحذو هي حذوه .. و كانت اللقمة الأولى كافية تماما للحكم على مدى جودة الطعام الذى كان من الصعب على كلاهما حتى ابتلاعه لينظر كل منهما للاخر ..
ابتسم هو في احراج .. بينما صمتت هي و لم تعقب حتى بحرف يكشف عن ردة فعلها تجاه الطعام الكارثي الذى تذوقته لتوها.. نهضت في صمت مغادرة متوجهة لغرفتها..
كان الأسبق ليعترض طريقها هاتفا:- على فين ..!؟..
هتفت به في نفاد صبر:- انا قلت مش عايزة اكل .. رايحة انام ..
ما ان همت بالدخول لغرفتها حتى جذبها من ذراعها لتستدير اليه في قوة ليرتطم ظهرها بالحائط قبالتها و تصبح في مواجهته تماما .. ليقترب منها في غضب تحاشى ظهوره كثيرا منذ غادرا النجع حتى تلك اللحظة .. اقترب بوجهه من وجهها و علامات الثورة بادية عليه لتنكمش هى على نفسها ذعرا حتى كادت تدخل في تجويف الحائط خلفها لو استطاعت ليهمس هو بصوت يمور بالغضب و يحمل نبرات التقريع و اللوم:- في ايه!؟.. انتِ فاكرة انك ف المصيبة دي لوحدك..
مش حاسة بحد الا بنفسك و بس .. مش حاسة بالبنى آدم اللي معاك ف الكارثة دي و اللي من اول ما حصل اللى حصل و هو مفتحتش بقه بكلمة تأذيكِ او تجرح مشاعرك .. انا معاكِ في اللي بيحصل و تعبان زيك و مستحمل عشان خاطرك .. يبقى جزاءي التعامل ده منك ..!..
ثم تنهد في ضيق و قد بدأت تخف حدة نبرته عندما رأى ملامح الرعب تجسمت بصدق على محياها و بدأت الدموع تطفق من عيونها فابتعد قليلا ليهمس:- انا عارف ان اللى حصل مش سهل عليكِ .. و لا سهل عليا .. و ده اللى مخليني مستحمل ردات فعلك اللى ضاغطة على أعصابي اكتر ما هي مضغوطة .. لو سمحتي .. نستحمل بعض لأننا ف مركب واحدة .. يا تغرق و نغرق معاها .. يا نقدر نلحقها سوا ..عن إذنك ..
ثم ابتعد فجأة و اندفع لداخل حجرته صافقا الباب خلفه بقوة أودعها كل ما يعتمل بداخله من غضب جعلها تنتفض مكانها و أخيرا تحركت في اتجاه غرفتها لتغلق بابها خلفها في بطء و هي تلقى بنظرات شاردة على باب غرفته التي غاب خلفها ..
تمددت على فراشها منذ مدة و لا بوادر لنوم تلوح في الأفق .. عيونها شاخصة معلقة بسقف الغرفة البعيد تصلها انفاس الخالة وسيلة المنتظمة و المؤكدة على غرقها في نوم عميق .. تنهدت في سأم و هي تتقلب ذات اليمين و ذات الشمال .. لتعود مرة أخرى لتتطلع لنفس ذات السقف المزخرف بتلك النقوش الغريبة و المتداخلة مرة أخرى .. ما عاد يبرح مخيلتها ما حدث منذ عدة ليال بينها و بين عفيف في الردهة السفلى .. تلك اللحظات العجيبة و الصادمة لكليهما..
مشاعرها و أحاسيسها المبعثرة من وقتها لا تجد لها مدلولا و لا تفسير يستسيغه عقلها الواعي الان بكل شاردة و واردة و الذي كان في حالة إجازة مؤقتة لحظتها و غياب لاأرادى عن القيام بما هو مفروض وواجب ..
منذ تلك الليلة و هي تتحاشاه و يبدو انه يتحاشاها بالمثل فهى لم تقابله من حينها و تجنبت قدر استطاعتها التواجد معه في أوقات الوجبات و حتى كشوفاتها الصباحية كانت تؤديها سريعا حتى تعود لتغلق باب غرفة الكشف بأحكام .. ذاك الباب الذى دخل منه ليلتها و كأنه الريح العاصف لكل ثباتها و تعقلها الفطري لتعود يومها لحجرتها متعللة بالإرهاق فتطلب من الخالة وسيلة الطعام لتتناوله وحيدة في غرفتها و بعدها تكمل الليلة امام التلفاز الذى لا يحمل اى جديد بقنواته المحدودة ليهاجمها الملل من جديد لكنها لن تجرؤ على النزول مرة أخرى للردهة السفلية .. فمرة واحدة من ذاك اللقاء العاصف مع ذاك المسيطر كافية و زيادة ..
تنهدت من جديد ستجن حتما ان لم تجد ما يشغل وقتها في ذاك البيت.. تذكرت عندما سمعت صوت موسيقى هامس يتناهى لمسامعها منذ بضعة ايّام و قبل اللقاء الدامى بالأسفل و سألت الخالة وسيلة من أين يتسلل ذاك الصوت و تتهادى تلك الأنغام لتخبرها ان عفيف بيه يجلس في مكتبه في بعض الأحيان ليقرأ..
هل لو تسللت الان لذاك المكتب ستجد ما يمكنها قراءته ليقضي على بعض من ذاك الملل الذى يكاد يجهز عليها زاهقا روحها ..
لم تفكر للحظة و خاصة ان صوت الموسيقى التي عرفت انه يشغلها عادة عندما يكون بداخل المكتب يقرأ لا تتناهى لسمعها كالمعتاد و ذاك يعنى شيء واحد لا غير .. انه ليس هناك بالتأكيد .. فليست فكرة سيئة على ايه حال ان تذهب لتستطلع سريعا و تقفل عائدة ربما تفوز بما يمكنها من الانتصار على ذاك السأم الاحمق ..
كانت بالفعل الان امام باب المكتب من ناحية المندرة مدت كفها لمقبض الباب و ضربات قلبها كالمطارق في ساحة صدرها .. تنهدت في عمق تستمد قوة تدعى امتلاكها و هي تتأكد هذه المرة ان مئزرها على رداء نومها يحيط بقدها في إحكام .. و غطاء رأسها موضوع على هامتها مربوط حول رقبتها ..
فتحت الباب في وجل و ببطء شَديد.. تطلعت للداخل مجيلة نظراتها بالمكان لتقف مبهورة و قد فغرت فاها شاهقة في صدمة ..
اندفعت داخل الغرفة و قد نسيت حذرها السابق تماما لتقف في منتصف الغرفة بالضبط و عيناها كعينى طفل وجد نفسه فجأة بمحل الألعاب و الحلوى و هي تتطلع بإعجاب لتلك المكتبة الضخمة التي تحتل ذاك الجدار الواسع خلف ذاك المكتب الأبنوسي القيم و الفخم الذى يتوسط الغرفة تقريبا ..
الان فقط ستقول لذاك الملل وداعا بلا رجعة .. فمن لديه مكتبة كهذه و يشعر يوما بالملل .. و ابتسمت في فخر و هي تشعر انها تخرج لسانها لذاك السأم الذى ولى مبتعدا في تلك اللحظة و منذويا بأحد الأركان ..
اندفعت تتلمس الأرفف الزاخرة بالكتب من كافة الأنواع و الاحجام و كأنها فتحت كنز علي بابا ..
أعجبتها دقة التنظيم و الترتيب لكل قسم و رف .. و أخيرا توصلت لقسم الروايات لتتفقدها و تنتقي منها عدة روايات حتى لا تحتاج للعودة الى هذه الغرفة بشكل مكثف .. و خاصة اذا ما احتاجت لإعادة رواية او اختيار غيرها و هو متواجد بالفعل ..
احتضنت حملها الثمين في سعادة و همت بمغادرة الغرفة الا ان صوته المسيطر والذي كان يحمل نبرة عجيبة لم تعتدها تشبه تلك التي أيقظت كوامن المشاعر في أعماق روحها تلك الليلة الدامية و التي تتحاشى لقاءه من بعدها صدح هاتفا:- مش في حاچة اسمها استئذان يا داكتورة جبل ما ناخد الحاچة ..!.. و لا هي وكالة من غير بواب ..
ازدردت ريقها بصعوبة و هو يتقدم نحوها في تمهل عجيب أفقدها رباطة جأشها التي تحاول إقناع نفسها انها تمتلكها ..
وقف أمامها تماما و لحسن الحظ انه لم يتطلع اليها و كم حمدت الله على ذلك كثيرا .. فكان سيجد صفحة وجهها مسرحا زاخرا بكل ما يعتمل بصدرها الان من صراعات ..
مد كفه ليستعيد ما كانت تحمله من مقتنياته العزيزة .. هكذا ظنت .. لكنه وقف يقلب في الروايات يضع بعضها جانبا و ينتقي الأخرى ليعيدها لكفيها من جديد ..
اصبح المجموع ثلاث روايات هي كل ما كانت تحمل بين يديها .. اما الباقى فعاد به للمكتبة يضعه في مكانه بالضبط و كأنه يحفظ الأمكنة ككف يده ..
لم تجرؤ على التحرك قيد انملة او الرحيل كما كان يتوجب عليها .. بل تسمرت قدماها في موضعهما و كأنما نبتت لها جذور تشعبت و امتدت حتى باطن الأرض..
هتف أخيرا و هو يعاود الوقوف أمامها هامساً:- دي احسن روايات ممكن تجريها ف المچموعة اللى كنتِ هتخديها .. و لما تحتاچى لغيرها .. المكتبة تحت امرك ف اى وچعت يا داكتورة ..
وأشار بكفه تجاه الباب لتخرج و كأنما نبتت لها جناحين لتطير لا لتخرج .. هكذا شعرت عندما توجهت مندفعة للباب هاربة من التواجد لثانية أخرى معه .. او ربما هاربة من ذاك الشعور الغامض الذى اصبح يعتريها كلما اجتمعت به او حتى فكرت في الاجتماع به و لو للحظات ..
و لم تكن الوحيدة التي كان يثيرها ذاك الخاطر .. بل هو أيضا لم يكن بأفضل حالا منها و هو يراها تغادر بذات السرعة التي هربت بها في تلك الليلة راكضة على الدرج .. و خلفها شعرها الغجرى يعصف بكيانه كما هو بتلك اللحظة التي ولت فيها الان و هو يتطاير خلفها دون ان تدرى انه يغافلها رغم حجابها الذى تضعه على رأسها ليتمرد على ظهرها و كأنما يتحدى الحواجز ليطل عليه ليثير جنونه من جديد ..
↚
دقات خجلى على باب غرفته انتبه لها وهو يختم صلاته لينهض متوجها ليفتح الباب بشكل مفاجئ ينبئ ان ثورة غضبه لم تخب جزوتها ..
انتفضت مع انفراجة الباب بذلك الشكل العنيف لكنها رغم عن ذلك تماسكت هامسة على استحياء:- على فكرة انا جهزت العشا على الطربيزة بره لو انت جعان ..
وقف قبالتها للحظات ساهما و أخيرا أومأ برأسه ان نعم .. فهو كذلك بالفعل و كيف لا فهو بالفعل يتضور جوعا فهو لم يتناول إفطاره و جاء الغذاء فكان طعمه لا يُوصف..
تنحت جانبا لتدعه يمر حيث وضعت الاطباق ليجلس وتلحق به و هي تأتي بأخر الاطباق من المطبخ لتضعه في منتصف المائدة ..
جلس ينظر بتعجب للطعام .. فهو نفسه الذى كان موضوعا على طاولة الغذاء ولم يستطع احد منهما تناوله لسوء طعمه ..
تنهد في حسرة و بدأ في تناول الطعام بلا شهية .. لكن ما ان وضع أولى اللقيمات بفمه حتى اختلف الامر بمجمله .. نظر اليها في تعجب هاتفا:- انتِ عملتي ايه ف الأكل ده عشان يبقى حلو كده ..!؟..
ابتسمت في خجل هامسة:- شوية تعديلات .. خبرة ستات مش اكتر..
بدأ يأكل في شهية واضحة فالجوع قد بلغ منه مبلغا حد المجاعة .. ابتسمت هي عندما طالعت تبدل ملامحه بهذا الشكل السريع .. من ملامح غاضبة ثائرة .. لملامح طفل وديع وجد ضالته في طعام يشتهيه منذ زمن .. او قطعة حلوى ادخر ثمنها ليبتاعها و يتذوقها الان في شوق و خاصة و هو يهمهم الان بإستمتاع مع كل قضمة..
تناولت طعامها محاولة تجنب النظر اليه من جديد و هي تتذكر ذاك الشاب الذى وطأ ارض نجعهم البعيدة ليصبح حديث بنات النجع بأكمله .. لم يكن الامر يتعلق بوسامته الرجولية بل الامر كان يتعدى ذلك .. فلم يكن هو اول ولا اخر المهندسين الذين عينوا عندهم .. لكنه كان الأطهر يدا و الأنقى سريرة .. و الأرفع اخلاقا ..
انهى طعامه ليلقى بظهره على ظهر مقعده و هو يتنهد في راحة شاعرا بالامتلاء .. ابتسمت رغما عنها و هي تراه على تلك الحالة من الاسترخاء و التي حركت رغما عنها مشاعر عجيبة ليضطرب داخلها فجأة حتى انها نهضت فجأة و بلا وعى هربا من تلك الأحاسيس حاملة الاطباق في تعجل فكادت تسقطها ليتلقفهم عنها في سرعة ..
نظر اليها وهو يهم بالنهوض حاملا الاطباق عنها للمطبخ هاتفا بمرح:- انت طبختى و انا عليا الشاي ..
أمسكت عنه الاطباق لتضعهم جانبا هامسة في اضطراب و كأنما تدفع نفسها دفعا للتحدث قبل ان تخونها شجاعتها:- ممكن تجعد.. عايزة أجولك كلمتين ..
جلس في هدوء و ترقب منصتا لها .. تنحنحت هي و هي تدفع الكلام دفعا لحلقها و تفرك كفيها معا باضطراب لاحظه هو على الفور و أشفق عليها:- انا .. انا عايزة اجولك انا آسفة .. انا فكرت ف الكلام اللي جولتهولى .. والصراحة لجيت ان عندك حج فيه.. انا كنت انانية و مش واعية الا لحالى و بس .. احنا ف نفس المركب و يا نغرج سوا .. يا نجدر نعدى الموضوع سوا ذي ما جلت .. و انا اخترت اننا ننچح و نعديه...
رفعت رأسها أخيرا في خجل لتطالعها ابتسامته التي أضاءت وجهه الأسمر الوسيم القسمات فيتحرك شيء ما هناك بجوار معدتها مضطرباً فتشيح بوجهها عنه وهي اكثر اضطراباً ..
وقف هو في اعتدال و مد كفه هاتفا بلهجة مرحة:- اتفقنا ..
نهضت من مكانها في تردد تنظر لكفه الممدودة .. لتمد كفها اليها مصافحة .. تصافحا و ما ان جذب كفه من كفها حتى تذكر انه مازال ملوثا ببقايا الطعام التى سقطت على كفه من تلك الاطباق التي لحقها قبل سقوطها أرضا ..
نظر اليها مبتسما و هو يرفع كفه ليشمها و هتف مازحا:- اتفاق بصلصة البامية محصلش ..
انفجرت ضاحكة رغما عنها لمزاحه ليتطلع اليها في تعجب و قد رأى في تلك اللحظة ناهد أخرى تماما .. ناهد التي كان يسمع عن حسنها و دلالها من حكايا الفلاحين و همساتهم وهو يباشر ري أراضيهم و كأنها احدى الأميرات التي كانت تعيش في ذاك البيت الكبير على تلك التلة البعيدة .. و لم يكن ليجرؤ احدهم على التطلع حتى لنافذة حجرتها .. او حتى يدنو من سُوَر حديقتها .. فهو مفقود .. مفقود كما وصفه نزار في احدى قصائده..
تنبه لتطلعه فيها بهذا الشكل المطول و تنبه اكثر لتوترها و هي تقف هكذا في اضطراب لا تعرف ما عليها فعله .. حتى كان هو الأسبق ليهتف مندفعا للداخل:- تصبحي على خير ..
تعجبت .. فها هو اليوم الثالث يمر دون ان تأتيها المريضات كالعادة .. و يمر النهار دون ان يلوح بالافق ظل إحداهن يقترب من المندرة .. او حتى تطرق واحدة من النساء اللائى يأتين مستترات رغبة في عدم معرفة امر ترددهن عليها باب غرفة الكشف طلبا لاستشارة ما ..
لم تكتم تعجبها بل افضت به في استغراب واضح للخالة وسيلة و كلتاهما تغدو و تروح من و الى المطبخ حاملات أطباق الغذاء الى الطاولة المعدة لتناوله حالما يصل عفيف ..
لتهتف دلال:- هي الستات راحت فين يا خالة وسيلة ..!؟.. دوول مكنوش بيبطلوا روح و جي على أوضة الكشف .. !؟..
هزت الخالة وسيلة رأسها نافية معرفتها بالسبب هاتفة:- و الله علمي علمك يا بتي .. هيكون راحوا فين يعني ..!؟.. يمكن چاهم الشفا على يدك ..
تسألت دلال:- طب و الستات الحوامل اللي بتابعهم .. و اللى مواعيد زيارتهم ليا كانت المفروض تبقى الأيام دي راحوا فين هما كمان..!؟..
ثم استطردت دلال مقترحة:- انا بفكر اروح لهم بيوتهم بنفسي .. ايه رأيك يا خالة ..!؟ .. أروح ..
هنا هتف ذاك الصوت الذى يزلزل كيانها كليا و يخلق جو من الرهبة و الرغبة يتنازعان بلا هوادة بأعماق روحها:- لا هتروحي .. و لا هم هاياچوا ..
استدارت بكليتها لمواجهته محاولة وأد شعورها المتنامي داخلها بالاضطراب لمرأه هاتفة و هي تحاول السيطرة على نبرات صوتها المرتعشة:- معلش يا عفيف بيه ..تقصد ايه بلا انا هروح .. و لا هما هيبجوا ..!؟..
هم بأن يوضح لها مقصده و هو ينثر رزار المطر من على عباءته الصوفية السوداء .. الا انها استبقت الاحداث كعادتها مبتسمة في ثقة و هي تتطلع للجو بالخارج:- اه .. حضرتك اكيد قصدك علشان المطر و الجو صعب شوية .. لا انا هقدر اروح لهم ولا اكيد واحدة قدرت تخرج من بيتها عشان تيجى للكشف في الجو ده .. مش كده..!؟..
خلع عباءته ووضعها جانبا و اتجه لطاولة الغذاء يتسيدها كالعادة و يهم بتناول الطعام في لامبالاة هاتفا:- لااه .. مش كِده يا داكتورة ..
جلست على مقعدها المعتاد على الطاولة دون ان تمس الطعام ناظرة اليه مستفهمة ليتجاهلها تماما مستمتعا بطعامه و كأنها لا تجلس قبالته تتحرق لمعرفة السبب الذي يدعي العلم به بكل لهفة .. اللعنة عليه .. هتفت بنفسها ساخطة وودت لو تقلب المائدة بِما عليها فوق رأسه المعممة لعلها تشفي بعض من غليلها وتطفئ نار الغضب المستعرة الان بداخلها كالجحيم ..
باغتها متسائلا ليقلب هو طاولة افكارها رأسا على عقب:- مجلتليش يا داكتورة .. هي ايه حكاية الخيار والطماطم اللي دايرين يجولوها ف النچع دي ..!؟.
امتقع لونها و اضطربت بشكل واضح و حارت أين توجه أنظارها بعيدا عن نظراته المسيطرة التي تكبل نظراتها بقيود حديدية لا تستطيع منها فكاكاً ..
همست عندما استطاعت إيجاد صوتها:- ابدا .. دي حكاية كنت بحاول اقرب بيها فكرة ان الراجل هو المسؤول عن تحديد نوع الجنين ..طبعا بعد إرادة ربنا سبحانه و تعالى..
هتف أمراً:- عايز اسمعها الحكاية دي ..
هتفت مراوغة:- ما انت اكيد سمعتها من اهل النجع .. مش بتقول دايرين يحكوها !؟..
اكد فى اصرار:- عايز اسمعها منيكِ يا داكتورة !؟..
تلعثمت حروفها و هي تشرح له ببساطة ما أخبرت به النساء .. ليصمت للحظات ثم ينفجر ضاحكا بشكل مفاجئ أفزعها و جعلها تجفل منتفضة موضعها ..
و أخيرا هدأت نوبة ضحكه ليهتف:- فكرة حلوة يا داكتورة .. لكن ملامح وجهه انقلبت بشكل مفاجئ هاتفا في لهجة ساخرة:-بس تفتكري كان دِه وجتها يا داكتورة جبل ما تكسبى الحريم لصفك !؟.. اكيد الجضية خسرانة ..
هتفت مستفسرة:- مش فاهمة حضرتك تقصد ايه ..!؟.. انا كنت بوعيهم بحقايق علمية مش كلام من تأليفي ..
هتف بلهجة قاسية:- الحجايج اللى بتتكلمى عنيها دِى خلت الرچالة تمنع حريمها انها تاجيكي .. كل واحد جال لمرته لما سمعها بتكرر حجايجك العلمية .. متروحيش للداكتورة الخرفانة دِي تاني ..
هتفت في اعتراض مصعوقة:- خرفانة ..!؟
أكد ساخرا:- دي الرچالة اللي بتجول ..
ساد الصمت للحظات شعر انه اثقل عليها بنقده فتنهد وتحولت نبرته للهدوء هاتفا:- انا عارف يا داكتورة انك بتحاولي تساعدي .. كتر خيرك .. بس هنا .. ف جلب الصعيد و ف نچع بعيد بحضن الچبل .. مش من الساهل ان الناس تصدج اى كلام يتجال لهم و لو كانوا شايفين انه حجيجى ذي الشمس ما هي فوجهم حارجة روسهم و بالخصوص لو بيخالف عادة اتربوا عليها وورثوها من چدود الچدود .. و كمان بتمس كرامتهم كرچالة .. اهى دي بجى بالذات .. حطي تحتيها مليون خط…
نظرت له و كأنها تراه للمرة الأولى وكأنها تستوعب ان هذا الرجل الواقف هناك يمتلك عقلية تختلف تماما عن تلك العقلية المتحجرة التي ظنت طويلا انه يمتلكها .. من يتكلم الان رجل واع على قدر عال من المعرفة و قادر تماما على فهم طبيعة أهله و عشيرته التي يتزعمها ..
أخرجت نفسها من بين براثن افكارها التي كانت تتمحور حوله و كادت تلتهم جل انتباهها لتهتف معترضة:- يعني معنى كده ايه..!؟.. نسيبهم بقى فالجهل ده تسيطر عليهم الموروثات القديمة!؟... و لا نقدم لهم الصح و اللي بيقوله العلم حتى و لو كان صادم ف البداية ..!؟..
أكد بهدوء واثق:- طبعا منسبش الچهل يسيطر .. لكن نختار الطريجة الصح اللي تناسب عجولهم عشان توصل لهم المعلومة وتترسخ عنديهم بالتدريچ لحد ما تبجى من ثوابتهم ..
همت بالتساؤل من جديد .. ليقاطعها دخول مناع المفاجئ و ثيابه تقطر ماء من جراء المطر بالخارج هاتفا في لهفة و اعتذار:- اني أسف يا عفيف بيه انى دخلت هاچم كِده .. بس مرتى باينها بتولد و محتاچين الداكتورة ضروري ..
هتف عفيف متعاطفا:- و لا يهمك يا مناع .. ارچع انت لمرتك و انا هجيب الداكتورة و احصلك ..
هتف مناع متعجبا:- حضرتك بذات نفسك هاتاچى .. !..
هتف عفيف:- وااه .. اومال اسيب الداكتورة تاجى لحالها و ف الچو الواعر دِه .. !؟.. روح ياللاه لمرتك و احنا وراك على بال ما تچهز الداكتورة حالها و نحصلوك...
هتف مناع ممتناً و هو يندفع للخارج من جديد:- ربنا يبارك لك يا عفيف بيه ..
لم تكن دلال تحتاج لأى توجيه من اى نوع فما ان سمعت ان سعدية على وشك الوضع حتى نهضت متأهبة و ما ان انتهى مناع من حديثه مع عفيف حتى اندفعت هي للمطبخ الكبير عابرة خلاله للمندرة و منها اعتلت الدرج لتجهز امرها فها هي الان في اختبار حقيقى امام الجميع لتثبت لهم ان العلم سينتصر فى النهاية ..
لازال المطر يهطل بغزارة و هي تندفع لخارج المندرة ليطالعها عفيف هاتفا:- چاهزة يا داكتورة .!؟ خدتي كل اللى ممكن تحتاچيه ..!؟..
اكدت بايماءة من رأسها و هي تجذب سترتها الثقيلة على جسدها عندما ضربها الهواء البارد و هي تغادر للخارج من الباب الخلفي لتسير بجانبه .. توقعت ان بيت مناع لا يبعد كثرا عن تلك التلة المرتفعة المقام عليها البيت الكبير موازيا للجبل الغربي لكنها كانت مخطئة عندما أشار لها عفيف لتركب تلك الكارتة التي تجرها الأحصنة و التي كانت مظلتها مشرعة كقبة يحتميان تحتها و تقيهما المطر ..
كيف يمكنها التصرف الان .. هي لم تأتي الى هنا الا بأحذيتها المعتادة والتي تتميز بكعوبها العالية نوعا ما بجانب ان مسند القدم لتلك العربة عال عن المعتاد ..
همست ساخرة فى نفسها:-لازم يكون عالى .. عشان يناسب طول صاحب العربية .. لكن الاقزام اللي زيي اخرهم يتعلقوا ورا الكارتة ..
شعر هو بحيرتها و ما كان الوقت متاح للمزيد من التساؤل و الحديث لذا صعد هو من الجانب الاخر و ووقف في منتصف العربة و انحني فجأة مادا كفه لها هامسا:- هاتي يدك يا داكتورة ..
هتفت في ذعر وهى تضم كفها لصدرها:- ليه ..!؟..
كاد ينفجر ضاحكا لولا بعض من ثبات جعله يؤد ضحكاته هاتفا:- عشان تطلعي الكارتة .. تفتكرى ليه يعني ..!؟.. لو تعرفي تطلعي لحالك ماااشي .. بس هِمى عشان اتأخرنا على مناع ..
ترددت في مد كفها و لكن أخيرا حزمت امرها و دفعت بكفها لأحضان كفه الممدودة امام وجهها وكأنه يطلب منها قراءة طالعها ..
لحظة .. كما هو الحال بينهما دوما.. لحظة ووجدت نفسها مدفوعة بقوة الى داخل العربة تجاوره كتفا بكتف في محيط العربة الضيق .. هتف هو لسائق الكارتة بالتحرك .. كان هذا كثيرا على أعصابها و قوة احتمالها مما دفعها لتهتف متسائلة بعد عدة دقائق:- لسه فاضل كتير عشان نوصل لبيت مناع ..!؟..
هز رأسه نافيا و هو يقول:- لاااه خلاص .. ادينا وصلنا للمعدية ..
هتفت في صدمة:- معدية ..!؟.. معدية ايه ..!؟..
لم يجبها و لكنه أوقف العربة ليأمر سائقها الا يغادر موقعه مهما طال غيابهما .. و استدار ليساعدها في النزول لكنها كانت الأسرع لتعتمد على نفسها و تنزل بمفردها هذه المرة و حذاءها يعاندها بكعبه العالي ..
كان قد وصل عندها يمد كفه لمساعدتها عندما وجدها بالفعل تخرج من العربة بلا حاجة لمساعدته ابتسم لعنادها و بالفعل انزلت قدمها الأولى لتلامس الأرض و كادت تتبعها بالثانية في نجاح الا ان ذاك الكعب الاحمق علق بمسند القدم لتتعرقل و تندفع للأمام و هي تمني نفسها بسقوط مدو في وسط كل ذاك الوحل الذى ملأ الأرض بفعل الأمطار ..
لكن كان هو الأسبق ليلحق بها .. و تسقط أيضا لكن هذه المرة بين احضانه .. يحيطها بذراعيه ..
لماذا لا تسير أمورها بشكل جيد و سليم ..!؟.. لماذا في وجوده تحدث كل كوارثها التي تبدو و كأنها تقيم معه معاهدة ظهور في حضرته !؟.. اللعنة .. همست وهى تعتدل بعد ان خلصت قدمها المتعلقة .. و كان دوره ليهمس بذاك الصوت الذى أصبحت تميزه ظاهرا جليا في بعض الأحيان يحمل نبرات متحشرجة مرتبكة على غير عادته مع اهتزاز واضح بتفاحة ادم العالقة كمصيرها بمنتصف حلقه:- اتفضلي يا داكتورة ..
أشار للمعدية التي ما كانت سوى قارب خشبي صغير سيحملهما للضفة الأخرى من ذاك المجرى المائى الصغير الاتساع ..
كان التحرك بحذاءها كارثي فقد كان كعبه يغوص في الوحل متى تحركت و أخيرا تنفست الصعداء عندما وصلت القارب .. مر عفيف لداخل القارب و مد كفه التي لم تستطع ان ترفضها في حالة كهذه.. كانت المرة الثانية في الدقائق الماضية التي تتلاقى فيها أكفهما .. وكادت تقسم ان لو للاكف حديث فإنها قد سمعته بين كفيهما الان ..كفه يهمس لكفها بعد لقاءه الأول .. مرحبا مرة أخرى .. وداعا لعلنا نلتقى قريبا من جديد ..
صعدا للمركب .. ليبدأ صاحبها المركبي في دفعها لتخوض الماء قليلا و أخيرا يدفع بنفسه داخلها .. ليقف و معه عصاه التي تزيد طولا عن عمق المجرى المائى فيدفع بها لأعماقه حتى تدفع المركب للأمام.. كان يفعل ذلك بسلاسة و يسر أذهلها وهي تراقبه في تعجب و لا تدرك ان هناك عيون تتفحصها و هي تبتسم في هدوء لتلك النظرات المغلفة بالدهشة التي تطل من عينيها السمراء .. و بدأ ذاك المركبي في الغناء بصوت شجى اخذها لبعد اخر تطلعت حولها في عدم تصديق شاعرة انها تدخل عالم مواز ما كانت لتدركه ولا بعين خيالها .. مركب و معدية و نهر وجبل شامخ و امطار .. و عفيف ..
وقعت عيناها عليه في تلك اللحظة لترتعش رغما عنها و تجذب الي جسدها سترتها الصوفية .. فلقد وجدته لا يحيد بنظراته عنها و كأنه شارد فيها و لم يدرك انها انتبهت لذلك .. او ادرك ولم يبال كعادته..
حادت بناظريها عنه تجاه المركبي وبدأت في الاستماع لغنائه الذى حاولت ان تستوضح معنى كلماته:-
فَرَطت جلعِي ما چانيش ريح
وعاودت ع البَر ناوي
ياما ناس زيِّنا مچاريح
لكين صابرة ع البلاوي
إوعى تجول للنـدل يا عـم
وان كان ع السرچ راكب
ولا حد خالي من الهم
حتى جلوع المـراكب..
وصولوا أخيرا للبر الاخر ليتبادل اكفهما الحديث اللحظي مرة أخرى و هو يساعدها على النزول من المركب و منه الى بيت مناع الذي لم يبعد عن شاطئ النهر كثيرا لكن السير بحذاءها ذاك كان أشبه بالخوض في بقعة زيت كبيرة و انت ترتدى حذاءً زلقاً..
ألتقطت أنفاسها أخيرا و تنفست الصعداء عندما وصلت لدار مناع المكونة من طابقين ..
ما ان رأهما مناع قادمين حتى هلل في لهفة مندفعا إليهما يحمل عن عفيف حقيبة دلال و التي اصر على حملها عنها و كم شكرت له ذلك وسط تلك الأجواء الموحلة التي كانت تسير فيها و كأنها تضع خطواتها على قشور من البيض مخافة كسرها ..
اندفع مناع لداخل الدار مصطحبا معه دلال يرشدها لغرفة زوجه التي كانت صرخاتها المتوجعة كفيلة بمعرفة مكانها دون الحاجة لإرشاد وعاد سريعا لعفيف الذى وقف ينتظر عودته المضطربة هاتفا:- متأخذنيش يا عفيف بيه .. اتفضل .. و الله دِه اني حصل لي البركة بمچية چنابك ..
دخل عفيف احدى الغرف الجانبية والتي كانت معدة مسبقا لاستقبال الضيوف ..
جلس في هدوء هاتفا في مناع:- روح شوف الأحوال و اعتبر اني مش موچود و ربنا يجومهالك بالسلامة ..
هتف مناع معترضا:- كيف يعنى!؟.. يبجى عفيف بيه النعمانى بداري و انب اعمل حالي كنه مش موچود .. و الله الليلة كنها ليلة عيد بتشريفك يا بيه ..
ابتسم عفيف لمحبة مناع الصادقة و التي تقطر من كلماته ليهتف به امرا:- طب روح شوفهم يكونوا عاوزين حاچة متجعدليش كِده .. و انى لو عوزت حاچة هنادم عليك ..
نفذ مناع الامر كما اعتاد دوما و اندفع خارج الحجرة متوجها لغرفة زوجه و التي علت صرخاتها حتى شقت عنان السماء ليقف متضرعا و هو يسأل دلال التي خرجت من الحجرة في تلك اللحظة باحثة عن احدى معداتها داخل الحقيبة التي تركها مناع بالخارج ليهتف بها الاخير:- مش خير برضك يا داكتورة و لا ايه ..!؟.. طمنينى ربنا يريح جلبك .. دي شكلها تعبان جووى..
اكدت دلال في لهجة حاولت ان تداري بها قلقها من صعوبة حالة سعدية:- اهدى يا مناع .. كله بأمر ربك .. قادر يقومها بالسلامة باذنه..
هتف مناع في جزع:- يبجى حالتها واعرة كيف ما انى واعيلها ..
لم ينتظر منها جوابا بل ترك المكان كله وولى مندفعا للأسفل حيث غرفة عفيف الذى زم ما بين حاجبيه ما ان طالعه وجه مناع الغائم فهتف مستفسرًا:- خير يا واد .. ايه في ..!؟..
تحشرج صوت مناع:- الحالة صعبة يا عفيف بيه .. وعيت لكلام الداكتورة .. ميطمنش .. يا رب ألطف بيا و بيها يا رب ..
نهض عفيف مشرفا عليه بقامته و مناع جالسا ارضا يضع رأسه بين كفيه في استسلام و ربت على كتفه في مؤازرة هاتفا:- واااه ..ما تچمد امال .. هتجوم بالسلامة .. بس جول يا رب ..
هتف مناع من أعماقه متضرعا:- ياارب .. يااارب يا عفيف بيه .. دى لو چرالها حاچة اروح وراها ..
تطلع اليه عفيف .. كانت كلمات مناع تحمل معان ما كان عفيف يدركها و لم يكن يعتقد انها موجودة من الأساس .. دوما قلبه ملكه هو لا سبيل ليهبه لاى من كانت .. و كان يتعجب من أقوال البعض عن العشق و الهوى .. و كم قرأ من روايات تصف تلك الحالة المبهمة التي ما وعاها قلبه يوما .. لكن لما يستشعر الان و في تلك اللحظة ان كلمات مناع ما عادت غريبة على إدراكه و ان قلبه بدأ يتفهمها .. و انه بدأ يفك شفراتها الغامضة ..
أصوات زغاريد منطلقة أخرجته من شروده و جعلت مناع ينتفض مندفعا باتجاهها غير مصدق ما تنبئ به .. وصل لباب الغرفة التي تحوي زوجته يتطلع بأعين زائغة منتظرا البشارة لتعاجله امه هاتفة في سعادة تكاد تقفز فرحا:- ألف مبروك يا ولدي .. واد ذي البدر الله اكبر ..
واعادت إطلاق زغاريدها المدوية من جديد و قد وضعت الوليد بين ذراعىّ والده الذى اغرورقت عيناه بالدموع و هو يضمه لأحضانه .. و في غمرة سعادته هتف في جزع:- و سعدية ياما .. زينة .. !؟..
هتفت امه تطمئنه:- زينة يا ولدي وذي الفل .. الداكتورة ماشاء الله عليها .. لولاها ما كنّا عارفين ايه اللى كان هيُحصل ..
كانت دلال لازالت بالداخل ترعى سعدية و لم تنته بعد .. مما دفع مناع لينزل الى عفيف حاملا ولده في فرحة غامرة ليضعه بين ذراعيه .. تناوله عفيف في حذّر ناظرا اليه في سعادة .. لكم تمنى ان يحمل أطفال ناهد و من بعدهم اطفاله .. لكم يعشق الصغار وهم بتلك البراءة والنقاء ..
انحنى في وجل يقبل جبين الطفل في حنو و همس لمناع حتى لا يوقظه:- نويت تسميه ايه باذن الله!؟..
اندفع مناع هاتفا في حماسة:- هسميه عفيف ... بعد إذن جنابك طبعا ..
قهقه عفيف في سعادة و هو يعاود النظر للطفل بين ذراعيه هاتفا في فخر وهو يخرج مبلغا ماليا كبيرا من جيب جلبابه ليضعه بداخل غطاء الطفل وهو يعيد الوليد بين يدىّ والده من جديد:- مبروك ما چالك يا مناع .. يچعله الولد الصالح يا بوعفيف ..
انتشى مناع من اللقب الجديد و رغم ذلك هتف معترضا:- ده كَتير جووى يا عفيف بيه دِه كفاية مچيتك.. ربنا يخليك لينا و يبارك لنا ف عمرك ..
هتف عفيف في هدوء و هو يربت على كتف مناع:- لا كَتير ولا حاچة .. و بعدين هو عشانك .. دِه عشان عفيف الصغير ..
كانت تقف على عتبة الباب منذ لحظات .. أنهت مهمتها بالأعلى و اطمأنت ان حالة سعدية مستقرة و هبطت الدرج لتستعد للرحيل .. ليطالعها ذاك المشهد الذى غزا قلبها بشكل عجيب .. مظهره الغير معتاد و هو يحمل طفل مناع جعل ضربات قلبها تتضاعف بسرعة صاروخية و ملامح وجهه تلك التي كانت تحمل كم غير طبيعى من الحنو والرأفة جعلت روحها تئن مترنحة تكاد تسقط صريعة لتلك الأحاسيس التي اثارتها تلك الملامح..
كم وجه يملك ذاك الرجل ..!؟.. يكاد يدفعها للجنون بحق و هي ترى أوجه عديدة كلها اغرب و اكثر تناقضا من ان تجتمع في شخص واحد .. رجل واحد .. اسمه عفيف النعمانى ..
لم تعد قادرة على البقاء اكثر مكانها وترك الحبل على غاربه لأفكارها و مشاعرها الفوضوية اللامسماه تجاه ذاك الرجل لذا اندفعت داخل الغرفة ترسم ابتسامة بلهاء على شفتيها هاتفة بصوت ليس لها:- مبروك يا مناع .. و حمدالله على سلامة سعدية .. يتربي في عزك ..
هتف مناع في امتنان:- البركة فيكِ يا داكتورة .. و الله ما عارف اجول ايه ..!؟.. و لا اوفيكِ حجك كيف!؟..
اتسعت ابتسامتها و هي تكاد لا تقف على قدميها من شدة الإرهاق:- متقلش حاجة يا مناع .. انا معملتش حاجة بجد.. ده فضل ربك ..
واتجهت برأسها لتنظر للطفل النائم بوداعة بين ذراعىّ ابيه لتمد كفيها تحمله في شوق .. و تساءلت في جوف أعماقها هل سيمن عليها الله يوما لتحمل اطفالها كما تحمل أطفال الغير بتلك المحبة ..
استأذن مناع في عجالة و خرج من الغرفة مندفعا ليتركها تتفقد الطفل في حنو بالغ و قد نسيت تماما انه يقف يتابع بنظراته المتفحصة كيف تقف مأخوذة كليا بالعفيف الصغير و تأوّهاته المحببة .. و التي دفعت الابتسامة لشفتيها و دموع الفرحة لمآقيها ..
همسه ايقظها من سبات أحلامها الوردية و هو يقترب منها قائلا:- شكلك تعبتي يا داكتورة .. مش نرچعوا بجى ..!؟.. و لا لسه في حاچة جدامك هنا ..!؟..
ما ان همت باجابته حتى انتفضت في ذعر تلتصق به و هي تضم عفيف الصغير بينهما ..
صوت الطلقات النارية الحية التي كان يطلقها مناع بالخارج فرحة بميلاد طفله جعلتها تنتفض ولم يكن بمقدورها ان تأت بأي رد فعل ممكن و خاصة و الطفل بين ذراعيها ..فانكمشت على نفسها و هي تغلق عيونها بقوة ..
كان من العجيب ان تشعر فجأة ان صدى الطلقات قد خفت و بدأت في الاسترخاء رويدا .. رويدا .. و فتحت عيونها تدريجيا لتصطدم بعينيه المتطلعة اليها و كفيه اللتان أحاطتا بجانبي وجهها ضاغطة قليلا على اذنيها فوق حجابها بشكل لم تستشعره لضغطها على أسنانها جزعا.. فاصلة إياها عن عالم الأصوات الخارجية ..
تطلعت الى عمق عيناه التي لا تستطيع ان تحيد بنظراتها بعيدا عنهما .. فضولها يقتلها لتفسر مغزى تلك النظرات التي ما عادت قادرة على تحمل ألغازهما اكثر من هذا .. لكن فجأة انقطع الوصل كما بدأ عندما دخل مناع هاتفا في سعادة فاقت الحد و هو يتناول ولده من بين ذراعيها ناظرا إليهما في امتنان:- عجبال ما نشيل عيالكم وتفرحوا بيهم ..
لم تعد تستطيع ان تنتظر لحظة واحدة امام سيل النظرات التي غمرها من تلك العيون الفحمية و خاصة بعد كلمات مناع الأخيرة ..
اندفعت في عجالة خارج الدار ليندفع عفيف لاحقا بها .. و هو يجذب الحقيبة التي تناولتها في طريق خروجها ليحملها عنها ..
وقفت لترتدى حذاءها الموحل و الذى خلعته تأدبا على عتبات الدار لتتوقف قبل ان تدس قدمها به لهتافه و هو ينحنى جاذبا الحذاء ليكسر كعبه في سهولة و كأنه ينتزع قشة عالقة بثيابه ..
وضع الحذاء أرضا بعد ان انهى مهمته لينظر اليها مؤكدا:- كِده هيريحك ف المشى ف الوحل دِه على طول الطريج للمعدية ..
دست قدميها في الحذاء بضيق و هي لا تصدق انه فعل ذلك بحذاءها الغالي الجديد و الذى اشترته مضحية بمرتب شهر كامل .. اللعنة عليه .. و على الأمطار و الوحل ..و على سيطرته الخانقة ..
استطاعت الوصول للمعدية و دخولها بسلام دون الحاجة لمعاونته .. و الحق يقال .. كان لديه كل الحق في خلع كعبىّ الحذاء و الذي اصبح المشى به اسهل كثيرا و ايسر مما مضى ..
عاودت الأمطار الهطول من جديد بعد ان توقفت لفترة .. لتشعر بالبرد و الماء يتخلل عظامها .. و تنبهت أخيرا انها قد نسيت سترتها الثقيلة التي خلعتها ما ان دخلت لسعدية الحجرة و أصبحت بحاجة للحركة بدون قيدها المحكم على جسدها ..
تنبه عفيف لارتجافاتها ليهتف حانقا:- فين الچاكت بتاعك ..!؟..
اكدت في خجل كطفلة يؤنبها ابوها:- قلعته في بيت مناع و نسيته..
زمجر في غضب ليتحرك بحذر داخل المعدية التي كانت تتمايل بعنف في تلك اللحظة حتى وصل اليها ليلقي عليها عباءته الصوفية و يعود ليجلس موضعه من جديد حتى يستقيم اتزان المركب ..
أغمضت عيناها و هي تشعر ان دفء عباءته وحده كان قادرًا على حمايتها بهذا الشكل الرائع ..
أحاسيس عجيبة تسربت لروحها و دفء العباءة المخلوط بعطره يدغدغ مشاعر مستترة ما خبرتها يوما و ما كانت على علم بوجودها من الأساس ..
و بدأ المركبي في الشدو من جديد:-
خلخال خطر ع الجدم ..
كل المحاسن فيه
والصايغ اسمه حسن..
صانع جميع مافيه
دايما على الحمل صبار
الـلـي أصـوله زكية
ويخشى من اللوم والعار
ومـن انكشاف الطوية..
تنهدت في راحة و تورد خداها بلون الزهر عندما ادركت انها الان تشعر و كانما هي بالفعل قابعة بين ذراعيه .. قريبة من قلبه .. تطلع على مكامن نبضه و تحاول الوصول لأعماق روحه التي تحيرها ..
انتفضت مستفيقة من رحلة المشاعر تلك بفعل دفء عباءته على ندائه باسمها ربما للمرة الثالثة ..
ابتسم في ثقة كعادته ابتسامة غيرت خريطة العالم في لحظات حتى انها ما عادت تدرك أين يمناها من يسراها.. و مد كفه ليخرجها من المركب فقد وصلا بالفعل حيث تركا الكارتة .. مدت كفها وهي تلتحف العباءة الثمينة و تضمها اليها وعاد حديث الأكف من جديد مرحبا و مودعاً في نفس ذات اللحظة ..
ركبا العربة التي ايقظ عفيف سائقها مناديا بإسمه لينتفض منتبها بكامل وعيه ليعودا لبيت النعمانى .. و على اعتاب المندرة حيث اصر على توصيلها دفعت بالعباءة الغالية مرغمة عن كتفيها و لم تعبء لاعتراضه بدورها و هي تضعها بين كفيه شاكرة إياه و تهرول في الدخول و الهرب منه فقدت اكتفت اليوم من محيا عفيف النعمانى الذي يؤرقها في صحوها و منامها ..
عاد لداخل البيت لتعاجله الخالة وسيلة:- حمدالله بالسلامة يا ولدي .. هااا .. مرت مناع چامت بالسلامة ..!؟..
أكد عفيف و هو يتوجه لاعلى الدرج:- اه .. الحمد لله .. بفضل الداكتورة .. چامت بالسلامة و ربنا رزج بعفيف الصغير ..
هتفت الخالة وسيلة:- الله اكبر .. الله اكبر .. عجبال ما يا رب يمد ف عمرى و اشيل عوضك و افرح بشوفته جادر يا كريم ..
ابتسم عفيف و هو يختفي باعلى الدرج هاتفا:- كله بأمره يا خالة .. كله بمشيئته ..
و تذكر فجأة امرا هام فعاد لاعلى الدرج منحنيا هاتفا باسمها:- خالة وسيلة ..!؟..
ظهرت من جديد ملبية في سرعة:- آمر يا عفيف بيه ..
أكد عليها هاتفا:- روحي للداكتورة دلال و خليكِ معاها و حطيلها اكل دى ملحجتش تتغدى و احنا اها داخلين ع المغرب ومش هوصيكِ عليها .. انتِ عارفة ..
هتفت في محبة:- لااه توصيني برضك .. دي ف عيني من چوه .. انا رايحة لها اهااا .. انت معيزش حاچة جبل ما اروح اعملهالك ..
أكد و هو يختفى بأعلى الدرج من جديد:- لااه يا خالة .. تسلمي ..
اندفعت الخالة وسيلة منفذة ما امرها به .. ليدخل هو لغرفته ملقيا جسده المرهق على كرسيه المفضل ليتنهد في راحة .. لحظات و شعر باسترخاء جسده طلبا للراحة فاتجه للحمام يدفع عن نفسه ذاك البرد الذى تخلل جسده من تلك الرحلة الطويلة لبيت مناع ذهابا و إيابا تحت المطر و كان بالفعل حماما من الماء الساخن كافيا ليشعر ان الدماء قد عادت تجرى في عروقه من جديد ليعود للغرفة مرتديا جِلْبابا نظيفا و ما ان هم بالتوجه لفراشه ليتمدد عليه قليلا قبل ان يحين موعد العشاء حتى وقعت عيناه على عباءته التي دثرتها و أحاطت جسدها الذى تراقص امام عيناه يوما كزهرة تمايلت على أغصانها وبتلاتها كانت تلك التنورة الواسعة التي رفرفت حولها في تمايل مُسكرلخطواتها المنتشية ..
اقترب في وجل لموضع العباءة على الكرسي حيث ألقاها عندما دخل الغرفة .. رفعها الى وجهه مغرقا إياه في طياتها يتحسس عطر روحها العالق بنسيجها لعله يبوح بمكنونات قلبها العصي ..
استنشق بعمق ما تبقى من عطرها من بين الثنايا لتهيم روحه في دوامات من الرغبة في البقاء قربها و ان لا يفارق محياها ابدا .. لكنه انتفض أخيرا مستغفرا و هو يدفع العباءة عنه ملقيا إياها بطول ذراعه.. فما عاد يحتمل مدى تأثيرها الدامى عليه ..
↚
تدثرت جيدا بمئزرها و هى تشعر ان البرد ينخر عظامها بعد تلك الرحلة العجيبة الى ومن البرالاخر حيث بيت مناع .. ابتسمت ابتسامة حالمة و هى تتخيل كل تفصيلة من تفاصيل تلك المغامرة و اندفعت اسفل غطاء السرير الوثير ربما يجلب لها بعض من دفء طاردا ذاك الشعور العجيب بالبرودة الذى يجتاح أعماقها .. احتضنت كوب الزنجبيل الذي أعدته لها الخالة وسيلة ليساعدها على استعادة الدفء لأطرافها و مدت كفها للرواية التي كانت قد قررت مطالعتها الليلة.. فتحت الرواية و بدأت في القراءة..
اندمجت بالاحداث و الشخصيات لحد كبير و بدأ الدفء يتسلل اليها بالفعل مشعرا إياها بالرغبة في النعاس.. كادت ان تغلق الرواية الا ان اسطر جانبية مكتوب بخط يدوي منمق استوقفتها.. حملقت في الأحرف المكتوبة على جانب الصفحة و بدأت فى القراءة هامسة في وجل:-
ياليتنى يوما رأيتكِ
قبل أَن تأتى الحروفُ.
وتعرفُ الأرضُ الحلالَ من الحرامْ
كنتُ انتزعتُ القتلَ من سُننِ الحياةِ
أقمتُ للعشاقِ مملكةً
وقصوراً من وئامْ
وتركتُ عمرى فى يديكِ سحابةً
تَمْضِى وتمطرُ كلما شاءتْ
وتغسلُ كل أدران العداوةِ والخصامْ
شهقت فى تعجب و تساءلت .. هل هو من كتب تلك الابيات على حاشية الكتاب !؟.. هل يحفظ الشعر و يكتبه حقا !؟..
أسرعت تفر صفحات الرواية في لهفة فلابد ان هناك اسطر تستثير به دوافع لكتابة تلك الابيات .. سقطت عيناها على المزيد من الابيات فهمست و دقات قلبها تتضاعف في سعادة عجيبة لا تدرك لها سببا:-
أحبك جدا وأعرف أني تورطت جدا
وأحرقت خلفي جميع المراكب
وأعرف أني سأهزم جدا
برغم الدموع ورغم الجراح و رغم التجارب
وأعرف أني بغابات حبك وحدي أحارب
وانني ككل المجانين حاولت صيد الكواكب..
اخذت من جديد تقلب و تقلب بين ضلفتيّ الرواية لتكتشف ابيات جديدة ما عادت تقرأ الرواية او تهتم لتفاصيلها بقدر ما اصبحت مولعة بالبحث عن اثار عفيف بين جنباتها و كانما قررت ان تقرأه هو و تفض أسراره و دواخله .. ما عادت الرواية تعنيها و لا الاحداث تثير انتباهها بقدر ما اصبح شغفها الاول هو كلمات عفيف المخبأة على حواف الصفحات.. لا تعلم كم ظلت على حالها من الاستطلاع حتى زارها النوم اخيرا و هى تتدثر اشبه بأحد رؤوس الملفوف فقدت شعرت ان البرد بدأ يزحف لأطرافها من جديد و ان النعاس بدأ يجذبها بقوة لعالمه حتى انها لبت الدعوة و هى تحتضن الرواية لصدرها و كانما تحتضن كلماته التي ودت لو كانت لها.. ابتسمت فى وداعة للخاطر و راحت في سبات عميق ..
همهم نديم بإستمتاع و هو يلوك اخر لقمة من طعامه بفمه مستمتعاً لتبتسم ناهد في خجل:- ايه يا باشمهندس .. كل الانبساط دِه عشان شوية عدس .. اومال لو كان المشمر و المحمر كنت عِملت ايه...!؟..
ابتسم نديم وهو يسند ضهره للأريكة خلفه في استرخاء هاتفا:- و ايه يعنى عدس.! نعمة .. و كمان لما يكون معمول بالطعم الجامد ده يبقى اكيد اكبر نعمة ..
وغامت عيناه فجأة بنظرات ملؤها الشجن لتنتبه هي الى تغير مزاجه لتتطلع اليه في قلق الا انه لم يطل حيرتها ليهمس قائلا:- بعد ما ماتت امي الله يرحمها فضي علينا البيت انا و دلال اختي .. كنّا بنشتهي اكلة سخنة لسه نازلة من ع النار معمولة بمحبة بأيد الغالية..
كنّا ممكن نقعد بالأسبوع على اكل بايت أو فول وطعمية ..طبعا الحالة المادية كانت مش ولابد .. معاش ابويا علينا انا ودلال .. هي كانت في تانية طب وانا ثانوية عامة .. دراستها صعبة ومش سايبة لها وقت لأي حاجة جنبها بجانب انها مكلفة و انا بقى بمصاريف دراستي و دروس الثانوية العامة .. لدرجة ان دلال كانت بتفكر جديا تسيب الكلية و تنقل اي كلية اربع سنين عشان توفر .. بس انا رفضت قلت لها لو سبتي الكلية .. انا كمان مش هكمل تعليمي وهنزل اشتغل.. كانت ايّام صعبة .. بس لولاها جنبى معرفش كنت هعديها ازاي..!..
تطلعت ناهد اليه في تعاطف هامسة:- ربنا يخليكم لبعض .. شوجتني أشوفها ..
ابتسم و قد عاد من شجن ذكرياته هاتفا بحماس:- انا متأكد إنكم هتبقوا أصحاب ..
همست دون ان تدرى انه ادرك همهماتها و سمعها بوضوح:- دِه لو ربنا أذن و الوشوش اتجابلت ..
صمت لحظة ثم نهض للحمام ليغسل يديه من اثر الوجبة الدسمة و ما ان عاد حتى وجد ورقة عليها بعض الطلبات الضرورية و فوقها وضعت هى خاتمها الذهبي ..
تصنع عدم الفهم هاتفا وهو يراها قادمة لحمل باقى الاطباق للمطبخ:- هى دي الطلبات .. هبقى انزل اجبها .. بس خدى بالك نسيتي الخاتم بتاعك هنا لحسن يتنطر في اي حتة ويضيع ..
ترددت قليلا وهو يقدم لها خاتمها لكنها لم تمد كفها لأخذه هاتفة:- انا اللى حطيته يا باشمهندس .. دي مساهمة بسيطة مني
فالمصاريف اللى مش عارفين هطول لأمتى ..و لا ..
هتف في ضيق:- متشكر .. لما ابقى اقصر ابقي فكري تساعدي ..
هتفت محاولة الدفاع عن وجهة نظرها:- مش انت جلت اننا ف مركب واحدة .. يبجى كل واحد يجدم اللى يجدر عليه .. و ده اللي ف مجدورتي..
هتف مؤكدا:- اه احنا ف مركب واحدة ..
وابتسم مازحا ومستطردا وقد أيقن حسن نواياها فأشارالى صدره فى تعالى هاتفا:- بس انا القبطان على فكرة .
ابتسمت ولم تعقب و دون ان تع وجدته يمد كفه ليلتقط كفها دافعاً بخاتمها في بنصرها من جديد .. ارتجفت كفها بين كفيه في اضطراب لفعلته .. حتى هو ادرك متأخرا انه قد تجاوز حده المعتاد معها .. فترك كفها وهو يتطلع اليها في حيرة وتعجب ..مما دفعها لتستأذن في عجالة و تندفع لحجرتها تلوذ بها ..
طرقات متتابعة على باب حجرته جعلته ينتفض فزعا يتطلع حوله في تعجب قبل ان يتنبه ويستيقظ بكامل وعيه مندفعا ليفتح الباب على عجالة هاتفا:- ايه في !؟..خبر ايه!؟..
انفرج الباب بقوة عن محيا الخالة وسيلة الملهوف هاتفة في ذعر:- ألحجني يا ولدي .. الداكتورة دلال..
سأل في لوعة:- مالها الداكتورة!؟ خير ..!؟..
لم ينتظر منها جوابا بل اندفع للدرج وما ان خط أولى خطواته هابطا حتى تذكر ان الذهاب لحجرتها من حجرة مكتبه اقرب و أسرع فعاد مسرعا متوجها للمكتب و مندفعا من بابه و الخالة وسيلة في أعقابه تجاهد لتلحق بخطواته المتسعة رعبا و حفيف جلبابه الذى كان يشى باندفاعه الغير معتاد لشخص مثله يمشى دوما واثق الخطوة يعلو مدللا على هرولته المضطربة ..
وصل لعتبة بابها و ما ان هم بالاندفاع للداخل حتى جذبه تعقله ليعود القهقري ينتظر وصول الخالة وسيلة بفارغ صبر ..
أخيرا وصلت لاهثة و دفعت باب الحجرة لينفرج قليلا حتى تدخل ليلمح دلال ممددة على فراشها تتأكلها الحمى .. و يبدو انها تهزى بهمهمات تصله حيث موضعه الذي وقف متسمرا فيه يغض الطرف بأعجوبة.. لا هو قادر على الاقتراب او حتى الوقوف هكذا مكتوف الأيدي و أخيرا هتفت الخالة وسيلة وهي تضع كفها على جبينها صارخة:- لساتها جايدة نار.. انا جمت اصلي الفچر ذي كل ليلة و جلت هتحصلني لكن لما صليت و رچعت سمعت صوتها جلت بتنادم علىّ لكن لجيتها غايبة وبتخترف و جتتها مولعة چريت اجولك ..
اندفع عائدا لحجرته لتستوقفه الخالة وسيلة هاتفة:- على فين يا ولدي..!؟...
أكد وهو يدلف للحجرة خالعا جلباب نومه ليضع اخر ويندفع خارجا يضع عباءته على كتفيه:- رايح اجيب داكتور بالعربية .. الداكتورطارج داكتور الوحدة ف أچازة ..
ضربت على صدرها فزعة:-.. هتسوج دلوجت ع الأرض المربربرة و ف العتمة دي ..!؟..
هتف و هو يدفع باب الدار خارجا:- امال يعنى هنسبوها كِده !؟.. ادعيلى بس ألجى داكتور يرضى ياچى معاي الساعة دي ..
خرج مندفعا بعربته والذي انتفض غفيره الناعس بديل مناع الذي استأذنه للبقاء الليلة بقرب زوجه و وليده لنفيرها والذى أطلقه ليفتح البوابة ..
خرج مسرعا على الطريق يحاول الوصول لأقرب مدينة يمكنه جلب طبيب منها و العودة به مجددا .. كان مظهرها وهي مستلقية تنازع بهذا الشكل يمزق نياط قلبه .. لابد وانه البرد والمطر اللذان تحملتهما في طريقها لبيت مناع و خاصة في وقت العودة عندما نسيت سترتها الصوفية الثقيلة ببيت مناع و عادت دونها ..
شعر بارتجافة فجذب العباءة على جسده اتقاءً لبرد الجبل القارص الذى تسلل اليه من خارج العربة في مثل تلك الساعة من الفجر ليكتشف انها نفس العباءة التي ألقاها على كتفيها اثناء رحلة العودة و التي أطاح بها جانبا عندما ادرك ان رائحة عطرها التي أصبحت جزءً منها هي من سلبت وقاره و قضت على ثباته ..لقد تناولها دون ان يعى لحظة اندفاعه ليرتديها وهو يخرج ..الان هو يتشبث بها اكثر.. يحيطها بجسده اكثر .. يلتحف بها اكثر.. لعلها تدفئ ذاك البرد الذي يتسلل لقلبه ما ان يتذكر محياها الشاحب على فراشها ..
همهم نديم بإستمتاع و هو يلوك اخر لقمة من طعامه بفمه مستمتعاً لتبتسم ناهد في خجل:- ايه يا باشمهندس .. كل الانبساط دِه عشان شوية عدس .. اومال لو كان المشمر و المحمر كنت عِملت ايه...!؟..
ابتسم نديم وهو يسند ضهره للأريكة خلفه في استرخاء هاتفا:- و ايه يعنى عدس ..!.. نعمة .. و كمان لما يكون معمول بالطعم الجامد ده يبقى اكيد اكبر نعمة ..
وغامت عيناه فجأة بنظرات ملؤها الشجن لتنتبه هي الى تغير مزاجه لتتطلع اليه في قلق الا انه لم يطل حيرتها ليهمس قائلا:- بعد ما ماتت امي الله يرحمها فضي علينا البيت انا و دلال اختي .. كنّا بنشتهي اكلة سخنة لسه نازلة من ع النار معمولة بمحبة بأيد الغالية..
كنّا ممكن نقعد بالأسبوع على اكل بايت أو فول وطعمية ..طبعا الحالة المادية كانت مش ولابد .. معاش ابويا علينا انا ودلال .. هي كانت في تانية طب وانا ثانوية عامة .. دراستها صعبة ومش سايبة لها وقت لأي حاجة جنبها بجانب انها مكلفة و انا بقى بمصاريف دراستي و دروس الثانوية العامة .. لدرجة ان دلال كانت بتفكر جديا تسيب الكلية و تنقل اي كلية اربع سنين عشان توفر .. بس انا رفضت قلت لها لو سبتي الكلية .. انا كمان مش هكمل تعليمي وهنزل اشتغل.. كانت ايّام صعبة .. بس لولاها جنبى معرفش كنت هعديها ازاي..!..
تطلعت ناهد اليه في تعاطف هامسة:- ربنا يخليكم لبعض .. شوجتني أشوفها ..
ابتسم و قد عاد من شجن ذكرياته هاتفا بحماس:- انا متأكد إنكم هتبقوا أصحاب ..
همست دون ان تدرى انه ادرك همهماتها و سمعها بوضوح:- دِه لو ربنا أذن و الوشوش اتجابلت ..
صمت لحظة ثم نهض للحمام ليغسل يديه من اثر الوجبة الدسمة و ما ان عاد حتى وجد ورقة عليها بعض الطلبات الضرورية و فوقها وضعت هى خاتمها الذهبي ..
تصنع عدم الفهم هاتفا وهو يراها قادمة لحمل باقى الاطباق للمطبخ:- هى دي الطلبات .. هبقى انزل اجبها .. بس خدى بالك نسيتي الخاتم بتاعك هنا لحسن يتنطر في اي حتة ويضيع ..
ترددت قليلا وهو يقدم لها خاتمها لكنها لم تمد كفها لأخذه هاتفة:- انا اللى حطيته يا باشمهندس .. دي مساهمة بسيطة مني
فالمصاريف اللى مش عارفين هطول لأمتى ..و لا ..
هتف في ضيق:- متشكر .. لما ابقى اقصر ابقي فكري تساعدي ..
هتفت محاولة الدفاع عن وجهة نظرها:- مش انت جلت اننا ف مركب واحدة .. يبجى كل واحد يجدم اللى يجدر عليه .. و ده اللي ف مجدورتي..
هتف مؤكدا:- اه احنا ف مركب واحدة ..
وابتسم مازحا ومستطردا وقد أيقن حسن نواياها فأشارالى صدره فى تعالى هاتفا:- بس انا القبطان على فكرة .
ابتسمت ولم تعقب و دون ان تع وجدته يمد كفه ليلتقط كفها دافعاً بخاتمها في بنصرها من جديد .. ارتجفت كفها بين كفيه في اضطراب لفعلته .. حتى هو ادرك متأخرا انه قد تجاوز حده المعتاد معها .. فترك كفها وهو يتطلع اليها في حيرة وتعجب ..مما دفعها لتستأذن في عجالة و تندفع لحجرتها تلوذ بها ..
دخل مناع لحجرته يطمئن على زوجه سعدية وولدهما عفيف الصغير .. دخل على أطراف أصابعه حتى لا يوقظهما ولكي يلتقط بعض حاجياته ليستعد للذهاب للبيت الكبير.. لكنه وجد سعدية مستيقظة تطعم صغيرها وقرة عينها..
اقترب في سعادة منحنيا يقبل جبينها هامسا:- ايه !؟..عفيف الصِغير مش مخليكي تنعسي !؟..
همست بصوت واهن:- معلش .. العيال كلها كِده .. بس انت خلاص بتچهز ورايح البيت الكبير .. !؟..
أكد قائلا:- اه يا دوب أفطُر و اروح طوالي ..
همست باسمة:- طب سلملي ع الداكتورة دلال .. ربنا يخليها و الله لولاها ما كنت عارفة كان ممكن يچرالي ايه ..!..
أكد بايماءة من رأسه:- حاضر من عنايا .. و الله صدجتى هى الصراحة تتحط ع الچرح يطيب .. ربنا يرزجها بواد الحلال اللي يستاهلها ..
اكدت سعدية متخابثة:- ما هو موچود .. و الله ما تلجى ذييه ..ربنا يچعلهم نصيب ف بعض ..
زم مناع ما بين حاجبيه مستفسرًا:- جصدك ايه ..!؟.. عفيف بيه !؟.. يا ريت ... و الله يبجى امه دعياله صح و أمها هي كمان دعيالها .. هو في ذي عفيف بيه ..!.. بس يعنى هي تجبل تسيب مصر و تاچي تعيش هنا ف النچع ..!؟.. مظنيش ..
هتفت سعدية و هي تتطلع لمناع في عشق:- و الله لو بتحبه كيف ما بحبك يابو عفيف لتاچي من اخر الدنيا وتفضل معاه ..
ابتسم مناع منتشيا و هو يميل ليقبل جبين زوجه في محبة هامسا:- ربنا يخليكِ ليا .. دِه انى كنت هروح فيها النهاردة .. و لما ولدتى و جالولى انك بخير اتردت لي روحى ..
ابتسمت في دلال ليغيب في محياها للحظات قبل ان ينتفض مبتعدا و قد أيقن انه تأخر كثيرا هاتفا:- اني أتأخرت جووى .. لازما اروح دلوجت ..
و خرج مودعا إياها هامسا في محبة:- خلى بالك على حالك .. يا ام عفيف ..
انتشت للقب الجديد و شيعته مودعة بابتسامة سعيدة ..
لا يعرف لما هو واقف هكذا امام غرفتها حيث سمح للطبيب الذي احضره منذ لحظات للدخول اليها ..
انه يقف كليث جريح لا يقوى على الاعتراض و طعنات الغيرة العمياء تتوالى على قلبه بهذا الشكل ..
و تسمر للحظة هاتفا في جزع:- غيرة .. !؟.. غيرة ايه يا عفيف .. شكلك اتچننت و رسمي كمان .. دِه الداكتور اللى انت چايبة بيدك دي .. مالك .. شكلك اتخبلت .. و غيرة ايه اللى بتتكلم عنيها .. شكل جلة النوم ليلة امبارح اثرت على عجلك..!؟...
سخر هاتفه الداخلى منه:- طب و هي جلة النوم دى ما هي اللى كانت سببها .. تنكر .. و نارك الجايدة عشان الداكتور عنديها تسميها ايه..!؟ .. ان مكنتش غيرة تبجى ايه..!؟.. رد يا عفيف بيه ..
لكنه لم يمتلك وقتا كافيا للرد بعد ان قاطع سيل أفكاره انفراج باب الغرفة عن محيا الطبيب و هو يقول في قلق:- الحمد لله انى جيت ف الوقت المناسب .. كان ممكن يحصل مضاعفات لكن انا عملت اللازم و باذن الله خلال أسبوع بكتيره هتكون بخير مع الانتظام على الأدوية دى و التغذية الجيدة..
استفسر عفيف:- يعنى هاتبجى كويسة يا داكتور ..!؟..
ابتسم الطبيب هاتفا:- باذن الله .. بس واضح انها غالية على حضرتك قووى عشان تسوق ف الجو ده و المسافة دى كلها عشان تجبني ...مش هى المدام برضو..!؟..
اضطرب عفيف و لم يجب على سؤال الطبيب بل هتف مناديا مناع الذى شاهده عند وصوله مؤكدا عليه مرافقة الطبيب و إعادته حيث يريد و شراء الأدوية المطلوبة ..
نفذ مناع في سرعة كعادته .. و عاد هو مرة أخرى لغرفتها يطرق على بابها برفق لتطل الخالة وسيلة من خلفه ليبادرها متسائلا:- هااا .. هي عاملة ايه دلوجت يا خالة .. مش احسن ..!؟..
اكدت الخالة هامسة:- اه يا عفيف بيه .. الحرارة نزلت و بطلت الخترفة .. و اهى رايحة ف سابع نومة .. انا هروح اعمل لها اكلة ترم عضمها ..
أكد عفيف هاتفا:- مسلوج يا خالة .. أكلها كله مسلوج زى ما جال الداكتور أوعى تنسي ..
هتفت في تأكيد:- لااه .. أنسى كيف .. ربنا يجومها لنا بالسلامة .. و انت كمان .. تعالى معاى اعمل لك لجمة تاكلها .. دِه انت على لحم بطنك من الصبح ..
اعترض هاتفا:- لااه يا خالة تسلمى .. ثم اندفع لغرفة المكتبة هامسا:- ماليش نفس .. خليكِ انت چارها و تابعيها .. و باذن الله تصحى رايجة..
اومأت الخالة وسيلة رأسها إيجابا و هي تغلق علي دلال بابها و تندفع للمطبخ تعد الطعام ..
رأته يستعد للخروج فهمست بنبرة خجلى:- انت نازل تجيب طلبات البيت ..!؟..
أكد هاتفا:- اه .. عايزة حاجة اجبهالك معايا!؟..
اكدت مترددة:- الصراحة عايزة .. عايزة اچى معاك ..
صمت للحظات قبل ان يهتف مبتسما:- طب و ماله .. روحى اجهزى و انا مستنيكِى اهو .. بس بسرعة ..
اندفعت في فرحة لحجرتها هاتفة:- ف ثوانى .. مش هتأخر ..
خرجا سويا من باب البناية ليطالعها البحر ضاربا وجهيهما برائحته المميزة و هواءه البارد في مثل ذاك الوقت من العام و رغم عن ذلك انتشت في سعادة و هي تتطلع لذاك الفضاء الأزرق الواسع ..
كانت المرة الأولى التي تخرج فيها منذ جاءا الى الإسكندرية بعد تلك الليلة التي امضياها فالقطار الى هنا .. منذ تلك اللحظة لم تخالط بشرا و لم تتبادل الحديث مع إنسان غيره .. تشعر انها كالنبتة التي ابصرت الشمس أخيرا بعد طول الظلام ..
وقف هو يبتاع الأشياء الضرورية للمنزل ووقفت هيا تطالع الشارع العريض و البشر السائرون هنا و هناك لكنها فجأة انتفضت و أسرعت تختبئ خلفه عندما سمعت من ينادى بأسمها .. تنبه نديم لذعرها و توجهت أنظاره تجاه المنادي فإذا به اب ينادى على ابنته التي تركت كفه لتجرى مسرعة و للصدفة كانت تحمل نفس الاسم ..ناهد ..
غامت ملامح وجهها و قرأ نديم حزنها المرسوم على تلك الملامح النقية بكل سهولة كقراءته لجريدته الصباحية .. فانتشل الحاجيات التي اشتراها بالفعل و أجّل الباقى ومد كفه ليمسك بكفها ليعود بها للبيت و قد لمس ان هذه رغبتها في تلك اللحظة ..
سارا متجاوران لا ينبس احدهما حرفا فما الذى يمكن ان يقال في ظل ما يشعر به كل منهما من الغربة المخلوطة بالحسرة و الألم..
وصلا شقة سمير ليفتح الباب و ما ان انفرج حتى اندفعت هي للداخل متوجهة لحجرتها و قد أغلقت بابها خلفها بقوة تنبئ عن مدى صعوبة الشعور الذى يعتريها و الذى حاولت كتمانه كثيرا حتى تعود وحيدة مرة أخرى لتفرغه كما يعلم جيدا دموعا سخية يسمع همهماتها ليلا و يدرك اثرها على عينيها النجلاوتين صباحا .. لكن ما بيده حيلة فهو ليس بأقل منها حزنا و ألما ويعلم تماما انها محقة في حزنها ولها كامل الحرية للتعبيرعنه كيفما شاءت .. اما بالنسبة له فلم يحن بعد أوان الوجع …عليه ان يكون قويا لكلاهما ومن أجلهما معا .. قويا بالنيابة عنها وعن نفسه ..
وقف عفيف ينتظر على باب غرفتها لتعلمه الخالة وسيلة بحالتها.. كانت لاتزل تهزي فقد ارتفعت حرارتها مرة اخرى ..
اكد عليها عفيف هاتفا:- عتطيها الدوا اللي جال عليه الداكتور يا خالة !؟..
هتفت الخالة وسيلة:- معرفاش يا ولدي .. مش جادرة اچلها من مكانها عشان اعطيهولها .. ادخل ساعدي ..
اضطرب عفيف .. يدخل !؟.. الي اين !؟.. الي حجرتها التي اصبحت مزار مقدس ما ان وطأتها قدماها منذ اللحظة التي قدمت فيها الي النعمانية !؟..
استجمع شجاعته و دفع الباب برفق و دخل يغض الطرف عنها حتى وصل لطرف الفراش حيث ترقد و الخالة وسيلة راقدة على الجانب الاخر .. مد كفا مضطربة وضعها اسفل رأسها الذي تخلى عن غطائه و يا لوجيعته .. و يالأرتجافة روحه و هو يرى شعرها الغجري منثور هكذا بفضوضية بعثرت ثباته بكل ارجاء الارض ..
انحني مقتربا يرفع رأسها عن وسادتها ليضعها فى وضع مستقيم نسبيا حتى تبتلع دواءها لتسقط بلا اتزان على كتفه .. كاد يشهق مصدوما و هو يستشعرها بأحضانه.. تناول حبة الدواء بكف مرتعش من الخالة وسيلة هامسا بصوته المتحشرج اضطرابا باسمها كانها ستسمعه:- فوجي يا داكتورة ..خدي بس الدوا ونامي ..
وضع حبة الدواء داخل فمها وتناول كذلك كأس الماء من الخالة وسيلة و بدأ في مساعدتها لتبتلعها وهى شبه غائبة عن الوعي ..
تأكد انها ابتلعتها فأعاد رأسها على الوسادة من جديد وبدأ يبتعد وهو يسحب كفه من اسفل عنقها فتشابكت أصابعه بجدائله و كأنه يتمسك به متوسلا الا يرحل تاركا اياه .. نظر لتلك الخصلات في تيه و اخيرا نفضها عنه وتحرك مبتعدا امرا الخالة وسيلة:- اشتغلي ع الكمادات يا خالة و انا چارك ف المكتب لو عوزتي حاچة…
اندفع كالممسوس خارج الغرفة فما عاد قادرًا على البقاء لحظة و ما عاد لديه الشجاعة ليتطلع اليها ..فقد شعرانه فقد شيئا ما غاليا لا يدرك كنهه لكنه يستشعر ايضا انه لا يجد ضالته المفقودة تلك الا بقربها .. أي جنون هذا !؟.. ما عاد يدرك ..
فتحت الخالة وسيلة باب غرفتها ببطئ شَديد حتى لا توقظها ظنا منها ان لازالت تغط في نوم عميق من جراء تلك العقاقير الطبية التي تتناولها لكنها كانت مستيقظة بالفعل تطالع احدى الروايات التي وجدتها على جانب فراشها موضوعة على تلك المنضدة التي تحوى تلك الاباجورة النحاسية .. و التي تشع نورا يجعل الغرفة أشبه بقصص الحكايا القديمة فينقلها بشكل كلى الى جو الرواية التي تطالعها ..
لابد و انه هو من بعث بها الخالة وسيلة حتى اذا ما استيقظت تجد ما يشغل وقتها و هي لاتزل طريحة الفراش .. ابتسمت في ود مجرد ان مر ذاك الخاطر على مخيلتها .. انه يهتم .. بالفعل يهتم بها .. أسعدها ذلك سعادة مبهمة لا تعرف مصدرها لكنها سعيدة و هذا ما يهم .. هتفت ما ان طالعها رأس الخالة وسيلة المطل من فرجة الباب الضيقة تتأكد انها بخير:- تعالى يا خالة .. انا صاحية ..
دخلت الخالة و سيلة مستبشرة و هي تهتف في سرور:- الف بركة جومتك بالسلامة .. خلعتينا عليكِ يا بتي .. حتى عفيف بيه اللى ما كان يتهز ولا الجبل .. كان ناجص يطول السما بيده اول ما جريت اجوله ألحجها .. ده ساج ف الفجر و طريج الچبل واعر عشان يجيب لك داكتور مخصوص..
تضرجت وجنتيها بحمرة محببة ما ان سمعت تفاصيل الثلاث ليالى الماضية و ما فعله لأجلها ..
هتفت بتعجب:- عجيب عفيف بيه .. يعمل ليه كل ده عشان واحدة اخوها مسبب له مصيبة .. !؟.. ده انا قلت ممكن يسبنى اموت و اهو ينتقم من اللى حصل معاه بسبب اخويا .. !؟..
هتفت الخالة وسيلة:- يسيبك تموتى كيف !؟.. دِه من اول ما وصلتى و اللى على لسانه .. دي أمانة عندينا يا خالة .. هي ملهاش ذنب يا خالة .. خلى بالك عليها .. شوفي كل طلباتها ..
ثم تنهدت الخالة وسيلة مستطردة بعد صمت طال لثوان:- بالك يا بتي .. ما في حد يعرف عفيف بيه كدب .. المثل بيجول اللى ربى خير م اللي اشتري .. و هو رباية يدي.. حفظاه كيف ما واعية لكفي دي.. عفيف بيه لو شفتيه مع ناهد اخته و چلعه فيها مش هتصدجي انه عفيف اللى صوته بيهز الچبل اللي جصادنا على مدد شوفك دِه .. سبحان الله عفيف مخدش من النعمانى الكَبير غير شكله .. لكن طبعه كله طبع ابوه .. سيدى راغب الله يرحمه ..
انتفضت دلال بعد ان كانت مأخوذة كالعادة بحديث الخالة وسيلة كلما تحدثت عن ماضي النعمانية و أسرارهم .. لكن تلك النقطة بالذات جذبت انتباهها لتهتف في استفسار:- قصدك ايه ان عفيف بيه شبه جده النعماني في الشكل ..!؟.. يعنى نفس طوله و عرضه وكده !؟..
اومأت الخالة وسيلة مؤكدة:- ايوه يا بتي ..هو بالمظبوط .. محدش من عيلة النعمانية كلها يشبه النعمانى الكَبير كيف عفيف بيه .. كنهم فولة واتجسمت نصين .. نفس الطول و العرض و الهيبة و الصوت اللى يهز الچبل هز .. نفس الطلّة اللى توجف چريان الدم ف العروج .. لكن الحنية والطبع اللين .. كني واعية لسيدى راغب ابوه بالمظبوط .. صدج من جال .. اللي خلف مامتش ..
وأخيرا ادركت دلال من ذَا الذى يزورها في أحلامها العجيبة عن تلك المرأة الحبلى التي تستنجد بها .. انه ليس عفيف بل جده .. لكم اراحها هذا الخاطر .. لا تعرف ما سبب تلك الراحة الداخلية التي غمرت روحها لذلك الاكتشاف .. لكن سمة سكينة عجيبة شملتها جعلتها تتنهد و كأن حمل ما كان يجثم على صدرها و أخيرا تخلصت منه ..
و لكن عليها استغلال رغبة الخالة وسيلة في البوح و الحديث عن ماضى النعمانية لتسألها في فضول لازال مشتعلا منذ المرة السابقة التي قصت لها بعض من الحكاية و أغفلت بعض تفاصيلها لذا هتفت في لهفة:- لكن مقلتليش يا خالة ..
تنبهت الخالة وسيلة بكامل وعيها لدلال و تطلعت اليها بعيونها الدائرية الصغيرة التي تشبه عيون العرائس البلاستيكية لولا انها تنبض بالحياة الخالصة و يشع منها بريق وثاب ..
استطردت دلال بنفس النبرة الملهوفة:- ايه اللى خلى مرات النعماني الكبير .. اللى هي جدة عفيف بيه متسامحش جوزها طول مدة جوازهم و تموت حتى قبل ما تسامحه على الرغم انك قلتيلي انه كان بيعشقها ..!؟..
توترت الخالة وسيلة و همت بالنهوض محاولة تغيير الموضوع الا ان دلال كان فضولها أقوى من ان تترك المرأة تذهب لحال سبيلها دون ان تذكر كافة التفاصيل التي تريحها .. لذا هتفت بالخالة وسيلة مستعطفة:- قوليلى يا خالة .. متخافيش الكلام ده مش هيطلع لحد .. هو انا بكلم مين يعنى هنا غيرك..!..
تنهدت المرأة العجوز و عادت لتجلس على طرف الفراش من جديد هامسة بتردد:- ليه هتخلينى انبش ف الجديم يا بتى .. ما راح لحاله مع صحابه .. الله يرحم المراحيم كلها ..
هللت دلال بطفولية و هي تشعر ان الخالة وسيلة نفسها عندها رغبة كبيرة بالافضاء بتلك الأسرار التي تختزنها في جوف صدرها منذ سنوات بعيدة:- قولى بقى يا خالة عشان خاطرى ..
اومأت العجوز برأسها و بدأت في سرد قصة الماضى البعيد هامسة بصوت يأتي من أعماق بعيدة .. بُعد ذاك الزمن الذى تحكى عنه حتى انه جعل دلال ترتعش رغما عنها برهبة:- صلي ع النبى يا بتي..
أطاعت دلال في خشوع و تدثرت وهى تستشعر انها ستسمع حكاية من حكايا الماضي في تلك البلاد البعيدة التي يحكمها العرف و تقيدها العادة و يسوسها السادة و يخضع لملكهم صغيرها و كبيرها .. وبدأت الخالة في سرد حكايتها ..او بالأدق حكاية النعمانية منذ ان كانت قطعة ارض جرداء بحضن الجبل الغربي…
↚
نامت الليلة الماضية و عيونها شاخصة على ذاك السقف المزكرش للغرفة و عيون خيالها تنقلها لحكايا الخالة وسيلة الأشبه بالأساطير ..
تمطعت في فراشها في كسل و هي تشعر بدفء عجيب يسري في أوصالها وتنهدت لتتطلع حولها في سكينة عجيبة و خاصة و ذاك الغناء المبهج يصلها من مكان ليس بالبعيد..
نفضت الغطاء عن جسدها و تلحفت بمئزرها و وضعت حجابها على شعرها المسدول على ظهرها ..
فتحت النافذة لعلها تكتشف مصدر ذاك الغناء الأشبه بدعوة سحرية للاستماع و التمتع .. لكن ما طالعها من موضع وقوفها هو تلك الأرض الشاسعة مترامية الأطراف المبدورة بالأخضر حتى تصطدم بذاك الجبل الشامخ هناك في إباء كأنه شاهد على ما دار في تلك الأرض التي احتضنها منذ مئات السنين كأنها حبيبته التي ما من سبيل لافتراقه عنها ..لا تعرف لما خطرت على بالها قصة النعمانى الكبير و زوجه زهر الروض .. ياله من اسم لامرأة عانت من اجل قلبها الويلات..!؟..
جاء النعماني الكبير لتلك الأرض و هي صحراء جرداء تأبى الخروج عن طوع ذاك الجبل و ظلت لسنوات طويلة جزء منه .. تملك لونه و ملامحه الخشنة حتى قرر النعمانى بفأسه و ذراعيه تغيير تلك الحقيقة للأبد و استطاع الانتصار على الجبل ليستقطع تلك الأرض المحيطة منه و يحولها لجنة خضراء رغما عن انفه .. لتكون النعمانية نسبة اليه..
و يبدو ان هذا كان مبدأ النعمانى في حياته ليس فقط فيما يخص الأرض و الزرع و لكن حتى في الحب ..
رأها يوما مع تلك العائلات التي بدأت تفد للنعمانية ما ان بدأت بشاير الخير تهل .. هام بها عشقا و قرر ان تكون له مهما حدث .. لكن الرياح تأتى دوما بما لا تشتهيه السفن .. كانت الفتاة موعودة لابن عم لها كما هي العادة .. ذاك القريب الذي استطاع النعماني بما له من نفوذ الا يعجل في عودته من سفرته البعيدة .. و بالفعل ما عاد ..
لتظل الفتاة على حالها لا يجرؤ احدهم على الاقتراب منها او طلب يدها للزواج .. السبب الأول معرفتهم بخطبتها المزعومة للغائب الغير مرجوة عودته .. و ثانيهما .. ما شاع ان النعماني يرغب فيها كزوجة جعل الكل يغض الطرف عنها كأنها غير موجودة .. فمن كان يمكنه معاداة النعماني او مخالفة امر من أوامره !؟..
وكانت الفتاة تعلم كل هذا لكن ماذا تفعل بقلبها المعلق بابن عمها الذي نسجت معه أحلام الطفولة و الصبا..!؟.. و كيف يمكنها التضحية بسلامته بعد ذاك التهديد المبطن الذى ارسله لها النعماني .. اما الزواج به طواعية .. او موت بن العم في غربته والزواج به كنهاية حتمية للأمر !؟ .. و بالفعل قدمت نفسها قربانا لحماية الحبيب و رفيق الطفولة و حلم الشباب الضائع..
لتسقط في أحضان من جحيم ما ذاقت فيها الا اللوعة و الحسرة .. وعلى الرغم من انها سلبت لبه و كل من كان بالنعمانية يدرك هذه الحقيقة كادراكهم لطلوع الشمس يوميا من المشرق .. لكنه لم يستطع ان يجعلها تسامحه على فعلته .. لم يستطع ان يجعلها تحبه .. لم يستطع ان يغرز حبه في صحراء قلبها التي ما عاد ينبت فيها الا صبار الكراهية و حنظل القهر .. أنجبت أولاده جميعا .. عشقتهم بجنون لكنها لم تقدر ان تعشق ابيهم بالمثل لتموت وهى تلد طفلها الأخير في تلك الغرفة التي رأت فيها كابوسها الأول في ليلتها الأولى هنا في النعمانية .. و يظل النعماني بعدها لا يقرب امرأة..
يعيش على ذكراها و رغبة مجنونة ظلت عالقة بقلبه و مسيطرة على فكره .. انها حتما ستحبه يوما ما .. سيضمها و هي راضية .. ستضحك لمزاحه و تراعى غضبته و تدارى ضعفه و تحفظ هيبته و تكون له المرأة التي حلم بها منذ وعاها اول مرة و التي سرقت قلبه واستقرت بأعماق روحه .. لكن هيهات .. كلها كانت أمانى مستحيلة لشخص كان يرجو الحب بالسيف و القسوة .. لا باللين والرحمة .. فما جنى سوى الألم و العذابات...
تنهدت و هي تستفيق من ذكريات الليلة الماضية على صوت الغناء مرة أخرى ..
لا بديل عن الصعود للسطح لمعرفة مصدر الغناء و التمتع بمنظر اكثر وضوحا للنعمانية من ذاك الارتفاع..
حزمت امرها و خرجت تمشي بطول الردهة حتى مرت بجوار الغرفة التي شاهدت فيها حلمها.. غرفة الألم والقهر فتخطتها سريعا واندفعت باتجاه الدرج الجانبي الذي يفضى لباب خشبي سميك دفعته ليطالعها السطح الواسع والخالي تماما الا من بعض الأرائك الخشبية التي اُنتزعت اغطيتها حتى لا تتعرض للبلل بفعل الأمطار ..
تطلعت حولها عندما وصلت لمنتصف السطح لتدرك ان هناك سور مشترك فاصل بين سطح المندرة الذي تقف عليه وسطح البيت الكبير الذي يبدو شاسع الاتساع من موضعها ..
تقدمت الى السور الخارجي لترى منظر لم و لن ترى في روعته .. تلك السفوح السمراء البعيدة و كأنها ايادى لذاك الجبل العتيد تحتضن النعمانية الى صدره الحجرى الصلد.. ويمر بين شطريها ترعة كبيرة نسبيا هى احد روافد النيل الذي أنعمت به الطبيعة على النعمانية لتصبح قطعة من النعيم بحق مع ذاك اللون الأخضر المنتشر هنا و هناك و كأنه خضاب عروس في ليلة حنتها .. استمعت للغناء وهي منتشية..
لا تستطيع تمييز الكلمات ولا معانيها لكنها ترى رجال ونساء هناك في عدد من غيطان القصب القريبة نوعا ما يترنمون بما يصلها من أنغام في تلك اللحظة السحرية من الصفاء و السكون الذى تعيشه .
نظرت للارتفاع الشاهق للبيت الكبير والمندرة بالتبعية .. جمعت شعرها الغجرى من خلف ظهرها للأمام في اتجاه كتفها وتخيلت انها تدليه من موضعها و قفز الى فكرها خاطر .. هل احتفظت بشعرها بهذا الطول ربما يتحقق الحلم و يكون شعرها و سيلة الفارس الذى حلمت به طويلا في الصعود اليها في سجن حياتها الرتيبة .. انفجرت ضاحكة لهذا الخاطر .. ضحكة صافية رنانة تشبه ذاك الصباح الدافئ .. و تلك الأشعة البكر للشمس المتسللة من خلف غيوم الليلة الماضية ..
ضحكة طازجة .. منتشية جعلت ذاك المضجع في سلام على احدى الأرائك الموضوعة تحت السور المشترك المرتفع بينهما يقفز فزعا وهو يعتقد انه يتهئ ضحكاتها الوثابة ..
انتفض بكل قوته ليتطلع لمصدر الضحكات حتى يتأكد انه لا يهزي ولم يصبه الجنون بعد جراء ثلاث ليال وأربعة ايّام لم يطالع محياها فيهم .. ايّام عجاف ..
تسمرت عيناه على ما تفعله بشعرها وهي تدليه من فوق السور ضاحكة وجن جنونه ..
همس في تضرع:- هونها يا رب..
كان على استعداد ليقف عمره كله يتطلع اليها في موضعها بهذا الشكل الساحر الذى يفقده صوابه .. لكنه لم يحتمل المزيد وغض الطرف متنحنا وهو يستشعر انه يخرق عزلتها المقدسة ..
انتفضت هى في ذعر و خبأت شعرها أسفل مئزرها و اعادت احكام حجابها خلف رقبتها هامسة في احراج:- عفيف بيه ..!؟..
تنحنح من جديد رغبة في تصفية صوته المتحشرج دوما تأثرا لمرأها هاتفا:- حمدالله بالسلامة يا داكتورة .. جلجتينا عليكِ..
ابتسمت في رقة:- الله يسلمك .. تعبتكم معايا انت و الخالة وسيلة ..
هتف معترضا:- متجوليش كِده .. المهم انك بخير ..
ثم استطرد عاتبا برقة غير معتادة على مسامعها وهو يتوجه للسور الخارجي للسطح يقف في مواجهة الجبل البعيد كأنه يناطحه:- بس انتِ ايه اللى خلاكِ تطلعي هنا و انتِ لساتك تعبانة .. !؟..
ابتسمت و هي تتطلع بدورها للبعيد هامسة:- الغنا ده هو اللي طلعني الصراحة .. جميل برغم اني مش فاهمة هما بيقولوا ايه .. بس واصلني إحساس الفرحة فيه قووي..
تطلع اليها في تعجب لحظي ثم ابتسم ابتسامة من احدى تلك الابتسامات النادرة الظهور على ذاك الفك الصلب والتي تحرك شيء ما داخلها لا تعرف كنهه هاتفا:- احساسك ف محله يا داكتورة .. دِه موسم كسر الجصب ودايما مواسم الحصاد مرتبطة عندينا كصعايدة او حتى الفلاحين ف بحرى بالافراح .. بنستنوا الحصاد عشان نتچوز او نچوزوا عيالنا .. الاغنية دي مرتبطة بالفرح مع موسم كسر الجصب والخير اللي هاياچي من وراه ..
انتبهت لكل كلمة قالها وكأنها تعويذة سحرية ينطق بها .. نطقها بحب واعتزاز لتلك الأرض التي تحمل عرّق جده و رفاته و ستضم رفات أبناء النعمانية جميعا من بعده .. اشارت لغيط القصب حيث يجتمع الرجال لكسره هاتفة:- طب هم بيعملوا ايه دلوقتى وايه عربيّات السكة الحديد اللى بتمر دي..!؟..
ابتسم مؤكدا:- دي مش عربيّات سكك حديد .. دى عربيّات مصنع السكر .. بيچمع الجصب عشان يروح ع المصنع .. و الباجي يطلعوا بيه ع العصارة ..
ثم أشار لبناية عتيقة على أطراف الأرض البعيدة هاتفا:- شايفة المبنى الملون اللي على طرف الارض دِه ..!؟.. هى دي العصارة .. دي بنودوا فيها چزء من الجصب عشان نعِملوا منيه العسل الأسود .. اكيد دجتيه .. حتى من جبل ما تاچي هنا !؟..
أكدت بابتسامة صبت في دمه ملايين اللترات من العسل المصفى وهي تهتف:- اه .. مفيش احلى منه بالذات مع الفطير المشلتت من أيد الخالة وسيلة ..
انفجر ضاحكا على غير العادة هاتفا:- واضح انك چعانة يا داكتورة و نفسك مفتوحة تعوضي الأيام اللى فاتتك من فَطير الخالة وسيلة ..
قهقهت بدورها ولم تعقب للحظات وأخيرا هتفت مستفسرة مشيرة لغيط القصب:- ها و ايه اللى بيحصل بعد كده ف العصارة ..!؟..
أكد بهدوء:- خلاص كِده .. طلع العسل و مبجيش الا الچلاب ..
هتفت متعجبة:- جلاب ..!؟.. يعنى ايه ..!؟..
ابتسم متطلعا اليها و هو يقترب من السور المشترك بينهما:- الچلاب دِه .. حلاوة بنعملوها من بواجى السكر شكلها مخروطي و لونها مايل للخضار شوية .. و ..
صمت فتطلعت اليه مستفسرة لتجده مترددا ثم مد كفه الى جيب جلبابه ليخرج لها ورقة ملفوفة .. فضها أمامها هامسا:- هو دِه ..
مدت كفها اليه متطلعة في تعجب لذاك القمع المخروطى العسلى اللون ثم استأذنت في فضول:- ممكن ادوقه.!؟..
أكد بايماءة من رأسه .. فقضمت قطعة صغيرة لتهتف مستمتعة:- ده حلو قووى..
أكد في سعادة مقهقها:- ما هو كله سكر .. مش جصب ..
اعادت اليه قطعة الجلاب و التي تردد في اخذها لكنه أخيرا مد كفه و أخذها يطويها و يقذف بها من جديد في جوف جيبه ..
سألت في أريحية متهورة:- طب و حضرتك محتفظ بيه ليه في جيبك.!؟..
غامت ملامحه للحظات و طلت من عينيه نظرة حزن عميقة شرخت وعاء البهجة الذى كان يحتوي روحها منذ دقائق .. ندمت انها سألت و لو كان بإمكانها استرجاع الزمن لثوان حتى تُعقل كلماتها قبل طرحها لفعلت اتقاءً لنظرة الحزن الدفين المطلة من عينيه والتي اربكتها كليا ..
لكنه للعجب أجابها:- يمكن عشان الچلاب دِه الحاچة الوحيدة اللي بتفكرنى بأمى الله يرحمها ..
صمت ثقيل شملهما للحظات حتى استطرد هو بنفس الصوت الموجوع:- لما كانت بتكون عوزانى اعمل حاچة و انا مرضيش تجولي اعملها وانا اچيب لك چلاب..
ابتسم بغصة مستكملا حديثه المعجون بالشجن:- وكان ردي عليها .. مش عايز .. هخلي چدي يچبلي م العصارة .. لو اني واعي لحالي دلوجت بعد فراجها لكنت چريت عليها خدت كل الچلاب اللي كانت بتعطيهولي بيدها .. مش عشان أكله .. لاااه .. عشان اخبيه بين ضلوعي واطلعله بعد ما غابَت ومعدش بجي خلاص في چلاب تانى من يدها ..
شعرت بمرارة كلماته المغموسة بالشوق الفاضح لأمه و شعرت بنفس الغصة وهي التي فقدتها و تشاركه نفس المصاب ونفس الألم الحي الذى لا يندمل ابدا بفراقها ..
كادت ان تطفر الدموع من عينيها تأثرا لكنها كانت اكثر وعيا لتدرك انه لن يستطيب تعاطفها وربما يندم على ما أطلعها عليه من اسرار دفينة تعد سبق لم يحدث و ربما لن يتكرر لذا ابتلعت دموعها وهتفت بلهجة حاولت إكسابها بعض من مرح:- طب قبل ما ننزل نفطر عشان انا فعلا جعت قووى .. سؤال أخير ..
ابتسم و تغيرت الملامح الخشنة من جديد لتصبح ألطف و ارق:- اتفضلي اسألي ..
اشارت من جديد للغناء الذي كان على أشده بالأسفل هاتفة في فضول:- هما بيغنوا يقولوا ايه !؟..
عاد من جديد يتطلع للمشهد الساحر أمامه وتغيرت فجأة نبرة صوته لتصبح اكثر دفئا هامسا منغما كلماته يخبرها كلمات الاغنية الدائرة بالأسفل:-
يابو اللبايش يا جصب ..
عندينا فرح و أتنصب ..
چابوا الخلخال على كدِها
نزلت تفرچ عمها ..
جال يا حلاوة شعرها
يسلم عيون اللي خطب ..
يابواللبايش يا جصب ..
عندينا فرح و أتنصب
جابوا الجميص على كدِها
نزلت تفرچ عمها
جال يا حلاوة شعرها
تسلم عيون اللى خطب ..
وصمت فجأة ..ليتطلع اليها ليجدها في عالم اخر مبهورة بما تسمعه من كلمات بصوت ذاك الذى ظنت يوما ما انه رجل عتيد القسوة لا يعرف الا لغة القوة ..
سأل مستفسرًا عندما طال صمتها و شرودها:- عچبتك ..!؟..
هتفت منتفضة لسؤاله:- جميلة قووى ..
أكد متنحنحا في احراج:- أغاني فلكلور جديمة بتهون ع العمال التعب .. و بعدين هو في حد بيلبس خلخال عندينا ف الصعيد دلوجت..!؟..
هتفت في تحسر طفولى متهور:- خسارة ده انا كان نفسى ف واحد ..
لم يعقب .. بل شملها بنظرة لم تعرف لها تفسيرا و أخيرا هتف بجدية:- اشوفك ع الفَطور يا داكتورة .. زمان خالة وسيلة حضرته و بدور علينا .. بعد إذنك .. وحمدالله بالسلامة مرة تانية ..
اندفع باتجاه الباب المفضى للداخل ليختفى في لحظات حتى ظنت انه ما كان موجود هاهنا من الأساس و كانها كانت تحادث طيفه .. و ليس عفيف النعمانى بشحمه ولحمه ..
ظهر صفوت بين رجال النعمانية الذين اجتمعوا كعادتهم في مندرة الشونة الملحقة بالاسطبلات و المقامة على الهضبة المرتفعة القائم على جنباتها بيت النعمانى الكبير و الملاصقة له تقريبا ليهتف في نبرة حاول ان يغلفها بالهدوء رغم ما كانت تنضح به من توعد:- للمرة التانية يا عفيف .. اهااا بتجدم لك جَصاد رچالة النعمانية كلهم و بطلب يد اختك ..ايه جولك ..!؟..
على الرغم من الاضطراب الذى أعتمل داخل نفسه و توتره الذي عربد بجنبات روحه الا انه ظل رابط الجأش لم تظهر على ملامحه الحادة ما يثير اى شك في دواخل نفسه التي تناقض مظهره الخارجي الحازم المعتاد ..
بل انه هتف بنبرة مسيطرة غير قابلة للنقاش:- هي جصة ابوزيد و هنحكوها ع الربابة يا صفوت ..! ما جلنا انها مش موچودة ولسه مارچعتش من عند بت خالتها ف المنصورة .. لما ترچع بالسلامة يبجى لينا حديت تانى ف الموضوع دِه ..
هتف صفوت في تعجل:- و ايه فيه كانت موچودة و لا لااه .. هتفرج ايه .. هي هيكون ليها رأى بعد رأيك ..!؟.. و بعدين هي راحت فين يعنى ..!.. اروبااا ..ما تبعت لها تاچي ..
اندفع عفيف ناهضا في ثورة هاتفاً بصوت جهورى هز أركان المكان وجعل صفوت يبتلع لسانه في خوف:- بجولك ايه يا صفوت .. اني جلت كلمتي و بمردهاش .. بعد ما ترچع نتكلموا .. و ساعتها اني هجولك رأيي .. جبل كِده .. معدش ينفتح الموضوع دِه تاني ..
نظر صفوت لرجال النعمانية حوله لعله يتلقى الدعم من احدهم .. لكن لا صوت يعلو فوق صوت عفيف الذى عندما يزأر تنكمش أشباه الأسود في مواضعها معلنة الولاء و الطاعة ..
دخلت عليها الخالة وسيلة هاتفة في حماسة:- انتِ لساتك نايمة يا داكتورة و النسوان برة بيسألوا عليكِ..!؟..
انتفضت دلال من موضعها تتطلع للخالة وسيلة في صدمة هاتفة:- نسوان ..!؟.. نسوان مين ..!؟..
فما عاد هناك من احد يأتيها بعد ان منع الرجال نساءهم من المجئ اليها بعد حادثة الخيار والطماطم ..
هتفت الخالة ضاحكة:- هيكونوا مين يعني ..!؟.. النسوان الحوامل اللي بياجوكي يكشفوا .. كلهم جاعدين تحت منتظرينك على نار..
دفعت دلال بجسدها خارج الفراش واندفعت للحمام تغير ملابسها فأخيرا ستنتهى ايّام الخمول و الدعة التي عاشتها و مرحبا بالعمل من جديد ..
اندفعت للنساء اللائي استقبلنها بحفاوة غريبة بعد هذا الانقطاع الطويل و استنتجت من أحاديثهن ان سعدية زوج مناع قد قامت بواجب الدعاية اللازمة لها بين نساء النجع و صاحباتها ليعدن من جديد لزيارة الطبيبة (وش الخير) .. والتي جاء على قدمها وولد على يديها بن مناع الذى كان يترجاه من الدنيا على حد قولهم .. على الرغم من ان مناع لم يترج شيئا من الدنيا الا سلامة زوجه سعدية مهما كان نوع المولود و هي شاهدة على هذا..
ألقت بكل هذا خلف ظهرها وبدأت في استقبالهن بفرحة فمهما كان سبب عودتهن فالأهم إنهن عدن ..
بعد قليل اندفعت للمطبخ تطلب بعض الحاجيات من الخالة وسيلة .. همت بإلقاء التحية عليها في ترحاب الا ان وجه الخالة وسيلة لم يكن ينذر بالخير ابدا فهتفت دلال متسائلة في قلق:- خير يا خالة !؟.. شكلك ميطمنش .. انتِ مخبية عليا حاجة !؟..
تنهدت وسيلة هاتفة في شجن:- هخبي ايه بس يا بتي !؟.. ربنا يستر ويفضّل المستخبي مداري ..
هتفت دلال متعجبة:- ايه الألغاز دي يا خالة !؟.. في ايه !؟..قلقتيني.
تنهدت وسيلة في حسرة:- صفوت واد عمة عفيف بيه و ناهد طلبها لتاني مرة النهاردة جدام رچالة النعمانية كلهم ..
شهقت دلال في ذعر:- طب و بعدين !؟.. عفيف بيه قاله ايه !؟..
اكدت وسيلة مشفقة:- هيجوله ايه يعني !؟.. جاله هى عند بت خالتها ف المنصورة و لما ترچع نبجى نتكلموا ف الموضوع ..
تنهدت دلال بدورها:- طب ما هو الحمد لله اتصرف كويس اهو ..
اكدت وسيلة:- لحد ميتا يا بتي !؟.. المرة دي وعدت على خير .. طب و لو طلب تاني هايبجى ايه الجول ساعتها .. صفوت دِه اصلا لما يحط حاچة ف دماغه ياللاه السلامة..
شردت دلال للحظة و اخيرا تساءلت بلهجة متعاطفة:- طب و عفيف بيه عامل ايه !؟..
لم تكد تنهي سؤالها الا وانتفضت و الخالة وسيلة موضعهما ما ان تناهى لمسامعهما ندائه الجهوري:- يا خالة وسيلة ..
هتفت وسيلة مشيرة الي اتجاه مجئ الصوت الهادر هامسة:- اهااا .. واعياله .. من ساعة ما چه م الجاعدة إياها وهو ع الحال دِه ..
لم تعقب دلال والخالة وسيلة تندفع لخارج المطبخ ملبية ندائه لكنها استشعرت تعاطفا كبيرا مع حاله .. واشفقت عليه بحق .. فذاك الرجل كبير قومه لن يسمح ابدا لأي من كان حتى و لو كان اخته الوحيدة و مدللته بان تحط من قدره اًو تكون سببا في عار يلحق باسمه .. سيفعل المستحيل حتى يتجنب حدوث ذلك حتى ولو كان ثمن ذلك باهظا ..
أنهت كشوفاتها بشرود كبير فما زال القلق يخيم على روحها و بالرغم من سعادتها لانها أخيرا ستعود لسابق عهدها و تجد ما يشغلها نهارا الا انها سعادة مبتورة مغموسة بالقلق و الترقب.
دلفت للمطبخ حيث الخالة وسيلة لعلها تخبرها بما يريح خاطرها المنهك لكنها لم تجدها بموضعها كالمعتاد تأهبت لدخول البيت الكبير و اذا بها تسمع عفيف يهتف في عنف رج روحها رجا:- يعني انت متاكد انهم عنديك!؟.. طب متتعتعش من مطرحك و اني چايلك مسافة السكة.. سااامع !؟..
اكد من كان على الطرف الاخر بالسمع والطاعة واغلق الهاتف ليغلقه عفيف بدوره مندفعا باتجاه اعلى الدرج .. سقط قلبها ذعرا بين قدميها .. هل وجدهما !؟.. هل كان الحديث التليفوني الدائر عن اخيها و ناهد اخته !؟.. هتفت بنفسها مؤكدة.. و من غيرهما يمكن ان يكون محورا لحديث كالذي دار منذ لحظات!؟..
اندفعت لأعلى الدرج خلفه لتستطلع الحقيقة لتجده يخرج من غرفته و هو يعدل من وضع سلاحه بجيب جلبابه الداخلي .. شهقت في صدمة مما استرع انتباهه ليرفع رأسه متطلعا اليها حيث لم يتوقع وجودها.. فتلك هى المرة الاولى التي تعتلي فيها الدرج باتجاه حجرات الدار ..
صمت ولم يعقب لكنها هتفت بصوت متحشرج:- انت لقيتهم !؟.. صح !؟..
اندفع مهرولا هابطا الدرج لتتعقبه مهرولة بدورها واخيرا توقفت بطريقه تسد عليه منفذ خروجه و هتفت صارخة والدموع تتأرجح بمقلتيها:- هتعمل فيهم ايه !؟.. عشان خاطري حكم عقلك ..
هتف بنبرة عجيبة على مسامعها كأنها ليست له:- خاطرك على عيني يا داكتورة بس في حاچات مينفعش فيها چبر الخواطر .. عن اذنك ..
هم بالخروج الا انها تشبثت بذراعه هاتفة في توسل:- طب خدني معاك .. انا متأكدة ان وجودي هيفرق .. و يمكن لما نسمع..
لم يمهلها لتستكمل حديثها بل اندفع خارج البيت الكبير ولم يسعها الا السقوط على قدميها التي ما عادت قادرة على حملها ذعرا و قلقا على ما قد تأتي به الاحداث القادمة ..
رن التليفون مما جعل كلاهما يقفز فزعا .. فمن يمكنه الاتصال بشقة معروف انها مغلقة في مثل هذا الوقت من العام و لا يسكنها احد.. كاد نديم ان يغص بلقيمة الطعام التي كان على وشك ابتلاعها عندما علا رنين الهاتف..
نظر الى ناهد في شك يسألها المشورة في صمت هل يرد على المتصل ويرفع سماعة الهاتف ام يتجاهل الرنين رغبة في عدم فضح أمر وجودهما !؟.. لكن ناهد كانت اكثر حيرة منه وهى تتطلع للهاتف وكأنه قنبلة موقوتة على وشك الانفجار ..
عزم نديم امره لينهض في تثاقل ليرد .. لكن قبل ان يصل لموضع الهاتف .. انقطع الرنين .. فتنهد في راحة لم تدم طويلا عندما علا رنينه من جديد ليرفع السماعة بسرعة حتى لا يتردد في الرد من جديد..
وضع السماعة على أذنيه في حذّر دون ان يجيب ليندفع لمسامعه صوت سمير صارخا باسمه:- نديم .. رد يا بنى آدم ..
هتف نديم في قلق:- خير يا سمير.. في حاجة ..!؟..
هتف سمير مذعورا:- ايوه في .. امال برن عليك ف الوقت ده عشان اقولك سلامات .. ابويا فطريقه للإسكندرية انا معرفش أتحرك امتى بالظبط و لا هيوصل عندكم امتى .. بس ألحق اخرج من الشقة بأسرع ما يمكن وحاول تخليها ذي ما كانت ..
انتفض نديم متطلعا حوله في اضطراب:- حاضر .. حاضر يا سمير حالا .. و متشكر على كل حاجة ..
هتف سمير في ضيق:- متشكر على ايه مفيش بينا الكلام ده .. انا أسف اني هخرجكم من الشقة دلوقتى بس غصب عني .. ده انا عرفت بالصدفة من امي ان ابويا طلعت ف دماغه ينزل إسكندرية النهاردة .. أسف بجد يا نديم ..
أكد نديم:- ولا أسف ولا حاجة انت ذنبك ايه انت كتر خيرك لحد كده .. انا هتصرف و هسيب لك المفتاح بتاع الشقة مع البواب ذي ما اتفقنا .. متشكر مرة تانية يا سمير .. سلام بقى عشان ألحق اسيب الشقة قبل وصول الوالد .. سلام عليكم ..
ووضع السماعة لينظر لناهد في ترقب فأومأت برأسها هامسة:- فهمت .. ولا يهمك.. ياللاه نسرع ونمشى قبل ما الراچل يوصل ويعمل لأبنه مشكلة ..
اندفع كل منهما في اتجاه يعيدا الشقة كما كانت ويجمعا حاجياتهما …
هتفت دلال صارخة تبحث عن الخالة وسيلة و التي ظهرت اخيرا قادمة من خلف البيت الكبير حيث غرفة الخبيزهاتفة بذعر بدورها:- ايه في يا بتي !؟.. خبر ايه !؟..
اندفعت اليها دلال ترتمي بأحضانها هاتفة في لوعة:- لقاهم يا خالة .. عفيف لقي نديم و ناهد ..
شهقت وسيلة بدورها:- لجيهم !.. يا منجي م المهالك يا رب ..
هتفت دلال من بين شهقات بكائها:- حاولت اروح معاه .. مرضيش يا خالة .. يا ترى ايه اللي هيحصل .. هيموتهم !؟..
و هتفت فى صدمة:- بجد هيموتهم!؟.. يعملها يا خالة !؟.. قوليلي.. طمني قلبي و قوليلي انه ممكن يحكم عقله و نلاقي طريقة غير قتلهم تداوي الموضوع ..
صمتت وسيلة و لم تعقب بحرف لكن دموع عينيها التي انسابت كانت كافية للرد على تساؤلاتها و زيادة ..
↚
ليلة كاملة قضتها تموت ذعرا دون اي خبر يذكر عن ذاك الذي غاب خلف نديم و اخته .. القلق يتأكلها حرفيا مع مرور كل ساعة دون ان يأتيها اي معلومة عنه .. و عما يجري دون علمها.. تكاد تفنى انتظاراً وقهرا مما دفعها لتكثيف الفحوصات اليومية حتى تجد ما يشغلها عن التفكير في الامر الذي قد يدفعها للجنون ..
اوشك النهار على الانتصاف و قد اعتقدت انه ما عاد هناك من مريضات .. همت بالنهوض من خلف مكتبها في اتجاه باب حجرة الكشف لغلقها الا انها رأت فتاة صغيرة لا يتعد سنها الخامسة عشرة تقف فى اضطراب و خلفها يقف رجلا ملامحه لا تعرف الهوادة واللين ..
تطلعت اليهما فى تعجب فهى المرة الاولى التي يزورها رجل داخل عيادتها الخاصة بالنساء فعادة تأتي المريضة ومعها امها او اختها او حتى حماتها ..
تنبهت انها أطالت التحديق بهما فاندفعت تسأل فى دهشة حاولت إخفائها:- خير !؟.. اى خدمة !؟..
هتف الرجل بصوت قوى:- اه يا داكتورة .. عايزين بس خدمة ..
اكدت فى ادب:- تحت امرك ..
هتف:- عايزينك تسنني لنا البت دى عشان چايلها عريس وعايزين نكتبوا كتابها ..
انتفضت فى ذهول:- عريس !؟.. عريس ايه !؟.. دي لسه طفلة ..
تطلعت للفتاة تسألها مشفقة:- انتِ عندك كام سنة يا حبيبتي !؟..
لم تنطق الفتاة بحرف فيبدو انها كانت قد لُقنت تعليمات مشددة الا تفوه بحرف واحد مع اى من كان ..
ساد الصمت للحظات والفتاة مضطربة لا ترفع ناظريها عن الارض ابدا مما دفع ابيها ليهتف في نزق:- ملكيش صالح بالبت .. احنا عايزين نكتبوا كتابها ولازما شهادة تسنين .. هاتكتبيها ولا لاااااه!؟..
اكدت دلال فى صرامة:- طبعا لااا.. ده اذا كان الامر بأيدي لانه للاسف مش اختصاصي ..ده اختصاص الوحدة الصحية .. لكن انا عايزة أنبهك دي جريمة .. بنتك مبلغتش السن القانوني للجواز .. دى اصغر بحوالى ٣ سنين وزيادة كمان ..
وحاولت ان تثنيه عن عزمه باللين هاتفة:- ده خطر ع البنت .. ليه الاستعجال !؟.. استنى كام سنة تكون وصلت ال ١٨ ساعتها يبقى الموضوع قانوني .. و يبقى جسمها كبر شوية وتقدر تستحمل الخلفة و الولادة .. بنتك لسه عيلة صغيرة .. حرااام ..
صدرت عن الفتاة شهقة لاإرادية تؤكد بكائها الصامت الذى حاولت اخفاء أناته لكنها لم تنجح فقد كشف ذاك النحيب مدى حزنها الذى كانت تحاول وأده ..
اقتربت منها دلال فى تعاطف هامسة:- اسمك ايه !؟..
هتفت الفتاة بصوت مهتز النبرات:-نادية ..
لم يمهلهما الاب تجاذب أطراف الحديث بل جذب الفتاة من ذراعها فى قوة لتهرول خلفه محاولة مجاراة خطواته الواسعة حتى لا تنكفئ على وجهها جراء اندفاعه المحموم ..
تنهدت دلال في إشفاق وهى تتطلع للفتاة التى علا نحيبها وهى تساق خلف ابيها بهذا الشكل المهين و ندت عنها نظرة تشابكت مع نظرات دلال.. نظرة كانت تحمل من الوجع والقهر ما جعل دلال تنتفض فى قوة و دون ان تدرى تساقطت دمعات سخان على وجنتيها .. ما ان تنبهت لهما حتى مسحتهما عن خديها فى عزم و قد قررت الا تدع الامر يمر مرور الكرام ..
فقد كانت دوما تتساءل عن الهدف الإلهي من سقوطها فى تلك الأزمة التى هى بصددها و التى أتت بها لتلك الارض والان ..الان فقط .. ادركت ان الله قد ارسلها لتلك البقعة من الارض لكي تحاول انقاذ هؤلاء الفتيات من ظلم التقاليد و مرارة القهر تحت وطأتها .. و هى لن تقف مكتوفة الأيدي .. بل ستفعل ما يمليه عليه ضميرها و مهما كلفها الامر ..
اغلقت دلال باب حجرة الكشف و اندفعت بدورها فى اتجاه البوابة الرئيسية حيث يجلس مناع دوما فى انتظار أوامر سيده عفيف ..
هتفت دلال ما ان وصلت موضع مناع الذى كان يجلس فى استرخاء على أريكة خشبية يضع بندقيته خلف احد كتفيه فى تأهب دائم و يمسك بالكف الاخرى كوبا من الشاي القاتم اللون يرتشفه فى تلذذ متمهلا:- مناع..
انتفض بدوره مجيبا ندائها حتى كاد يسكب ما بكوبه من شاي هاتفا و هو ينهض على عجالة:- أوامرك يا داكتورة !؟.. فى حاچة ..!؟..
هتفت دلال مؤكدا:- اه يا مناع .. عايزاك تجهز لى الكارتة ضروري..
هتف مناع متسائلا:- ايه في يا داكتورة !؟.. حالة ولادة ولا ايه!؟..
ترددت .. هل تخبره بما كان ام تلتزم الصمت و تخفي ما تنتويه!؟.. وهل ما تفكر في القيام به الان لن يعود بالضرر على عفيف !؟ .. عندما وصل فكرها لهذه النقطة وجدت نفسها تهتف داخلها في غيظ:- انتِ لسه هدوري ع اللي يرضيه و هو رايح يدور على اخوكِ عشان يقتله!؟.. لذا هتفت مؤكدة لمناع:- اه .. حالة ولادة يا مناع .. استعجل الكارتة ..
انتفض مناع منفذا وما هى الا دقائق قليلة حتى كانت العربة في انتظارها خارج الباب الرئيسي لتندفع اليها مسرعة مخافة تراجعها في اخر لحظة وما ان هم سائق العربة بسؤالها عن وجهتها حتى عاجلته هى امرة اياه:- على اقرب نقطة بوليس لو سمحت ..
استدار سائق العربة متطلعا اليها في تعجب لكنه لم يقف ليتساءل كثيرا فقد تذكر امر عفيف له .. ان ينفذ أوامر الدكتورة بالحرف .. فلم يكذب خبرا وانطلق بالعربة في سرعة ..
اغلقا باب الشقة بإحكام و ما ان هما بنزول الدرج حتى تنبها لأحدهم صاعدا و اوشك على الوصول لطابقهما فاندفع نديم ممسكا كف ناهد صاعدا ليستقرا فى الطابق الاعلى .. انتظرا حتى يتأكدا ان القادم قد دخل احدى الشقق فإذا به يقف امام شقة سمير يعبث بسلسلة مفاتيحه باحثا عن مفتاح بابها..
تطلع نديم الى ناهد وما ان تأكدا انه دخل للشقة حتى همس في راحة:- خرجنا ف الوقت المناسب .. ربنا ستر الحمد لله .. ياللاه بينا ..
همست بدورها و هى تتبعه للأسفل:- على فين دلوجت !؟..
هتف نديم:- يا ستي .. اي مكان..
و اندفعا خارج البناية بعد ان سلم نديم مفتاح الشقة للبواب كما اتفق مع سمير سارا معا لا يعلما الى اين سيذهب بهما القدر هذه المرة ..
توقفت الكرتة كما ارادت دلال امام نقطة الشرطة الموجودة بأطراف النجع و نزلت منها مندفعة فى اتجاه بوابتها الخشبية القصيرة .. توقفت امام اول حجرة قابلتها كان يقف على بابها احد العساكر فى تصلب كتمثال شمعي .. هتفت تسأله فى عجالة:- حضرة الظابط موجود !؟
تطلع اليها العسكرى بعيون شاردة هاتفا بلهجة ألية:- موچود سعادتك..
سألت من جديد:- طب ممكن ادخلله ..!؟..
اومأ العسكرى برأسه ايجابا و اشار للباب الذى كان مفتوح بالفعل ..
وطأت اقدامها الحجرة الواسعة و جالت بناظريها فى أنحائها و لكنها لم تجد شخص بها الا انه تناهى الى مسامعها اخيرا صوت رجولي يتغنى بموال للعندليب مترنما فى انسجام تام:- و انا كل ما اجول التوبة يابوي .. ترميني المجادير يا عين .. وحشانى عيونه السودا يا بويا و مدوبني الحنين يا عين ..
لم تكن ترى ذاك الذى كان يجرب صوته الذى لا يستساغ مطلقا وهو غائب خلف مكتبه .. او بالأدق تحت مكتبه وعلى ما يبدو يبحث عن شئ ما قد سقط منه ..
تنحنحت في محاولة لجذب انتباه مطرب الروائع ذاك و الذى اعتدل بالفعل فى سرعة ما ان استشعر وجود شخص ما بالغرفة .. كان يعيد مقاطع الاغنية بلا كلل ولكن ما ان وقع ناظره عليها حتى توقف فجأة فاغرا فاه فى صدمة ..
بدأ عقله فى العمل متسائلا:- من هذه الرائعة !؟.. و ماذا تفعل في قرية كهذه باحضان جبل وعر !؟..
تقدمت هى فى ثقة لتقف قبالة مكتبه مادة كفا للتعارف هاتفة:- دكتورة دلال محمود المصري ..
كان جالسا ولم يسمح له شروده فيها بالنهوض تأدبا ما ان رأها مقبلة للتحية لكنه استدرك ذلك فجأة وهو يرى كفها الرقيق ممدودا بهذا الشكل فانتفض واقفا فى عجالة مادا كفه بدوره مبادلاً إياها التحية هاتفا:- اهلًا يا دكتورة .. نقيب شريف عبدالواحد .. تحت امرك ..
قال كلمته الاخيرة محاولا اسباغ بعض من نبرة رسمية على لهجة حديثه .. جلس و اشار اليها لتجلس بدورها على احد المقاعد امام مكتبه..
أجلت حنجرتها متنحنحة وهتفت:- الصراحة يا حضرة الظابط …
لم يكن هو موجودا ليتجاذب معها أطراف الحديث بل كان في عالم اخر متطلعا اليها كأنها المرة الاولى التى يبصر فيها نساء .. هتف لنفسه مؤنبا .. ايه يا شرشر .. باينك منزلتش اجازة من فترة طووويلة .. والظاهر نسيت شكل الستات وده خطر على عقلك الباطن يابو الظبابيط ..
تنبه لكلماتها الاخيرة اخيرا وهى تقول بحماسة:- وللسبب ده ..
هتف متعجلا فى تهور فاضحا عدم تركيزه في شكواها:- سبب ايه حضرتك !؟..
تطلعت اليه كأنها كانت تحدث اصم وهتفت اخيرا:- واضح ان حضرتك مكنتش مركز معايا ..
هتف بسخرية مقهقها:- لا بالعكس .. ده انا مشكلتى انى كنت مركز معاكِ زيادة عن اللزوم والله ..
هتفت متعجبة:- نعم !؟..
هتف يحاول كظم ضحكاته:- لا متخديش ف بالك يا دكتورة .. انت مشكلتك ايه معلش !؟..
هتفت تعيد كلامها السابق والذى لم يستمع لحرف منه عندما سردته فى المرة الاولى وحاول التركيز على فحوى الكلمات لا صاحبتها:- عايزة اعمل محضر اواقدم بلاغ او شكوى ..شوف حضرتك هتسميه ايه ..
هتف مازحا:- نسميه كريم باذن الله .. انا بحب الاسم ده قووى ..
هتفت تتطلع اليه وشعرت انها تحدث شخصا يعانى من خلل ما:- كريم مين !؟.. انا بتكلم عن محضر عدم التعرض اللى عايزة اعمله ..
هتف محاولا اصطناع الجدية:- اه طبعا واخد بالي .. بس مين اللي يقدر يتعرض لحضرتك !؟.. اللي سمعته انك ضيفة عفيف النعماني .. متهئ لي ده لو حد كح من غير أذنه ف النعمانية .. يودره سعادتك..
لا تعرف لما ساءها حديثه عن عفيف بهذا الشكل .. ووصفه بوصف مبالغ فيه .. ووجدت نفسها دون وعي منها تهتف مدافعة:- عفيف بيه راجل عادل و رحيم و عمره ما ظلم حد ..
اكد شريف بايماءة من رأسه:- طبعا طبعا .. بس برضو انا معرفتش البلاغ حضرتك هتقدميه ضد مين!؟..
هتفت مؤكدة:- انا معرفش اسماءهم الصراحة .. بس هما بابا بنت اسمها نادية جابها عشان اديله شهادة تسنين ليها عشان طبعا يجوزها .. و انا كطبيبة بقول ان ده ممكن يأذي البنت .. البنت صغيرة جدااا .. انا عايزة اعمل لهم محضر عدم تعرض للبنت لان ده مش في مصلحتها ..
تطلع اليها مستشعرا مدى براءة هذه التى تجلس أمامه و مدى جهلها بطبيعة الامور في تلك البلاد البعيدة فهتف غير قادر على وأد نبرة السخرية في تساؤله:- اممم .. بابا البنت !؟.. اسمها ابوها حضرتك .. هو انتِ هنا بقالك قد ايه معلش !؟..
لم تكن تدرك ما علاقة سؤال كهذا بما جاءت من أجله الا انها هتفت مجيبة:- من أسبوعين تقريبا ..
اكد هامسا:- اااه ما انا بقول كده برضو ..
تطلعت اليه غير معقبة على كلامه الغير مفهوم ليهتف هو مستطردا:- يا دكتورة اللي سعادتك بتطلبيه ده غير جائز .. عيزانى ازاى اعمل محضر عدم تعرض لاب وأقوله ملكوش دعوة ببنتك ومحدش يجي جنبها !؟..
هتفت دلال فى حنق:- لكن البنت فعلا ممكن تتأذي .. انا بقول الكلام ده و انا عارفة انا بقول ايه .. ده شغلي ..
هتف شريف مؤكدا:- على عيني و راسى يا دكتورة .. بس ايه المفروض اعمله … مفيش اى قانون يخلينى امنع اب من انه يعمل شهادة تسنين لبنته .. بس حضرتك ممكن تخلي مسؤليتك عن اى حاجة ممكن تحصل للبنت ده لو حابة..
هتفت في ضيق:- انا مش جاية احمي نفسي وأتخلى عن مسؤولية .. انا جاية أدافع عن روح .. هى دي وظيفتي يا حضرة الظابط .. لكن واضح اني كنت غلطانة لما جيت..
هتف شريف معاتبا:- ازاى يا دكتورة تقولي كده !.. كفاية اني اتعرفت على حضرتك .. و يا ريت كان ف أيدي حاجة اقدر اعملها و اساعد بيها .. لكن ما باليد حيلة ..
ساد الصمت للحظات ليستطرد بعدها بنبرة جادة:- بصى يا دكتورة ..انت مبلقيش الا فترة بسيطة هنا .. و فى حاجات كتير غايبة عنك مختلفة تماما ع اللي انت متعودة عليه ف القاهرة … العادات و التقاليد هنا غير .. و تنفيذها ملزم بقوة العرف .. اللي ممكن للاسف تبقى اكبر من قوة الدين نفسه ف بعض الأحيان ..
نظر الي وجهها الذى تعكرت صفحته النقية بفعل كلامه ليستدرك ناصحا:- أرجو انك متتصدميش بالحقايق اللي هتشوفيها بنفسك بس شوية وهتتعودي .. و متقفيش ف وش التيار عشان هايبقى جاامد قوووي عليكِ ..
انتفضت واقفة و مدت كفها من جديد ملقية التحية هاتفة فى اعتزاز:- متشكرة قووي يا حضرة الظابط ع النصيحة الغالية دي .. بس للاسف انا متعودتش اشوف الغلط وأسكت ..
وسارت فى اتجاه الباب راحلة ليهتف خلفها:- يبقى هاتتعبي قووي هنا يا دكتورة .. وانصحك .. لو تقدرى تبعدي عن هنا .. ابعدي بسرعة قبل ما يجرفك تيار البلد دي اكتر من كده ..
ألتفتت اليه وهزت رأسها فى هدوء شاكرة له نصيحته و اندفعت خارج النقطة تكاد تموت قهرا ..
اما هو فتبعها بنظراته حتى غابت عنه فاستدار خارجا من خلف مكتبه فى اتجاه النافذة القريبة متطلعا منها ناظرا اليها و هى تركب الكارتة مبتعدة .. و ارتسمت على شفتيه ابتسامة هو نفسه لا يعرف كيف يصنفها .. هل هى ابتسامة إشفاق ام ابتسامة إعجاب !..
وصل عفيف للموضع الذي حدد خفيره هاتفا بنفسه:- فينه راح المخبل دِه !؟.. انا مش جايل له ما يتحركش من مكانه !؟..
تلفت حوله في ضيق يكاد يرتكب جريمة ما حتى ظهر الخفير اخيرا فهتف به صارخا:- كنت فين يا حزين !؟.. انا مش جايل لك متتعتعش من مطرحك ..!؟..
هتف الخفير مرتبكا بحروف متلجلجة خوفا:- السماح يا عفيف بيه .. معلش .. اصل اني يعني .. رحت اعمل ذي الناس .. الواجفة بالهوا چار البحر ف السجعة دي ..
قاطعه عفيف هاتفا في ضيق:- فين العمارة !؟..
اشار الخفير باتجاه احدى البنايات القريبة:- أهي .. الدور التالت .. شجة صاحبه سمير ..
اندفع عفيف باتجاه البناية و ما ان اصبح قبالتها حتى اخذ نفس عميق و دلف اليها ليطالعه البواب جالسا فى خمول و قد انتفض ما ان ادرك وجود عفيف هاتفا:- خير يا حضرت !؟.. عايز حاجة !؟..
اكد عفيف:- شجة الاستاذ سمير ..
اكد البواب:- اه .. اتفضل الدور التالت اول شقة ع اليمين ..
صعد عفيف في هوادة فى بادئ الامر وما ان اختفى عن ناظريّ البواب حتى اندفع يصعد في عجالة.. توقف امام الشقة المطلوبة ودق بابها في هدوء يتنافي مع ثورته الداخلية .. لحظات مرت كالدهر حتى انفرج الباب عن محيا رجل في العقد السادس من عمره تطلع الى عفيف في تعجب متسائلا:- اي خدمة !؟..
تطلع اليه عفيف فى تعجب مماثل و اخيرا هتف:- انا اسف .. الظاهر غلطت ف الشجة..
هتف والد سمير:- حضرتك عايز مين !؟..
اكد عفيف:- الاستاذ سمير ..
هتف والد سمير:- انا علوي ابوه .. تحت امر...
لم يمهله عفيف لاستكمال كلماته بل اندفع لداخل الشقة مثل العاصفة باحثا داخلها لعله يجد ضالته لكنه لم ينجح الا فى استثارة غضب صاحبها الذي هتف في ثورة:- انت بتعمل ايه يا حضرت .. انا هجيب لك البوليس ..
اندفع عفيف خارج الشقة راحلا و لكن قبل ان يغادر ألتفت لوالد سمير معتذرا:- انا اسف .. الظاهر ده سوء تفاهم ..
هتف والد سمير:- انت تعرف ابني سمير منين !؟..
اكد عفيف:- معرفهوش .. الظاهر انا بدور على سمير تاني .. عن اذنك ..
و اندفع هابطا الدرج في عجالة و منه لخارج البناية متوجها لخفيره الذي شعر انه سينال من عفيف ما يستحق وربما يلق به في البحر و يعود للنجع دونه ..
صرخ عفيف ما ان طالع الخفير:- انت متأكد يا مخبل ان دِه العنوان !؟.. شكلك متوه و منتش واعي ..
اكد الخفير هازا رأسه في تتابع مذعورا:- لاااه .. و عهد الله كانوا هناك يا عفيف بيه .. اني متأكد .. ذي ما اني متأكد اني واعي لچنابك..
استشف عفيف الصدق في حديث خفيره فلزم الصمت وتطلع حوله فى حيرة متسائلا بنفسه:- يا ترى راحوا فين !؟.. لساتهم ف إسكندرية!؟.. و لا نزلوا على مصر!؟..
قرر المرور على عدة فنادق للسؤال ربما يكون قد استقر بهما المقام بأحداها .. فإذا كانا قد فقدا ملاذهما المتثل في شقة صديقه سمير فلابد انهما سيبحثان عن ملاذ جديد وهذه المرة قد يكون احد الفنادق ..
ارتاح للفكرة واندفع في تنفيذها و خلفه خفيره وهو لا يعلم الي اين سينتهي به المطاف ..
للمرة الأولى يكون ممتنا لما فعلته دلال من اجله رغم اعتراضه .. فبالرغم من ان هذا الامر كان دوما مصدرا للشجار بينهما الا انه حمد لها صنيعها حينما ادرك ان ما يحمل من مال بالكاد يكفيهما لوجبة وثمن ليلة في فندق فلقد أصرت على جعل حسابها المصرفي الذى كانت تودع فيه راتبها مع كل ما تتحصل عليه من عملها الإضافي في المستوصف الخيرى و غيره..
بحسابا مشتركا حتى اذا ما احتاج لمال لا يضطر لسؤالها وخاصة بعد تخرجه وبقائه بدون عمل لفترة .. الان ها هو يشكرها ألف مرة على ذلك فلولاه ما كان يعلم أين يمكنهما التوجه وهو يملك بالكاد ثمن عشاءهما هو و المسكينة التي تنتفض بردا بجواره ..
اغلق حافظة نقوده في عجالة قبل ان تنتبه لما يفعل حتى اذا ما ما مرا على مطعم للأكلات السريعة دخلا يبتاع لها ما يسد جوعها مع بعض الشراب الساخن ليمدها بالدفء حتى يقرر أين يمكنهما ان يبيتا ليلتهما .
مد لها كفه بالطعام و الشراب الساخن عبر الطاولة المنزوية في احد أركان المطعم هامسا:- كلي حاجة .. انتِ مكلتيش حاجة من الصبح .. و اشربى الحاجة السخنة تدفيكِ..
هزت رأسها في رفض وهي تحيد بنظراتها الدامعة بعيدا تنظر عبر واجهة المحل الزجاجية للخارج ..
مد كفه لاشعوريا يحتضن كفها في تعاطف وللمرة الأولى لا تنتفض للمساته بل نظرت اليه وسالت دموعها رغما عنها و همست من بين دموعها:- انا بجيت حمل تجيل عليك .. انا عارفة .. آسفة ..
ولم تستطع إكمال كلماتها فقد غلبتها دموعها لتجذب كفيها من بين أحضان كفيه وتداري بهما وجهها محاولة وأد شهقاتها الموجوعة ..
احترم ألمها لبعض الوقت حتى ما ان هدأت حدة شهقاتها عاود امره لها من جديد بحنو:- كلي حاجة بقى .. عشان نلحق نشوف هنعمل ايه قبل ما الليل يدخل اكتر من كده.. و بعدين انتِ عمرك ما كنتِ حمل عليا .. انتِ ملزمة مني لانك قدام ربنا مراتي .. في راجل تبقى مراته حمل عليه برضو !؟
ابتسمت في خجل واومأت برأسها إيجابا و بدأت في تناول طعامها ..و هو يكتم ويداري وجعا مماثل لوجعها .. لكن عليه ان يدع الثبات فالمشوار طويل .. و دلال ربت رجلا .. لم ولن يخزلها ابدا..
كان يتطلع اليها مشفقا فهى ابدا لا تستحق ما تعشه الان وهى ابنة الحسب المرفهة سليلة العائلة العريقة ومدللة اخيها ..
كانت ساهمة تتطلع للخارج عبر زجاج النافذة تأخذها خواطرها بعيدا الا انها توقفت عن تناول طعامها و حملقت بشدة في شبح يقف خارج المطعم .. تنبه لنظرتها المصدومة فوجه نظراته الي حيث تركز نظراتها ليشهق في ذعر و اخيرا يجذبها لينحنيا مختبئين خلف اظهر مقاعدهما العالية ..
كان عفيف يقف على احد الأرصفة يتطلع حوله في ضجر فقد قضى معظم يومه باحثا عنهما بكل فندق قد يتوقع انهما نزلا به لكنه لم يفلح فى العثور عليهما .. شمله اليأس و الضيق وزفر في غضب مكبوت قبل ان يندفع في اتجاه محطة القطار وقد قرر العودة من حيث أتى وقد شمله الإحباط كليا فها قد فقد الخيط الوحيد الذي استطاع الوصول اليه للامساك بهما..
ما ان تأكد نديم من رحيل عفيف بالفعل من امام نافذة المطعم حتى امرها بالظهورلترفع جزعها اخيرا متطلعة اليه في حرج ليهمس نديم و هو يجز على اسنانه غيظا:- انتِ كنتِ شيفاه واقف بره ومقلتيش!؟.. افرضي كان شافنا !؟..
نكست رأسها في اضطراب ولم تعقب ليزفر هو بضيق مشيحا بوجهه عنها .. ساد الصمت بينهما للحظات قبل ان يهمس نديم بنبرة حانية متفهمة متسائلا:- كان واحشك !؟.. مش كده !؟..
اكدت بهزة من رأسها دون ان تفوه بحرف لكن عبرات عينيها التي انسابت متتابعة كانت كافية و زيادة لتخبره ماذا فعل بها الشوق لأخيها الغالي فلاذ بالصمت بدوره و بداخله يتمزق وجعا ..
انتفضت مذعورة عندما تناهى لمسامعها صوت ألة تنبيه سيارته و هى تعبر بوابة البيت الكبير .. اندفعت للنافذة لعلها تستشف امرا ما يجعل خافقها الذي تعدت سرعة دقاته الحد الطبيعي يهدأ قليلا لكنها لم تبصر شيئا بعد ان اختفت العربة حيث موضعها خلف البيت ..
اندفعت تهبط الدرج فى عجالة حتى انها كادت ان تنكفئ عدة مرات على وجهها لسرعتها المفرطة حتى وصلت للمدخل الرئيسي وهى لاهثة تكاد تنقطع انفاسها انفعالا و ما ان طالعت محياه حتى اندفعت اليه هاتفة باسمه:- عفيف بيه !؟.. ايه اللي حصل !؟..
تطلع اليها واجما ولم ينبس بحرف فاقتربت فى توجس هامسة:- أوعى تكون ..
لم تكمل جملتها المتلعثمة و هو بدوره لم ينطق مما دفعها لتهتف صارخة:- عملت فيهم ايه!؟..قتل..
قاطعها هاتفا في هدوء:- اهدي يا داكتورة .. هما بخير .. انا ملحجتهمش ..
هتفت في سعادة:- ملحقتهمش !؟..
هتف مؤكدا بايماءة من رأسه:- ايوه ملحجتهمش .. كانوا مداريين ف شجة زميل اخوكي اللي ف اسكندرية اللي اسميه سمير.. و الله اعلم ايه اللي خلاهم يسيبوها جبل ما أوصل بشوية ..
هتفت متعجبة:- بس انت ايه اللي عرفك بسمير و شقته !؟.. ده انا نفسي كنت نسياها خالص ..
تطلع اليها في حسرة هاتفا:- الحوچة يا داكتورة خلتني ادور ف كل صحاب اخوكِ وكنت حاططهم تحت عيني و بالذات اللي ليهم صلة كبيرة بيه .. و اهااا .. كان عندي حج و لچأ لواحد منيهم .. بس للاسف معرفتش أوصلهم ف الوجت المناسب .. بس ملحوجة ..
هتفت في ذعر:- ملحوقة ازاي!؟..
ابتسم هاتفا:- ما دام حضرتك مشرفانا يبجى اكيد ملحوجة ..
ألقى كلماته الساخرة واندفع صاعدا الدرج تاركا إياها تنظر الى حيث غاب في غيظ لكن رغما عن ذلك شعرت براحة كبيرة تعتريها ما ان اطمأنت ان أخاها بخير .. و كان هذا يكفيها ..
اندفع من الباب المفضي للمطبخ تحت أنظار الخالة وسيلة والتى لم يلق عليها السلام كعادته واكمل اندفاعه المتهور حتى وصل لقلب البهو في منتصف المندرة .. هم برفع صوته يناديها الا انها ظهرت من خلف باب حجرة الكشف التي كانت تغلقها وقد أنهت لتوها كشفها الاخير و رحلت صاحبته ..
تطلعت بدهشة لذاك الذى يقف متحفزا فى قلب المندرة بهذا الشكل الذي ينذر بالسوء ..
هتفت فى تعجب:- عفيف بيه !؟.. خير ..!؟..
هتف جازا على اسنانه فى محاولة للسيطرة على انفعالاته و التي شعرت بشراراتها المتطايرة من حدقتيه الفحميتين اللتان أصبحتا بلون الجمر:- خير منين !؟.. مهواش خير يا داكتورة !؟..
ازدردت ريقها بصعوبة و كل ما تناهى لعقلها هو نديم اخوها فهتفت بصوت متحشرج:- هو في اخبار تاني وصلتك عن نديم وناهد !؟..
هتف بغضب:- لااااه .. انا بتكلم ع اللى عمِلتيه !؟..
تساءلت فى حيرة:- عملت ايه !؟..
هتف صارخا هذه المرة:- ليه روحتى النجطة تبلغي عن ابوا نادية!؟..
هتفت مجيبة:- انا ..
قاطعها فى غضب هادر:- وليه مجلتيش انك هتعملى كِده !؟..
هتفت بغضب مماثل:- عفيف بيه!؟.. اولا ..حضرتك مكنتش موجود وانا مش هاخد رأى حد ف اللي شايفة من وجهة نظري انه صح .. و ثانيا انا حبيت أعفي حضرتك م الحرج و ابقى قدام الكل اتصرفت من نفسي وسيادتك تبقى بعيد عن الموضوع ..
هتف مذهولا:- بعيد كيف يعنى !؟. انتِ واعية لحالك انتِ بتجولي ايه!؟.. كيف ابجى بعيد عن حاچة بتحصل ف النعمانية !؟..
هتفت ساخرة:- يبقى صحيح بقى اللى بيتقال ان مش ممكن حد يعطس ف النعمانية ولا يكح من غير اذنك و الا تودره ..
هتف متعجبا:- انتِ مين جالك الكلام ده !؟..
هتفت بغيظ:- نفس اللي بلغك اني رحت النقطة اقدم بلاغ ..
هتف فى سخرية:- ع العموم اني عارف مين اللي جال لك كِده .. اكيد حضرة الظابط الهمام .. بس كويس انه عِجّل و عرف الدنيا ماشية كيف ..
اكدت فى هدوء:- قصدك حضرة النقيب شريف عبدالواحد !؟.. ايوه هو اللي قال كده وقال لي ان اللي بعمله غلط و مينفعش و ان الدنيا هنا غير القاهرة..
لا يعلم لما نطقها و ذكرها لاسم الضابط بهذا الشكل جعله يغلى غضبا على غضبه المستعر من الاساس ولكن رغم عن ذلك اكد في هدوء وعينيه الصارمة قد ضاقت ملقية اليها بنظرة لم تفهم مدلولها:- مش بجوللك عِجّل .. اصلك اول ما چه النعمانية كان ذي حالاتك كِده.. كان عايز ياخد الدنيا جفش..
اكدت هى فى لهجة متحدية:- يمكن هو عمل كده لانه محكوم بقوة القانون ونصوصه لكن انا مش هبقى كده يا عفيف بيه و اللى هشوفه صح هعمله ..
تساءل فى حذّر:- جصدك ايه !؟..
اكدت بثقة:- قصدي اللي حضرتك فهمته .. انا مش هسكت على حاجة غلط و مش هقف اتفرج وايدي متكتفة و معملش حاجة تمنعها .. عن اذنك ..
و اندفعت فى اتجاه الدرج تعتليه مسرعة تاركة اياه يكاد يحرق المندرة بل البيت الكبير كله بما فيه من شدة استعارغضبه الذى أشعله تحديها له ..
↚
منذ اخر جدال بينهما لم تره او حتى تحاول بل انها كانت تتجنب لقاءه بشكل متعمد حتى هو استشعر ذلك وكان على ما يبدو يحذو حذوها .. ثلاثة ايّام كاملة لم تلمح طيفه الا ظلا مبتعدا عندما تكون بشرفة غرفتها ويصادف خروجه من البيت الكبير فى نفس ذات اللحظة متخطيا البوابة الحديدية للخارج ...
نزلت الى قلب المندرة وبدأت في الاستعداد لقدوم النسوة .. استغرقت معظم النهار فى الفحوصات المختلفة .. كانت تشعر بإرهاق فوق العادة وها قد انتهت اخيرا من اخر مريضة كانت عندها وودعتها على الدرج الخارجي لحجرة الكشف مؤكدة عليها ببعض النصائح و ضرورة زيارتها في الوقت المحدد لها دون تأخير و ما ان غابت المرأة خلف الباب الخلفي للبيت الكبير الذى خصصه عفيف لدخولهن اليها حتى استدارت تعود ادراجها للداخل الا انها توقفت عندما سمعت صوت يسألها في فضول:- انتِ بجى الداكتورة اللي بيجولوا عليها..!؟..
استدارت لمصدر الصوت لتطالعها عيون قاتمة جعلتها تنتفض من كم الخبث الذي يحويها .. نظرات ذئبية حقيرة فصلتها وشعرت تحتها باكتساح حقير لأمنها وسلامتها حتى انها تراجعت للخلف رغبة في جعل مسافة كافية بينها وبين صاحب تلك النظرات المنفرة ..
لا تعرف من هذا و لا تريد ان تعرف كل ما كانت ترغب به في تلك اللحظة هو المضي في سلام بعيدة عن ذاك الشخص الغريب الغير مريح .. الا ان هتافا بصوت تعرفه جعلها تنتفض ناظرة اليه في سعادة لمجيئه .. فرحة عجيبة انتابتها عندما طالعها محياه بعد ايّام من القطيعة جعلتها تتعجب من أحوالها مؤخرا .. هتف عفيف يقطع شرودها بصوت جهوري في الضيف الواقف امام دلال والذي لم يتزحزح لمرأى عفيف:- اهلًا يا صفوت .. شرفت .. بس ايه!؟.. موعتلكش وانت داخل .. و لا كنك چيت من باب الحريم..!؟..
كادت دلال تنفجر ضاحكة شامتة في ذاك الاحمق المدعو صفوت من جراء سخرية عفيف اللاذعة والمبطنة بها تساؤلاته .. الا ان صفوت مررها بيسر عجيب ورد ببرود:- اني چيت ارحب بالداكتورة .. مش ضيفة عندينا برضك ..!؟.. و ف نفس الوجت أخدها عشان اختى خديچة تعبانة شوية .. ما انت عارف انها ف اول حملها وچوزها مسافر جلت اچي أرحب بالداكتورة وتتفضل عندينا شوية تشوف خديچة .. ربنا يجومها بالسلامة ..
هتف عفيف:- اللهم امين .. و توجه بحديثه لدلال هاتفا:- معرفتكيش يا داكتورة.. صفوت يبجى بن عمتي .. و
هتف صفوت مقاطعا:- و خطيب ناهد اخته عن جريب باذن الله..
زمجر عفيف بلهجة مخيفة أرعبتها شخصيا هاتفا و هو يجز على اسنانه:- لسه مبتناش فيه الحديت ده يا صفوت .. و جفل ع السيرة دى دلوجت ..
تنبهت لما قاله كلاهما وادركت ان عفيف يقع تحت ضغط هائل بفعل غياب اخته ناهد و التي يطلبها بن عمتها للزواج وهي بالفعل غير موجودة في النجع بل انها غير متاحة من الأساس وهي التي هربت مع أخيها ولا علم لأحد بموضعهما حتى اللحظة .. و كم اشفقت على عفيف .. فهو بقلب موقف لا يحسد عليه إطلاقا.. لذا هتفت بغية تلطيف الأجواء:- انا تحت امرك يا صفوت بيه انت و الهانم اختك .. قرايب عفيف بيه اكيد يهموني ..
ابتسم صفوت ابتسامة سمجة هاتفا بلهجة امرة:- طب ف انتظارك يا داكتورة عشان تاچى معاي ..
هتف عفيف في زمجرة و قد رأها تستدير مغادرة بهدف تنفيذ امر صفوت بتلقائية:- الداكتورة مبتروحش لحد بيته .. اللى عايزها ياجيها هنا ذي باجي الحريم ..
هتف صفوت بلهجة تموج غضبا:- ايوه صحيح .. هي مبتروحش الا عند مرت عفيرك وانت اللي توديها بنفسك كمان ..لكن بت عمتك .. لاااااه..
توقعت دلال مجزرة هاهنا بعد كلمات صفوت المسمومة تلك لكن عفيف خيب توقعاتها ليقول في هدوء قاتل:- الداكتورة مبتخرچش برة البيت الكبير الا لحالات الولادة بس ..غير كِده اللى عايزها ياچيها .. حتى و لو كان مين ..
ثم استدار الى دلال هاتفا في تبجيل مشيرا للداخل امرا:- اتفضلي يا داكتورة على چوه .. تعبناكِ النهاردة ..
كانت ترى في لهجته الآمرة ورغم تسلطها نوع من الأمان العجيب الذى ادهشها .. كيف يمكن ان يجتمع الأمان و التسلط في جملة مفيدة واحدة وتستقيم ..!؟.. لكن ها هو عفيف النعمانى يفعلها .. وها هي على الرغم من بغضها للتسلط و التجبر تجد نفسها مستمتعة به بشكل عجيب ادهشها وأخافها .. لكنها تقبلته على ايه حال وخاصة انه خلصها من ذاك الشخص المقيت المدعو صفوت والذي تتمنى ان لا تره مرة اخرى طوال مكوثها في النعمانية .. وللمرة الثانية تتعاطف مع ناهد والتي لو بقيت لأصبحت زوجة هذا الشخص اللزج والذي طلبها للزواج من عفيف .. و لا تعرف ما الحجة التي سيسوقها مستقبلا ليؤجل الحديث في هذا الامر!؟..
هتف موظف الاستقبال لنديم:- اتفضل يا فندم مفتاح الاوضة .. شرفتونا ..
اخذ نديم المفتاح وأشار لناهد لتتبعه في استسلام حتى باب الغرفة .. فتحها في هدوء و افسح لها الطريق لتمر أولا قبل ان يدلف اليها ويغلق الباب خلفه ..
وقف كل منهما يتطلع للغرفة بأثاثها القليل و ما تحويه الا التطلع الى رفيقه .. فقد جمعهما بيت واحد من قبل وكان لكل منهما غرفته الخاصة التي ينال فيها القسط الوافر من الحرية اما هنا .. في تلك الغرفة متوسطة الاتساع والتي لا تحوي الا اللازم و الضرورى فقط .. فكيف سيتسنى لهما ذلك!؟..
كان هو اول من قطع الصمت كعادتهما ليهتف في هدوء:- انا هنام هنا على الكنبة دي .. وانت هتخدي السرير أريح لك ..
هتفت معترضة لضيق الأريكة التي اتجه اليها بالفعل:- بس ..
أكد بلهجة صارمة:- مفيش بس ..
ثم استطرد بلهجة اقل صرامة تحمل في طياتها بعض الأسف:- معلش .. دي الاوضة اللى على قد إمكانياتنا دلوقتى لحد ما نشوف هنعمل ايه .. اهم حاجة ان ليها حمام خاص بيها عشان متخرجيش بره لأى سبب الا وانا معاكِ .. الفندق كويس .. بس مفيش حاجة مضمونة ..
أومأت برأسها في طاعة وهي تتجه في تثاقل الى طرف الفراش الأبعد عن الأريكة التي يحتلها و التى بالكاد تكفى جسده ..
جلست لا تعرف ما عليها فعله .. فهى تشعر انها تحلم حلم طويل لا يقظة منه .. بالاصح كابوس وجدت نفسها مغروسة فيه عنوة ولا يمكنها الاستيقاظ لإنهائه وعليها ان تعيش تفاصيله المحرجة و تتجرع المرارة والألم قطرة قطرة..
تنهدت في قلة حيلة و ألقت بنظرة سريعة على شريكها بالغرفة لتجده غارق في السكون لا يأتي بحركة فأعتقدت انه راح في النوم .. فرفعت قدميها و دستهما تحت غطاء الفراش الذى جذبته حتى عنقها لتتعلق عيناها بالسقف وهي تفكر في ما ألت اليه حياتها في تلك اللحظة بعد ان كانت الأميرة في ظل اخيها وعزه .. دمعت عيناها .. و أخيرا ألقت بنظرة على ذاك القابع هناك وهي تشعر بالاسف نحوه فهو ما استحق ابدا ما يحدث له معها .. أغمضت عينيها محاولة طرد كل تلك الأفكار التي تطرد بدورها النوم بعيدا حتى تستطيع الولوج لدنيا الأحلام والتي بالتأكيد ستكون ارحم ألف مرة من ذاك الكابوس الحي الذى تعيشه وعيناها مفتوحتان ...
اندفعت دلال من باب المطبخ المشترك بين المندرة و البيت الكبير بغية لقاء الخالة وسيلة وسؤالها عن بعض الأغراض التي قد تحتاجها في غرفة الكشف الا ان الخالة وسيلة لم تكن هناك بل انه في نفس اللحظة التي اندفعت فيها للداخل .. ظهر عفيف دالفاً للمطبخ بدوره .. و لكن هل هذا عفيف حقا ..!؟.. من هذا الرجل الذى يرتدي تلك البدلة العصرية الرائعة والتي تناسب قده السامق وبنيته المنحوتة كصخر الجبل .. تنبهت لخواطرها الغير معتادة على عقلها الواعى لتجبر نظراتها لتسيطر على رغبتها الملحة في التطلع اليه بهذا الشكل الجرئ وخاصة انها المرة الأولى تماما التي تراه فيها دون عمامته .. تاج رأسه الصعيدية اليابسة كالصوان ..
وقف متطلعا اليها بدوره لا يعلم ما عليه قوله او فعله و تنبهت بعد ان استطاعت بأعجوبة السيطرة على نظراتها انه يمسك بربطة عنقه كالتائه ..
وأخيرا دلفت الخالة وسيلة للمطبخ من جهة عفيف تقطع ذاك الاضطراب هاتفة وهي تراه واقفا في حيرة:- خير يا عفيف بيه!؟.. كنت بتنادم علىّ..
وتنبهت الخالة بعد ان مرت من خلف ظهر عفيف لوجود دلال فابتسمت لها في حبور هاتفة:- دِه الحبايب كلهم هنا .. كيفك يا بتى عايزة حاچة .. !؟..
اومأت برأسها هاتفة:- اه يا خالة .. بس انا مش مستعجلة .. شوفي طلبات عفيف بيه الأول .. الظاهر هو اللي مستعجل ..
تردد في الحديث والخالة وسيلة تتطلع اليه ولكنه هتف متعجلا وهو يظهر رابطة عنقه أمام أعينها:- الهبابة دي .. تعرفي تربطيها ..!؟..
تطلعت اليها الخالة وسيلة في عدم اهتمام ثم اعادت نظراتها للاوانى التي تغلى على نار الموقد هاتفة:- يا ولدي انا ايش دراني بالحاچات دي !؟.. ناهد اللي كانت بتربطهالك .. لكن ..
وصمتت الخالة بعد إدراكها انها تجاوزت في الحديث بذكر ناهد في تلك اللحظة و خاصة امام دلال .. و لكنها تداركت الموقف في ذكاء هاتفة:- ما تربطيها له يا داكتورة .. اكيد تعرفي .. صح ؟..
انتفضت دلال في احراج وتطلعت اليه وهو يقف كالتلميذ الخائب الغير قادر على أداء واجبه بمفرده و تذكرت ان نديم لديه نفس العقدة و انه لم يستطع يوما إجادة عقد رباط العنق مهما حاولت تعليمه .. شعرت بالحنين لأخيها الصغير و ربيبها .. و يبدو انه نفس الشعور الذى يكتنف عفيف في تلك اللحظة مفتقدا تلك الأشياء البسيطة التي كانت لناهد .. و لناهد فقط حق أدائها لمساعدة اخيها الحبيب ..
اقتربت في هدوء وقد قررت المساعدة بالفعل لتتناول رابطة العنق من يده التي امتدت بها ..
ليسير خارج المطبخ وهي تتبعه تاركي الخالة وسيلة بين أوعية طبخها ووقفت هي تنظر لتلك المرآة الجانبية في احد الأركان و هي تضع رابطة العنق على رقبتها هي و تبدأ في عقدها وما ان انتهت حتى خلعتها في هدوء تناوله إياها لكنها فوجئت بانحنائه تجاهها لتضع الرابطة في عنقه ..
تسمرت كفها لثوانى لا تعرف ما عليها فعله .. و أخيرا دفعت بالرابطة حول عنقه او بالاصح حول ياقة قميصه ..اعتدل قليلا .. فأصبحت ذراعاها مرفوعان للأعلى كأنما هي من تتعلق به بل تتشبث لتظل بقربه .. كان القرب مهلكا لكلاهما وتعلقت عيون كل منهما بعين الاخر في حديث طويل .. حديث تعارف .. و كأنما تره الان للمرأة الأولى كما يراها .. تلاقت اكفهما عدة مرات سابقا و تعارفت فيما بينهما لكن حديث العيون وتلاقيها حديث اخر .. حديث يطول شرحه..
نوافذ للروح تُفتح على مصرعيها فيتملى كل منهما لروح صاحبه و يسكن اليها و يأنس لها دون اى حواجز او سدود .. دون ان يكون هناك لكن .. هناك فقط همس شجي و سكون مطلق وروح تهيم في فضاء شاسع من النعيم ..
ولكن دوما ما تأتي لحظة التريث ليبدأ العقل فى إطلاق إشارات التنبيه لتع الروح بالخطر المحدق فتغلق ابوابها فى حرص خوفا من الوقوع في الأسر وهاقد حانت تلك اللحظة من قبلها لتبتعد مسرعة و هي تجذب احدى طرفي رابطة العنق لتحكمها حول عنقه ولم تكن تدرى من فرط اضطرابها انها زادت من جذبها حتى كادت تخنقه ليهتف هو ساخرا بصوت أجش ساعلا:- ربنا ما يوجع رجبة حد تحت يدك يا داكتورة ..
تراجعت خطوة للخلف في احراج كسا وجنتيها بالوردي .. فضحك وهو يخفف من شدة احكام الرابطة حول عنقه .. وتطلع الى خجلها الذي يعشق و نظراتها المطرقة التي يتمنى ان ترفعهما للحظات حتى تكون هي اخر ما يتطلع اليه قبل ان يغادر في سفرته الى القاهرة لعمل ما .. و قد فعلت و رفعت اليه نظرات عاتبة و قد عادت اليها روحها الوثابة لتجول من جديد بين جنبات صدرها تطل بجلاء من عينيها السمراوتين هاتفة بضيق:- هي دي كلمة شكراً !..
هتف مازحاً مغيظاً إياها راداً عليها كأنه من قدم المعروف لا هي:- العفو ..
نظرت اليه في قهر:- هو مين اللي المفروض يشكر مين ..!؟..
هتف و هو لايزل محتفظا بلهجته المازحة:- عايزة الحج .. المفروض انتِ اللي تشكريني .. بعد اللى عملتيه فيا وكنتِ هتخنجيني كان ممكن اخد بتاري منيكِ .. وانتِ عارفة .. انا مبسبش حجي ابداااا ..
هتفت معترضة بلهجة طفولية و هي تندفع لداخل المطبخ:- انا ايه اللي جبني أصلا من أوضة الكشف!؟..
هتف يناديها بلهجة جادة:- يا داكتورة ..!؟..
تنبهت ووقفت و كفها على مقبض باب المطبخ واستدارت مستفسرة ليهتف مبتسما تلك الابتسامة التي تهلكها:- شكراً..
فهتفت هي في ضيق مفتعل لتداري تأثيره على أعصابها التي تذوب بفعل نظراته تلك:- العفو .. اي خانقة ..
انفجر ضاحكاً على تعليقها الأخير قبل ان تندفع من أمامه لداخل المطبخ و صوت قهقهاته تلك يجعل قلبها كالسكير مترنحا بين أضلعها اما هو فقط كفاه من زاده انها كانت اخر من يلقاه قبل ان يرحل مبتعدا للقاهرة فى سفرة عمل هام ..
اربع ليال مرت منذ غاب عن النعمانية .. اربع ليال من عدم الراحة والأمان اعترتها لعدم وجوده بالقرب .. على الرغم انه وضع حراسة قوية على أبواب و مداخل البيت الكبير الا انها كانت لاتزل تشعر بالخواء لعدم وجوده .. إحساسها نفسه أقلقها وجعلها اكثر ضيقا ونفاذ صبر ..
كانت تملأ فراغ يومها كالعادة بالزائرات من المريضات اللائي اكتسبت ثقتهن بفضل الله ..لكن ما ان ينتصف النهار و تقل هذه الزيارات حتى تندر تقريبا بعد العصر ويبدأ يزحف ذاك الإحساس العجيب بالفراغ الداخلي و عدم الأطمئنان الذى يتملكها في غيابه ..
واليوم ليس استثناءً فها هي تستيقظ لتستقبل المريضات و ينتهى اليوم بلا اى جديد .. نزلت للحديقة المحيطة بالبيت الكبير .. فالطقس الى حد كبير دافئ ذاك النهار مما دفعها لجلب احدى الروايات و النزول للحديقة تجلس على تلك الأرجوحة التي اكتشفت وجودها في ذاك الركن البعيد و التي عرفت انه صنعها خصيصا من اجل ناهد اخته المدللة التي كان يعاملها كأميرة تأمر فتطاع ..
جلست تقرأ رواية من تلك الروايات التي وجدتها بجوار فراشها بعد استفاقتها من غيبوبة مرضها .. نظرت الى الرواية لتقرأ عنوانها "قنديل ام هاشم " .. تعجبت من الاسم و لكنها ما ان بدأت أولى سطورها حتى اخذتها الرواية بين طياتها و هي تكاد تجزم ان صراع البطل مع التخلف و الموروثات القديمة لا يختلف بأى حال من الأحوال عن صراعها هنا في نجع النعماني..
تشابه الحالة جعل الرواية اكثر متعة لذا لم تنتبه لمناع الذى اقترب متنحنحا عدة مرات حتى تنبهت هاتفة:- خير يا مناع..!؟..
ابتسم مناع في هدوء وهو يضع حمله الذى كان يحمله على كتفه هامسا بإحراج:- معلش بجى يا داكتورة .. هَدية مش كد مجامك بس جلت حضرتك لازما تكوني اول من يدوج جصب ارضي بعد ما خلصت كسره جبل ما عفيف بيه يسافر .. اهو خلصت دورى .. ياجى بالسلامة و يبدأ دوره ف الكسر ..
ابتسمت في سعادة هاتفة:- هدية مقبولة يا مناع .. بس هو كسر القصب بالدور ..!؟.. اول مرة اعرف ..
ابتسم مناع مؤكدا:- معلوم يا داكتورة بالدور .. الجصب لو جعد في الأرض ميبجالوش عازة لازما ينكسر بسرعة ويتحمل لمصنع السكر .. و المصنع بيعين مهندس يشرف ع الأدوار دي وانت عارفة عاد ايه اللى ممكن يُحصل لو المهندس دِه زمته واسعة .. لكن على مين ..!؟.. مش ف النعمانية و ف وچود عفيف بيه .. دِه هو بذات نفسيه واخد دور زينا زييه مع انه بس باشارة صغيرة جصبه يتكسر و يتحمل اول جصب و ما حد فينا يجدر ينطج بحرف .. لكن عفيف بيه طول عمره حجاني ..
ابتسمت دلال في شرود ليهتف مناع من جديد:- تعرفي يا داكتورة .. انى لولا عفيف بيه مكنتش طُلت سعدية ولا اتچوزتها ..
انتبهت بكامل حواسها لحديث مناع وهو يسرد عليها تفاصيل حكايته مع سعدية:- اني كنت رايدها ف حلال ربنا وعلى سنته و رسوله لكن .. ابوها منه لله بجى .. كسر مجديفي ومكنش عاچبه العچب .. مكنش راضي يدى بته لراچل على كد حاله محلتوش طين وشغال غفير محلتوش الا سلاحه ..
يومها كنت هموت من جهرتي لجيت عفيف بيه بيجولي ولا يهمك هتبجى من نصيبك وجبل ما يهل الشهر العربى هتكون ف بيتك..
هتفت دلال مبهوتة لحديث مناع:- وصدق فعلا ..!؟..
أكد مناع بحماسة منقطعة النظير:- وااااه .. لو عفيف النعماني يدي كلمة وميصدجش فيها أُمال مين اللي يصدج ..!؟.. و الله جبل ما يهل الشهر العربي كمان كانت ف داري .. راح بذات نفسه لأبوها و كبرني جدامه واني المجطوع من سجرة محلتيش الا امى هي اللى طلعت بيها م الدنيا .. و كتب لي جدام ابوها جيراطين ارض من الأرض الجبلية اللى بجروب الچبل..
نظرت اليه في دهشة ممزوجة بتعجب تهمس في نفسها:- هل من يتحدث عنه مناع هو عفيف النعمانى الذي لا تعلم عنه شيئا .. ام من يكون ..!؟..
ليستطرد مناع:- فكرك يا داكتورة ان عفيف بيه ساعدنى عشان اني غفيره وكِده ..!؟.. لااه .. عفيف بيه خيره ع الكل هنا .. صغير وكبير .. تعرفي الواد خرابة ..
ابتسمت ما ان تذكرت الاسم وكيف فتح حقيبتها الثمينة بمهارة شديدة و هي التي كانت تسخر من اسمه .. اومأت برأسها مؤكدة:- اه .. اعرفه .. صلح لي شنطتي ..
هتف مناع بحماس:- معلوم يصلحها و يصلح ابوها كمان.. دِه واد چن .. تعرفي يا داكتورة ..
واخفض صوته متطلعا حوله دلالة على أخبارها بسرعظيم مستطردا بهمس:- الواد خرابة دِه كان من المطاريد ف الچبل ..
انتفضت غير مصدقة .. ليبتسم ما ان وعى لنفضتها سعيدا بمدى تأثير حكاياته على ملامحها المذعورة في تلك اللحظة وأكد قائلا:- ايوه .. كان من مطاريد الچبل .. كان حرامي .. يسرج الكحل من العين.. بس عفيف بيه جدر يمسكه ف يوم وهو نازل من الچبل يسرج مواشيه.. يوميها علجه ع السجرة الكبيرة اللي جصاد الباب اللي بتوعيلها وانت داخلة دي ..
هتفت مصدومة:- ربطه وجلده ذي ما بنشوف ف الأفلام كده ..!؟.
قهقه مناع هاتفا:- لااه .. چلده ايه يا داكتورة .. عفيف بيه ميعملهاشي .. هو عِمل كِده عشان يخليه عبرة لكل واحد يفكر يهوب من بهايم النعماني او أي حاچة تخصه .. لكن ربنا جادر وهدا الواد خرابة على يده بعد ما أتكلم عفيف بيه معاه .. و لجينا عفيف بيه بنى له أوضة جرب مدخل البلد بيصلح فيها كل حاچة تخطر على بالك .. مش بجولك يا داكتورة واد چن .. و من يوميها محدش دخل البيت الكبير ولا صلح اى حاچة خربت فيه الا الواد خرابة دِه ..
كانت تفغر فاها غير مصدقة بكل تلك التفاصيل التي تتوالى على مسامعها عن عفيف النعماني .. ذاك الرجل الذى سيظل يبهرها ويثير دهشتها .. انه بحق رجل دهشتها الأول بلا منازع ..
تنحنح مناع عندما طال صمتها هاتفا:- جلبت دماغك يا داكتورة بحديتي .. يا رب يعچبك الجصب.. ولو احتجتي اي حاچة ولو كان لبن العصفور شاوري ياچيكي .. ده اني عفيف بيه موصينى اشوف طلباتك كلها وهو مش موچود .. ربنا يرد غيبته بألف سلامة ..
ابتسمت في هدوء هاتفة:- متشكرة يا مناع .. لو احتجت حاجة أكيد هقولك .. و هدية مقبولة .. سلملي على سعدية وعفيف الصغير ..
ابتسم وهو يغض الطرف ويومئ برأسه وهو يهم بالرحيل:- حاضر .. انتِ تأمري يا داكتورة ..
ورحل ليحتل موقعه من البوابة الكبيرة كالمعتاد ليتركها تجول الطرف في الحديقة حولها وهي تتذكر كل حرف قيل عن عفيف .. كل حرف كان بمثابة دفء من نوع خاص يدثرها و كأن مجرد ذكره يبعث في نفسها الأمان الذى افتقدته بشدة في غيابه الذى طال للأسف ..
تنهدت في قلة حيلة و تطلعت لحزمة القصب الكبيرة التي تركها مناع بجوار مجلسها لتنهض في حماس جاذبة احد الأعواد محاولة كسره كما رأت مناع يصنع مرة من قبل .. وضعت العود الصلب مقابلا لركبتها وبدأت في جذب طرفيه لعله يُكسر .. لكن لا فائدة .. عاودت الكرة من جديد وكادت ان تسقط من جذبها العود لتكسره .. لكنها ترنحت وتماسكت قبل السقوط ولم يُكسر العود بعد ..
همت بالمحاولة من جديد وهي تحجل على قدم واحدة وتجرب كسره على ركبتها الثانية الا ان ضحكة طفولية أوقفت محاولتها قبل ان تبدأ لتتطلع خلفها حيث مصدر الضحكة ليطالعها عفيف وهو يقف في بدلته العصرية والتي رؤيته بها تكاد تذيب قلبها وبجواره يقف مراهق لم يتعد الثالثة عشرة على أقصى تقدير بالأدق يجلس على كرسى مدولب و لازالت تلك الابتسامة الواسعة تكلل شفتيه ..
كان عفيف هو من بدأ بالسلام رغما ان هذا الواجب عليها لكن كيف لها ان تنطق حرفا وقلبها يترنح كالسكير شوقا بين جنبات صدرها:- كيفك يا داكتورة .. يا رب تكوني بخير ..!؟..
تمالكت نفسها و استجمعت احرف أبجديتها هامسة:- الحمد لله .. و حمد الله على سلامتك .. نورت بيتك ..
كان في تلك اللحظة قد تحرك ليكون أمامها مواجها لها مباشرة .. همس ينحني:- اسمحيلى يا داكتورة ..
لا تعرف لما يطلب السماح وبأي شيء تسمح .. لكنها ادركت ما كان يعنى بذهنها المشوش لقربه وهو يمد كفه ملتقطا عود القصب ليعود خطوة للخلف وفجأة يضع العود على ركبته ليجذبه في سرعة وقوة كاسرا العود غير عابئ ببنطال بدلته الغالية ..
مد كفه لها بالعود المكسور والذي اصبح نصفين وهو يهتف في الطفل المقعد:- وحشك الجصب يا كمال!؟..
اومأ الطفل في تأكيد ليبدأ عفيف في كسر عود اخر له بينما ألتفتت هي لتقترب من الطفل الذي وعت وهي تتذكر أين سمعت الاسم بالضبط و ادركت انه حفيد الخالة وسيلة الغائب والذى لم تره منذ جاءت الى النعمانية .. لكن ما هي قصة قدميه ولما يجلس على ذاك الكرسى المدولب ..!؟.. لم تخبرها الخالة وسيلة عن ذلك ابدااا .
↚
هتفت دلال بفضول وهي تجلس بجانب الخالة وسيلة تحت تلك الشمس الدافئة في ذاك الصباح الجميل يجاورهما كمال حفيد الخالة وقد اخذ في تقشير القصب و اعطاءه لدلال التي منذ ان وصل للبيت الكبير وقد أصبحت صديقته الأولى بلا منازع ... ذكرها كثيرا بأخيها نديم في مثل عمره .. كان كتلة من الذكاء و رجاحة العقل مع بعض الشقاوة المحببة لمن هم في مثل سنه الا ان كمال حُرم ذلك نظرا لظروفه التي تحاول ان تستفسر عن أسبابها في تلك اللحظة:- هو كمال ايه اللى حصل لرجله بالظبط ..!؟..
تنهدت الخالة وسيلة وهي تعبث بتراب الأرض بقطعة من عود قصب يابس كانت تمسك به بلا هدف محدد هاتفة في حسرة:- حادثة يا بتي .. كانوا جايين هو وابوه و امه ف العربية واتجلبت بيهم .. راحت امه وابوه .. ولدي الغالي .. ومبجيش الا هو من ريحتهم ..
تنهدت في حزن عميق كأن ما حدث لم يمر عليه عدة سنوات و كأنه حدث في الامس القريب .. ربتت دلال على كتفها متعاطفة وعم الصمت لتقطعه الخالة وسيلة بعدها بلحظات هاتفة:- بالك يا بتي لولا عفيف بيه كان كمال دِه ما حتى جادر يجعد على حيله كيف ما انتِ واعية .. شوفته على حاله دِه نعمة كَبيرة ..
دِه كان راجد مبيتحركش وعفيف بيه الله يستره هو اللي چاب الدكاترة من شرجها وغربها عشانه.. و نجلنا من دارنا البعيدة ف اخر البلد اللي كلها بالطين وچابنا هنا نعيشوا معاه ف الاوضة اللى جرب مطلع السلم اللى بيطلعك ع الدور التانى ف البيت الكبير .. جالى انها هتكون أريح لكمال وعشان أكون چاره دايما ومجلجش عليه وانى هنا..
شردت دلال وهي تطيل النظر لكمال الذي كان بعيدا بكرسيه المدولب في تلك اللحظة وهما يتحدثان عنه ولم تعلق على ما سمعته الا ان الخالة وسيلة أكملت في نبرة متفائلة:- بس عفيف بيه بيجول لي ان الداكاترة ف مصر لما شافوا كمال اخر مرة جالوا انه هيتحسن لو أتعمل له عملية كبيرة بس لما سنه يكبر شوية.. العملية دى هتتكلف كَتييير بس عفيف بيه الله يستره جالي انه هيتكفل بيها .. المهم ان كمال يجوم ويتحرك ذي بجية العيال ..
ابتسمت دلال في سعادة و قلبها يرفرف بين جنباتها لأفعال ذلك الرجل والتي سمعتها من كل المحيطين به.. كان رجل الأفعال الأول على طول الخط ولم يخيب رجاء احدهم .. دوما كان ناشرا للفرحة والسعادة للمحيطين به و كأنه عصا الساحر التي تحقق الأمنيات.. استفاقت فجأة من شرودها على صوت همهمات عالية تطلعت حولها باستغراب الا ان الخالة وسيلة كانت الأسرع منها استجابة لتتجه الى حيث تجئ الأصوات من ناحية الباب الرئيسي للبيت .. طلت برأسها وعادت في ثوان لتسألها دلال:- ايه اللي بيحصل يا خالة ..!؟..
اندفعت الخالة لداخل المندرة هاتفة بها:- تعالي وراي نشوفوا فيه ايه من باب المطبخ ..
لم تكذب دلال خبرا ودفعها الفضول لتلحق بالخالة وسيلة بسرعة حتى وصلا لباب المطبخ المطل على البهو الواسع للبيت الكبير والذي تجمع فيه كل هؤلاء الرجال وفي مقدمتهم عفيف بيه والعجيب ان بينهم امرأة ما .. لا تعرفها ولم ترها من قبل .. و كانت الهمهمات والصخب والجدال الدائر على أشده حتى هتف عفيف بصوته الجهوري متسائلا:- خبر ايه!؟.. هو احنا چينا هنا عشان نتعاركوا ولا نتفاهموا ..!؟..
صمت الجميع ولم يجرؤ احدهم على النطق بحرف بعد كلام عفيف و الذى استكمل حديثه هاتفا:- الكل يجعد ويوحد الله وكل مشكلة وليها حلها باذن الله..
هتف خفاجي احد الرجال الذين كانت المشكلة تخصهم وهو والد تلك الفتاة التي تدعى المسكنة و الغلب:- يا عفيف بيه هو ينفع اللي بيحصل دِه !؟ .. أكمننا غلابة يچوروا على شرف بتي واجعد اني ساكت حتى متكلمش .. ليه!؟.. دِه حتى ميرضيش ربنا ..!؟..
هتف عفيف صارما:- اهدى يا خفاچى هنشوفوا ايه اللى حصل الأول وبعدين لو ليك حج هتخده من عين الكل ..ايه اللى حصل بجى..!؟..
اند فع خفاجي يقص ما حدث من بن احد العائلات الكبيرة فى النجع تجاه ابنته التي لا تجد من يصد الشباب عنها لفقرها وعدم انتماءها لعائلة تحفظ لها حقوقها وشرفها فأضطر للجوء لعائلة أخرى طلبا للحماية ..
و أخيرا هتف في استكانة:- انى عايز حجى يا عفيف بيه وحج بتي..
كانت الفتاة تبكي في لوعة لا تخطئها الاعين.. لكن ما فعله خفاجي أشعل نار كانت ساكنة منذ امد بين العائلتين.. فالشاب المتهم من عائلة بينها وبين العائلة الأخرى التي استجار بها خفاجي الكثير من المشاكل والعداوات التي أخذت أشكال عديدة على مر الزمن واستطاع عفيف إخمادها الى حد كبير .. وما يحدث الان قد يشعل الفتيل و يحرك الجمر الذي تحت الرماد لتندلع نيران العداوة من جديد ..
همست دلال بالقرب من اذن الخالة وسيلة وهما خلف باب المطبخ الموارب تتابعا الذي يحدث:- حرام اللي بيحصل ف البنت الغلبانة دي.. هي فعلا عشان ملهاش حد يتجرأ عليها الشباب كده..!؟...
ابتسمت الخالة وسيلة وهي تضع براد من الماء على الموقد من اجل صنع الشاي لهذا العدد الكبير من الضيوف بالخارج هاتفة بسخرية:- والله انت طيبة جووى يا داكتورة.. دي مين دي اللي غلبانة .. لواحظ الحلبية وابوها خفاچى ..!؟..
هتفت دلال وهي تترك موقعها خلف باب المطبخ باتجاه الخالة تساعدها في وضع الأكواب على الصينية الواسعة:- يعنى ايه حلبية..!؟..
هتفت الخالة وسيلة شارحة:- حلبية يعني م الغچراو النَوّر.. أمها كانت زمان غازية ف الموالد و بتجرا البخت والكف وابوها شرحه .. ملوش شغلانة الا البلطچة وعايش على عرج الحريم ..
وضعت دلال كفها على فمها هاتفة في تعجب:- غجر ..!؟.. هو في غجر بجد !؟..
ابتسمت الخالة وسيلة:- ايوه يا بتي.. كانوا بياجوا ف الموالد و ينصبوا خيامهم برا النچع على ايّام النعماني الكبير ومكنوش يجدروا يدخلوا النعمانية ..دوول يسرجوا الكحل من العين .. وحريمهم أية ف الچمال يهبلوا اي راچل .. و منيهم كَتير ياما ضحكوا على عجول رچالة بشنبات .. اللي ساب مرته و ارضه وفضل يچرى ورا واحدة منيهم واللي عرفت تضحك على عجله وخلته يتچوزها وفي اللي خلف منيهم كمان..
حكايات ياما وفضايح لعوايل كَتير بسببهم ..و دوول .. و اشارت للخارج تقصد خفاجي وابنته لواحظ .. مبياچوش الا والمصايب ف رچلهم كيف ما انتِ واعية .. ربنا يستر والعيلتين ميجعوش ف بعض بسببهم و الدنيا تولع ..
همست دلال في ذعر:- للدرجة دي ..!؟.. طب بس اللى انتِ قولتيه ده يا خالة مش المفروض كل اللي بره عارفينه ..!؟.. ليه بقى الحمقة الكدابة و اللمة اللى ملهاش لازمة دي ..!؟..
ابتسمت الخالة وسيلة:- تلكيكة يا بتي .. العيلتين م الأساس بينهم حزازيات وعداوات وبيتلككوا لبعض بعد ما عفيف بيه خد وعد من كبراتهم بالصلح .. لكن اللي ف الجلب ف الجلب .. واهااا چت فرصة يرچعوا يمسكوا ف خناج بعض تاني ..
عادت دلال تتطلع من خلف باب المطبخ لتعلم ما آلت اليه الأمور بالبهو لتسمع احد الرجال يهتف غاضبا:- الراچل استچار بينا يا عفيف بيه عايزينا ايه.. نطلعوا عيال منجدرش نچيره هو وبته !؟..
هتف عفيف بحزم:- مجلناش كِده يا حچ مندور .. نهدى وكل حاچة ليها حل ..
هتف خفاجي مستجيرا بالحج مندور:- چيرني يا حچ اني وبتي خد حجي وحجها من واد أبوالدهب..
كاد عفيف يقطع لسان خفاجي الذي ينفخ في النار التي يحاول ان يخمدها في مهدها ..
ليهتف رأس عائلة ابوالدهب هاتفا في غضب هادر:- طب اياك حد منيكم يجرب من ولدي والله ما يكفيني فيه رچالة ابومندور كلهم ..
دخلت الخالة وسيلة عند تلك النقطة الحاسمة من الاحداث ووضعت صينية الشاي على الطاولة ليهتف عفيف بصوت هادر:- خبر ايه يا رچالة..!؟.. مكنش دِه اتفاجنا جبل سابج ..
اقتربت الخالة وسيلة منه هامسة بالقرب من أذنه في سرعة ثم عادت ادراجها للداخل ليستطرد عفيف أمرا:- اشربوا الشاي واستهدوا بالله .. دجيجة وراچع ..
واندفع للداخل حيث كانت تنتظره دلال وهي لا تدرك ان ما تفعله صحيح ام قد لا يلاقي استحسانه حتى ما اذا ظهر أخيرا على اعتاب المطبخ حتى همس في صوت قلق:- خير يا داكتورة ..الخالة وسيلة جالت لي انك عوزاني ضروري .. يا رب خير ..عشان أني سايب الرچالة بره وعايز ارچع لهم ..
هتفت دلال:- اكيد خير باذن الله .. وفركت كفيها إحراجا و توترا و أخيرا هتفت من جديد:- عفيف بيه.. ممكن تبعت لي البنت اللي بره دي ..!؟..
هتف عفيف متعجبا:- لواحظ ..!؟.. ليه يا داكتورة ..!؟..
هتفت من جديد:- اهو يا عفيف بيه.. يمكن اعرف ألاقي حل للمشكلة دي .. يوضع سره ف اضعف خلقه..
هتف عفيف:- العفو يا داكتورة .. حاضرهبعتها وانا متأكد انك هتعملي الصالح ..
اندفع للخارج وما هي الا لحظات حتى كانت لواحظ تدلف للمطبخ و هي تتبختر في خيلاء تختلف تماما عن تلك المسكنة التي كانت تدعيها بالخارج لذا صدقت دلال ما حكت عنه الخالة وسيلة عن اصل تلك الفتاة وسمعتها .. هتفت بها دلال أمرة:- اتفضلي من هنا ..
أدخلتها غرفة الكشف وهنا تنبهت الفتاة لدلال هاتفة:- مش انتِ الداكتورة اللي بيجولوا عنها ..!؟..
هتفت دلال بحزم:- ايوه انا .. ممكن تتفضلي على سرير الكشف..
هتفت الفتاة في نزق:- كشف ليه لا سمح الله ..!؟.. اني صاغ سليم ..
ابتسمت دلال:- طب لما انتِ صاغ سليم يبقى نطلع نقول للناس اللي بره دي انك بتتبلي على بن أبوالدهب ولا ايه..!؟
بهت لون لواحظ هاتفة وهي تحاول استمالة دلال ببكاء مصطنع الا ان دلال قررت مجاراتها متصنعة التعاطف معها هامسة:- انا عايزة مصلحتك .. لو كشفت عليكِ .. عفيف بيه هيجيب لك حقك لحد عندك ..
هتفت في حماس:- صح ..!؟..
اكدت دلال بايماءة من رأسها لتخضع لواحظ لها وتسمح لدلال بفحصها ..
عادت لواحظ الى مجلس الرجال تحتمى بأبيها في خجل مصطنع بينما اندفع عفيف للداخل يستطلع رأى دلال هاتفا في تعجل وهو يطالعها:- ها يا داكتورة .. عرفتي حاچة ..!؟..
هتفت دلال وهي تطأطئ رأسها خجلا:- البنت يا عفيف بيه مش عذراء ..
هتفت الخالة وسيلة وهي تضرب على صدرها في صدمة:- استر على ولايانا يا رب ..
وهتف عفيف مبهوتا:- معنى كِده ان كلام البت وابوها صح .. و ان واد أبوالدهب ..
لم يكمل عفيف لان دلال قاطعته هاتفة:- انا مقلتش كده يا عفيف بيه .. البنت اه مش عذراء .. بس مش بسبب اعتداء حديث يا دوب ذى ما سمعت كان من كام ساعة بس .. ده مستحيل ..
بهت عفيف هاتفا:- انتِ متاكدة يا داكتورة .. !؟..دي أعراض ناس ..
هتفت بنبرة مؤكدة:- لو انا مش متأكدة مكنتش هنطق بكلمة واحدة ف حقها يا عفيف بيه .. لان ذي ما حضرتك قلت .. دى أعراض ناس..
هز عفيف رأسه متفهما واندفع من المطبخ للخارج لتندفع خلفه الخالة وسيلة مطلة برأسها من خلف الباب هامسة:- تعالى نشوفوا عفيف بيه هيعمل ايه بعد اللي جولتيه .. دِه كلام تطير فيه رجاب ..
هتف عفيف في الرجال المتحفزة بالخارج بصرامة:- البيت بيتكم يا رچالة .. و الغدا عندينا النهاردة .. تعال يا خفاچى عايزك ف كلمتين..
تطلع خفاجي الى نصيره الحاج مندور يطلب العون .. الا ان الحاج مندور لم يحرك ساكنا و كيف يكون له اعتراض على طلب لعفيف النعماني .. لذا أعاد لواحظ لمكان الحريم وسار خلف عفيف صاعدا الدرج حتى مكتبه والذى أغلقه عفيف بأحكام جعل الدماء تتوقف في شرايين خفاجي خوفا ..
دار عفيف خلف المكتب هاتفا في خفاجي بصرامة جعلته يرتجف من اعلى رأسه حتى اخمص قدميه:- تاخد كام ونفضوها الحكاية دي..!؟..
هتف خفاجي متصنعا الذهول:- أبيع شرفي يا بيه ..!؟..
هتف عفيف بصوت مكتوم يحمل غضب عارما:- بجولك ايه ..!؟.. الشويتين دول تضحك بيهم على حد غيري .. بتك مهياش خضرا الشريفة وانت عارف كِده .. فبلاها الجصص دي .. والمصُلحة اللي كنت هتطلع بيها من عيلة مندور نخلصوها دلوجت وتنزل تجول انك خلاص مستغني عن چيرتهم ليك .. وان الموضوع بجي ف يدى .. هااا .. جلت ايه ..!؟..
استكان خفاجي مطأطئ الرأس هاتفا:- وانا ليا جول بعد جولك يا عفيف بيه ..!؟..
فتح عفيف خزانته واخرج منها رزمتين من النقود ألقاها على سطح المكتب بالقرب من خفاجي هاتفا:- كِده متهئ لى كفاية عليك .. ولا ليك كلام تاني ..!؟..
اندفع خفاجي يحمل المال في شره واضح اشعر عفيف بالاشمئزاز و الاخر يهتف في سعار واضح لرؤية المال:- كفاية يا عفيف بيه .. دِه كفاية جووى ..
اندفع عفيف من المكتب يعقبه ذاك المتاجر بعرضه لينفذ ما اتفقا عليه لتهدأ نار الفتنة التي لعن الله من كان على وشك إيقاظها من جديد ..
تململت على الفراش و هي تسمع همهمات متكررة دفعتها لتستيقظ دفعة واحدة لتنهض في ذعر متجهة الى ذاك الذى كان يهمهم بصوت عال .. اقتربت تهزه في خوف:- نديم .. نديم .. رد عليا ..
لم ينطق حرفا الا تلك المقاطع المبهمة التي لا تفسر.. اسم واحد ظل يردده في تكرار محموم .. اسم اخته دلال ..
وضعت كفها على جبينه في تردد لترفعه منتفضة لسخونته .. ماذا عليها ان تفعل الان ...!؟.. انها وحيدة هاهنا .. و قد منعها الخروج الا باذنه ومعه ..كما انها لا تعلم شيئا في هذه المنطقة ... ظلت تجئ وتروح في تردد داخل الغرفة لا تستطيع اتخاذ قرار مناسب .. و أخيرا حزمت امرها .. فهى لن تتركه في هذه الحالة دون ان تتصرف بأقل ما يمكنها .. مدت كفها لحافظته تتناول منها بعض النقود وتفتح الباب بالمفتاح وتخرج وتغلقه من جديد وهي تؤكد على قدرتها على التصرف فهو لو كان مكانها ما تركها تهزي بهذه الطريقة وجسدها يمور بالحمى دون ان يندفع محاولا انقاذها .. و هذا ما تحاول القيام به الان .. مهما كلفها الامر .. وحتى لو مخالفة لتعليماته المشددة ..
رحل الرجال جميعا من البيت الكبير وحُلت المشكلة من جذورها فما عاد خفاجي بقادر على استخدام تلك الخدعة القذرة مرة أخرى و الاتجار بشرف ابنته من جديد بعد ان أكد عليه عفيف انه سيصمت هذه المرة لان الله امر بالستر لكن لو تكرر الامر فسيفضخه وابنته على رؤوس الأشهاد مؤكدا انها ليست تلك الشريفة التي تراق لاجلها الدماء الغالية ..و ان الطبيبة اكدت ما يعلمه هو قبل الجميع عن ابنته .. لكن لزم البينة .. و ها قد جاءت واضحة صريحة واى محاولة قذرة من هذا النوع سيكون طرده وابنته من النعمانية هو الحل الأمثل ..
تنهد عفيف في راحة و هو يدخل للبيت الكبير ليراها تروح وتجرى مع الخالة وسيلة مساعدة إياها في نقل أكواب الشاي و الاطباق للمطبخ ليهتف بها:- يا داكتورة.!؟..
انتبهت لندائه لتتوقف في منتصف الطريق للمطبخ لتعاجلها الخالة وسيلة بتناول الاطباق من كفيها لتتجه لعفيف حيث يقف هاتفة:- نعم يا عفيف بيه !؟..
ابتسم في امتنان هاتفا:- انا مش عارف أتشكر لك ازاي على اللي حصل النهاردة !؟..
همست بخجل:- على ايه ..!.. انا معملتش حاجة ..
هتف مؤكدة:- كيف معملتيش..!.. انتِ حليتى المشكلة دي من چدورها ومعدتش البت دي ولا ابوها يجدروا ينطجوا تاني .. دِه ياما حصل مشاكل من تحت راسهم ..
ابتسمت في بساطة هاتفة:- انا مبسوطة اني قدرت اساعد باللي اقدر عليه ...
كانت ابتسامتها على وجهها الصبوح تطرح رياحين من البهجة في شوارع صدره وتزرع السعادة وتصبها صبا في دمه .. شرد في محياها دون ان يتنبه لحاله فاضطربت خلاياها وهي لا تدرى أين يمكنها توجيه ناظريها بعيد عن نظراته الشاردة فيها و الهائمة بها وأخيرا همست في خجل مندفعة عنه مبتعدة في اضطراب كاد ان يجعلها تتعرقل في خطواتها المتعجلة ليستفيق هو وهي تبتعد لا يصدق انه فقد السيطرة على نفسه في حضرة ابتسامتها بهذا الشكل ..
طلت من شرفة حجرتها ما ان سمعت لكل هذا الهرج والضجيج بالخارج .. كان موكب عروس تمر من امام البيت الكبير .. توقف الموكب و حاولت ان تستنتج اين يمكن ان تكون العروس فى وسط هذا الزحام .. لكنها لم تستطع .. ابتسمت فى فرحة متمنية للعروس حياة سعيدة ..
نزلت من حجرتها وهى لا تزل تستمع لصوت الطبل والمزمار بالخارج .. توجهت للخالة وسيلة بالمطبخ لتساعدها وتكسر ذاك الملل فاليوم لم تأتها اي حالة الى غرفة الكشف ..
ابتسمت الخالة وسيلة ما ان دلفت دلال للمطبخ و التى هتفت بسعادة:- فى فرح بره .. يا ترى ده فرح مين!؟.. تعرفي يا خالة ..!؟..
هتفت وسيلة مؤكدة:- دِه مش فرح .. دِه زفة لشوار العروسة ..
تعجبت دلال:- ازاي يعني !؟.. و يعنى ايه شوار !؟..
اكدت وسيلة مبتسمة:- يعنى چهازها يا بتي .. عجبال چهازك يا رب .. احنا هنا عوايدنا ناخد چاهز العروسة من بيت ابوها لبيت چوزها بزفة كَبيرة ..
هتفت دلال في دهشة:- طب و ليه!؟.. ما تروح حاجتها على بيت جوزها عادي .. هو لازم أمة لا اله الا الله تتفرج !؟.. ده انا افتكرته فرح و زفة العروسة من كتر الهيصة دي وقعدت ادور فين العروسة مش شيفاها ليه !؟..
قهقهت وسيلة هاتفة:- اهااا تجولى ايه ..عوايد فاضية .. جال يعني الناس تعرف ان اهل العروسة مكلفين چهازها و چايبين الدنيا لبتهم .. فشخرة كدابة .. بس عوايد.. ربنا يهدي ..
تساءلت دلال:- بس مقلتليش .. ده فرح مين بقى !؟..
هتفت وسيلة:- فرح نادية بت محروس النميري على واد خالها اللى لسه چاى م الخليچ ..
صرخت دلال فى صدمة:- نادية!؟.. هى بنت صغيرة عندها بتاع ١٥ سنة كده !؟..
اكدت وسيلة فى اضطراب:- اه .. هى يا بتي .. انتِ تعرفيها !؟..
اندفعت دلال من امام وسيلة فى اتجاه المندرة مرة اخرى هاتفة فى تحدى:- انا مش ممكن أخلى الفرح ده يتم .. البنت لسه صغيرة .. حرام عليهم ..
كيف لأبوها ان يزوجها ولم يحصل على شهادة تسنين لها !؟.. لابد و انهم حصلوا على واحدة .. و هى لن تدع ذاك الطبيب الذى ارتكب هذه الجريمة فى حق تلك الطفلة .. لن تدعه ابدا ..
اندفعت فى اتجاه بيت الطفلة و ما ان وصلته بعد عدة اسئلة من هنا و هناك حتى تسلك الطريق الصحيح.. وصلت لبيت طيني منخفض بابه خشبى متهالك وسقفه من جريد .. توقفت لحظات تتطلع للبيت الطيني من الخارج وتعجبت .. كيف استطاع ابونادية شراء ذاك الجهاز الباهظ الثمن لابنته وهو يعيش في بيت على هذه الحال التى تراها !؟..
طرقت الباب الخشبي المتأكل ليظهر ابونادية على عتباته .. تطلع اليها في صدمة اولا ثم تحولت هذه النظرات الى تساؤل مخلوط بضيق حاول مداراته ..
هتف بها:- اهلًا يا داكتورة .. اى خدمة !؟..
هتفت به متسائلة فى غضب مكتوم حاولت السيطرة عليه قدر استطاعتها:- انت جبت شهادة تسنين بنتك منين !؟.. مين اللي أداك الشهادة !؟..
نظر اليها الرجل شذرا وهتف اخيرا:- مچبتش شهادات .. و مش محتاچها .. اني هعرف اچوز بتي بمعرفتي .. ولا الحوچة لشهادتكم..
هتفت بغيظ:- يعني ايه !؟.. انت عمرك ما هتعرف تجوزها من غير شهادة تأكد سنها الحقيقي بمعرفة دكتور .. و مفيش مأذون هيكتب كتابها الا بالشهادة دي ..
لم يرد الرجل و تركها تعانى الحيرة من جوابه الغامض و اخيرا هتفت به متوقعة انه يتحايل على الامر محاولا اختلاق الأكاذيب:- ع العموم انا عرفت مين الدكتور اللى ممكن يكون كتب شهادة التسنين دى .. و انا مش هسكت .. و مش هسيبك تأذي بنتك عشان جوازة من عريس ضعف عمرها لمجرد ان معاه فلوس ..
و اندفعت مبتعدة و هى فى سبيلها لذاك الذى اعتقدت انه مشاركا بالنصيب الأكبر فى تلك الكارثة التى سيدفع ثمنها طفلة لا حول لها و لا قوة ..
دفعت باب الحجرة و هى تحمل تلك الأغراض التى ابتاعتها .. دلفت و اغلقت الباب خلفها بالمفتاح .. و تطلعت اليه .. كان لايزل يهزي كما تركته والحمى لاتزل ترتع بجسده .. تركت الاكياس التى كانت تحملها جانبا وفتحت احدهما تخرج منه دواء قد ابتاعته ليعالج حالته من احدى الصيدليات القريبة ..
اقتربت منه تحاول إيقاظه لكن لا فائدة ترجى .. كان لايزل يهزي باسم اخته .. دمعت عيناها اشفاقا على حاله .. نصحها الصيدلي بخفض درجة حرارته .. ومن ثم اعطاءه الدواء .. لكن كيف يمكنها ذلك .. لا يوجد بالغرفة أطباقاً ولا مناشف ولا شئ يمكن ان تعتمد عليه .. لم يكن امامها الا محاولة وضعه تحت ماء منساب من صنبور المغطس .. تحاملت على نفسها وجذبت كفه اليها حتى ينهض فى تثاقل معها .. كان نصف واعً .. يفتح جفونه فى تثاقل متطلعا اليها ثم يعاود إغلاقها من جديد فى وهن ..
هتفت وهى تتحامل على نفسها حتى يسير معها بخطى متثاقلة:- تعال على نفسك شوية يا نديم .. خطوتين كمان معلش .. خلاص هانت ..
كانت تشجعه وهى الاولى بالتشجيع فقد كان حمل جسده كله تقريبا ملقا على كتفيها .. تنفست الصعداء ما وضعت جسده على حافة المغطس… كان يلقى رأسه بصدرها غير قادر على رفعه و كأن رقبته أضحت هلاما لا يمكنها حمل ذاك الرأس بثقله كما اعتادت..
اضطربت و هى بهذا الوضع .. لكنها تحاملت على نفسها حتى أجلسته داخل المغطس ..
فتحت الماء الفاتر وبدأت في توجيهه لجسده اولا ثم رأسه الذي يغلى .. انتفض جسده كله ما ان لامسه الماء وفتح عينيه في صدمة.. كانت نظرة خاطفة و استفاقة مؤقتة .. بدأ بعدها يهتف بحروف متقطعة:- انااا .. برررداان ..
هتفت ناهد و هى تجلس على حافة المغطس توزع الماء على جسده:- معلش .. حجك عليا .. بس حرارتك تنزل شوية .. استحمل عشان خاطري ..
كان يئن في وجع أدمى قلبها وهو يسند رأسه على حافة المغطس الباردة خلف رقبته .. بدأت حرارته فى الانخفاض تدريجيا و كان عليها اعادة الكرة من جديد وإعادته للحجرة ..
همست به:- نديم ..ايدك معايا ارچعك الاوضة ترتاح ..
هز رأسه بالإيجاب فى تثاقل و قد بدأ فى استعادة وعيه قليلا .. مدت كفها محاولة جذبه خارج المغطس الا ان الارض الزلقة حوله كانت كفيلة لتجعل ثباتها يختل ميزانه و تسقط بدورها داخل المغطس فوق جسده مباشرة .. لتشهق فى صدمة و قد ابتلت ملابسها كليا .. و الأدهى من ذلك .. هو ذاك الوضع الذى اصبح فيه كلاهما ..
رفع رأسه اليها هاتفا فى سخرية و ابتسامة واهنة تكلل محياه:- جبتك يا عبدالمعين تعيني .. لقيتك يا عبدالمعين تتعان ..
شعرت بالحرج الشديد وقاومت حتى دفعت بنفسها خارج المغطس تحاول الوقوف فى حذّر متجنبة الانزلاق من جديد هاتفة:- اهو عبدالمعين جام بالسلامة .. هات ايدك اساعدك تخرچ انت كمان..
مد كفه اليها محاولا الصمود حتى لا يثقل على كاهلها وما ان خرج من المغطس حتى استند رغما عنه على كتفها فقد استنفذ جزء كبير من طاقته للخروج ..
خطوات وئيدة حذرة اتخذاها حتى خرجا اخيرا من الحمام .. وقفا على أعتابه تتساقط قطرات المياه من ملابسهما ..لم يكن من المنطقي البقاء بهذا الشكل .. على كل منهما استبدال ملابسه والا سيكون المرض مصيرها هى الاخرى و سيشتد عليه المرض بدوره ..
اندفعت ناهد باتجاه المنشفة الوحيدة بالغرفة .. تناولتها و بدأت فى تجفيف رأسه .. ما ان أبعدت المنشفة عن محياه حتى نظر اليها مبتسما في امتنان ابتسامة حركت شئ ما بداخلها أثار ارتباكها و خاصة وهو بهذا الشكل المشعث ..
هتفت فى عجالة تحاول السيطرة على اضطرابها:- لازما تغير هدومك دي .. عشان اديك الدوا و تدفى كويس ..
هز رأسه موافقا وبدأ فى خلع ملابسه .. قطعة قطعة وهو لايزل على اعتاب الحمام و يلق بها اسفل أقدامه ..
هتفت صارخة ما ان استدارت بعد ان اخرجت له ملابس نظيفة من قلب حقيبته التى كانت موضوعة بأحد اركان الغرفة:- انت بتعمل ايه !؟..
هتف متعجبا:- بغير هدومي ذي ما قلتي !؟..
عادت اليه القهقري بظهرها تمد له كفها بملابسه كلها دفعة واحدة ..
هتف متعجبا:- هاخدها ازاى كلها مرة واحدة !؟.. استني ناولينى حاجة .. حاجة .. ربنا يعلم انا واقف صالب طولي بالعافية ..
اشفقت عليه .. فمنذ ساعة تقريبا كان فى عالم اخر .. اومأت برأسها توافقه وهمست ما ان ادركت انه لا ير اشارة رأسها:- حاااضر .. اتفضل ..
و بدأت فى تسلميه ملابسه قطعة تلو الاخرى .. كانت تكاد تموت خجلا وحياء وهى تمسك بقطعه الخاصة بين كفيها بهذا الشكل و شكرت الله عندما انتهى اخيرا وبدأ فى التوجه لأريكته الضيقة بخطى متثاقلة ..
وقفت بطريقه هاتفة وهى تضع كفها على عضده تغير مسار سيره لتوجهه نحو الفراش هاتفة:- دورك تنام النهاردة ع السرير .. انت تعبان و محتاج ترتاح ..
لم يكن لديه من الطاقة القدر الكاف الذى يمكنه من جدالها .. لذا سار معها حيث الفراش ومدد جسده عليه في إعياء واضح .. جذبت الغطاء و دثرته جيدا .. و اندفعت تناوله حبة الدواء التى وصفها الطبيب .. تناولها فى صمت .. واغمض جفنيه..
همس مناديا:- ناهد ..
استدارت اليه ملبية و قد توقفت و هى فى طريقها للحمام هاتفة:- نعم..
همس بصوت نبراته تشي بمدي تعبه:- شكرًا ..
لم تجبه بكلمة واحدة بل حملت ملابسها وولجت للحمام لتنال حمام دافئ يخرج ذاك البرد الذى بدأ ينخر بعظامها ..
اغلقت الباب خلفها وقد تناهى لمسامعها صوت غطيطه المرتفع قليلا عن المعتاد نظرا لمرضه .. تنهدت فى راحة .. و ابتسمت و هى تجيب نفسها .. العفو ..
↚
وصلت دلال للوحدة الصحية و سألت اين طبيبها انتظرت قليلا وجالت بناظريها بأنحاء الوحدة حتى وقفت امام غرفته .. طرقت بابها وسمعت سماح من بالداخل لتدلف وغضبها المستعر بداخلها يكاد يحرق الأخضر واليابس هاتفة ما ان طالعها محيا الطبيب الذي كان يجلس خلف مكتبه مستغرقا فى كتابة امر ما و أحد المرضى ممدد على السرير القابع خلف الساتر المخصص للكشف ..
انتفض الطبيب فى صدمة لمرأها .. فدفع بالورقة المسجل عليها الدواء للمريض الذى ظهر اخيرا من خلف الستار و رحل في هدوء ليهتف الطبيب فى غضب:- انتِ مين !؟.. وازاي تقتحمي غرفة الكشف بالشكل ده !؟..
هتفت تحاول السيطرة على غضبها:- انا خبطت ع الباب على فكرة وحضرتك قلت اتفضل ..
هتف الطبيب طارق طبيب الوحدة الصحية في حنق:- اتفضل دي مكنتش لحضرتك .. كانت للمريض.. حضرتك مين بقى !؟..
هتفت تخبره:- انا الدكتورة دلال المصري .. الدكتورة اللي ..
هتف متذكرًا مقاطعا إياها:- اااه .. اهلًا يا دكتورة .. طبعا عرفت حضرتك .. انت دكتورة النسا و الولادة اللي جت بمعرفة عفيف بيه .. مش كده !؟..
اكدت بايماءة من رأسها ليهتف مستطردا:- خير يا دكتورة !؟.. شايفك مضايقة ..
اكدت هاتفة بحنق:- طبعا يا دكتور .. اكيد مضايقة ..لما اشوف اللي بيحصل لبنات لسه مطلعتش للدنيا يبقى لازم أكون مضايقة .. و مضايقة اكتر ان ازاي حضرتك سمحت بده يحصل ف بنت صغيرة!؟.. مصعبتش عليك .. يعنى اذا كان ابوها مش قلبه عليها .. كنت نصحته أنت يمكن يسمعك..
هتف الدكتور طارق متعجبا:- حضرتك بتتكلمي عن ايه !؟.. انا مش فاهم حاجة بجد !؟.. بنت مين!؟..
أكدت دلال بغيظ وهى تعتقد انه يحاول ادعاء الجهل بالموضوع:- نادية .. اللي فرحها بعد كام يوم و هى مبلغتش حتى ١٥ سنة .. مين ادى ابوها شهادة التسنين !؟..مين اللي ممكن يعمل جريمة ذي دي!؟.. اكيد حضرتك بحكم وجودك هنا من فترة تعرف مين اللي ممكن يعمل كده ف مكتب الصحة .. ليه متبلغش عنه !؟..
هتف طارق فى هدوء:- بصي يا دكتورة .. انا مقدر طبعا تعاطفك مع البنت ورغبتك في منع جريمة ذي دي .. و مش لوحدك اللي نفسك ف كده .. و الله انا ياما حاولت قبل ما حضرتك تشرفينا .. و حضرتك ممكن تسألى عفيف بيه ازاي كنّا بنحارب الموضوع ده ..
هتفت متعجبة:- عفيف بيه !؟..
أكد طارق ممعنا في هدوءه وهو يعدل منظاره الطبي:- ايوه يا دكتورة .. الموضوع ده كان شاغل عفيف بيه جدااا .. و كان بيحاربه بضراوة .. كونه باحث اجتماعي ده..
قاطعته دلال متسائلة فى تعجب:- مين ده اللي باحث اجتماعي !؟..
اكد طارق ناظرا اليها بدهشة:- عفيف بيه طبعا .. ده حامل لدرجة الماچستير في علم الاجتماع وكان مهتم جدا بالموضوع ده .. لدرجة ان في دكاترة كتير فمكتب الصحة تم نقلهم بسبب شكواه عشان تسهيلهم موضوع شهادات التسنين لبنات كتير تحت السن القانوني ..
همست في تيه:- عفيف بيه !؟..
اكد بعد ان وصله همسها:- ايوه .. ده اتفق معايا اني لو بلغني ان في بنت أتعمل لها شهادة تسنين وهي اقل م السن القانوني ابلغه وهو هيتصرف .. بس للأسف .. الأهالي تحايلوا على موضوع الشهادة ده بطريقة تانية فيها ظلم اكبر لبناتهم..
تذكرت كلام ابو نادية فهتفت بفضول:- طريقة ايه !؟..
هتف طارق بضيق:- الجواز العرفي ..
هتفت صارخة:- ايه !؟.. جواز عرفي .. ازاي !؟.. دي جريمة اكبر ..
هز رأسه موافقا:- طبعا عشان ميحتاجوش لموضوع الشهادة بقوا بيجوزا بناتهم عرفي.. مجرد ورقة مفيهاش اى ضمان للحقوق و خاصة ان الجواز بيبقى بين القرايب فمحدش مخون وحتى لو خدوا وصولات أمانة ع العريس ممكن بعد سنة ولا اتنين قبل ما البنت تبلغ السن القانوني تحصل مشاكل اوخلافات يقوم مقطع الورقة ورامي لهم الفلوس اللي ف وصل الامانة ومع السلامة بعد ما تكون خلفت منه كمان وده كله و الأهل ف اعتقادهم ان لما البنت تبلغ السن القانوني جوزها هيكتب عليها رسمى على يد مأذون وهى يمكن معاها عيلين واكتر منه و في اللي جوزها ده بيتوفى ومبيقدروش يثبتوا لها حق بالورقة العرفي طبعا..
هتفت بصدمة:- انا مش مصدقة اللي بيحصل ده .. عشان ايه كل ده!؟..
هتف طارق في ضيق:- عشان الفلوس طبعا .. معظم اللي بيعمل كده على قد حالهم ومخلفين عيال كتيررر .. طبعا عشان يخف الحمل يقوموا مجوزين البنات واهو يطلعوا بقرشين من ورا العريس اللي طبعا بيبقى من القرايب اللي ربنا كرمهم بسفرية بره فرجع محمل من وراها اللي يزغلل بيه عيون الكل عشان يخطب البنت اللي تعجبه.. وطبعا بيبقى عريس ميتفوتش لبنتهم .. لا بيفكروا بقى ف فرق سن ولا ضرر ع البنت و لا اى كلام من اللى احنا بنقوله ..
كانت دلال تنظر اليه في صدمة غير مصدقة ما يقال .. و كل تلك الحقائق التى يسردها الدكتور طارق تفعل بقلبها وعقلها الافاعيل مما جعلها تهتف في عزم:- بس احنا لا يمكن نسيب الامور كده .. لازم يبقى لينا واقفة ..
اكد طارق بنبرة متخاذلة:- يعني هانعمل ايه يا دكتورة !؟.. حاولنا كتير .. سواء كنت انا اوعفيف بيه .. لكن مفيش فايدة .. البلاد دي حكم العادات والتقاليد فيها ساري على رقاب الكل ..و للأسف احيانا بيسري الحكم ده حتى ولو بيخالف الشرع ..
ساد الصمت للحظات .. كان صمت قاتل يذبح الكلمات بسكين ثالم .. فلم ينبس احدهما بحرف .. و اخيرا هتف طارق محاولا الخروج من دائرة الصمت الموجع تلك:- بس انا اتشرفت يا دكتورة بمعرفة حضرتك .. و يا رب يكون وجودك هنا ف النجع سبب فى تغيير مفاهيم كتيرة ..
ابتسمت في شجن هاتفة:- بعد مجهودات حضرتك وعفيف بيه اللي اتعملت دي كلها انا هقدر اعمل ايه !؟.. الموضوع فعلا مش سهل ..
هتف طارق بلهجة حماسية:- فعلا الموضوع مش سهل بس يا دكتورة انتِ اقدر على تحقيقه بسبب قربك م الستات وعلى ما اسمع انهم بيحبوكِ جدا وانتِ قدرتي تقربي منهم ف الفترة البسيطة دي بشكل يخلي تأثيرك عليهم كبير ..
نهضت مبتسمة فى امتنان هاتفة:- انا متشكرة يا دكتور طارق ع الثقة دي ف قدراتى اللى انا نفسي مبقتش واثقة فيها .. واسفة ع الطريقة اللي اقتحمت بيها اوضة الكشف ..
ابتسم طارق و هو يعدل من منظاره الطبى بحرج هاتفا:- ولا يهمك .. انا مقدر شعورك يا دكتورة .. و انا تحت امرك فأي وقت وفأي حاجة .
مد كفه مودعا لتمد كفها بالمقابل فى تحية رسمية رافقتها ابتسامة ممتنة وبعدها غادرت الوحدة الصحية و هو يتبعها حتى الباب الخارجي .. لوح لها مودعا من جديد و طفق عائدا لحجرة كشفه و سارت هى متوجهة للبيت الكبير غير مدركة ان نظرات فحمية متقدة كانت تتبعها بدورها ونيران من نوع اخرلم يخبرها صاحبها من قبل كانت تستعر بين جنبات روحه وتضطرم بفؤاده ..
تقلبت على تلك الأريكة الضيقة فى حذّر مخافة السقوط من أعلاها مما أورثها قلقا اطار النوم من عينيها متحدا مع ذاك البرد القارص الذي كان ينخر عظامها وهى لا تجد غطاء ما تتدثر به اتقاء له .. فلم يكن هناك الا ذاك الغطاء الصوفي الذي يغطي نديم متلحفا به ..
كيف لم تكتشف البارحة ان نديم قد نام دون غطاء تاركا لها ذاك الغطاء الوحيد بالغرفة !؟.. تذكرت انه كان يتكوم على نفسه فى محاولة لجلب الدفء وكان يستعين بسترته الثقيلة التي لم يخلعها عنه في محاولة للحصول على دفئها والتي خلعتها هى عنه وهى تساعده في الوصول للحمام لخفض حرارته..
نهضت باحثة بعينيها في ظلام الغرفة عن تلك السترة واخيرا وجدتها ملقاة على احد المقاعد .. سارت في حذّر حتى لا توقظه و تناولت السترة مترددة للحظات في ارتدائها .. لكن ذاك البرد كان كفيلا بدفعها لترتديها على عجالة في محاولة للحصول على بعض من دفء يسري بأوصالها لعلها تنام و لو لبضع دقائق فهى لا تعلم ما يخبئه لهما الغد .. فاليوم هما هنا و غدا قد يكونا بمكان اخر و ربما بمحافظة اخرى ..
ما ان تمددت على الأريكة تجذب أطراف السترة الجلدية حول جسدها الا واستشعرت دفء ينساب اليها كأنه السحر .. لم يكن دفءً معتاد بل كان دفء من نوع اخر محمل برائحة عطره التى كانت تختلط بأنفاسها متسربة من بين طيات السترة وكأنما هى اقرب اليه من انفاسه .. انتفضت ما ان استوعبت الي اي منحن اتجهت افكارها .. لم تكن يوما من ذاك النوع العاطفي من الفتيات واللاتي كان يحزنهن الحب ويفرحهن .. وتبكي أعينهن للقاء الاحبة بالأفلام .. و يعتصرهن الحزن على الفراق .. كانت تعد ذاك نوع من السطحية .. و لم تكن تدرك انها ستقابل ذاك الشعور وجها لوجه و تغرق في تلك السطحية حتى اذنيها ..
قررت بعزم خلع السترة حتى تدرأ عنها شبهة الحب او حتى الشروع فيه .. الا ان صوتا يهمهم جعلها تنتفض في اتجاهه ناسية خلعها.. كان نديم قد بدأ يهزى من جديد .. كانت حرارة جبينه المشتعل تؤكد ذلك على باطن كفها الذى وضعته هناك تستطلع الامر .. اندفعت للدواء من جديد .. و همست بالقرب من أذنيه محاولة إعادته للوعى ولو للحظة:- نديم .. نديم .. جوم خد الدوا ..
لايزل يهمهم وهى بدأت فى الشعور بالاختناق .. اختنقت بعبراتها المحزنة بمآقيها وهى غير قادرة على ذرفها عاجزة عن ذلك بشكل لاإرادي .. لكن ما ان تناهي لمسامعها هزيانه باسمها بهذا الشكل حتى انسابت تلك الدموع مسفوحة على صفحتىّ خديها ولم تعد بقادرة على ايقافها .. فقد ادركت اللحظة .. ان ذاك الرجل حرك شيئا ما كان كامنا بأعماق روحها والآن استيقظ كمارد لا سلطان لها عليه .. اعترفت امام جسده المحموم المسجي قبالتها انها ما عادت قادرة على تقييم مشاعرها وتشعر بحالة عجيبة من التخبط والضبابية فى احاسيسها تجاه ذاك الرجل وهى التى كانت تنكر احوال القلوب وتسخر من أصحابها ..
مسحت دمعاتها واقتربت منه ترفع رأسه قليلا ووضعت حبة الدواء بفمه هامسة له وهى تقرب من شفتيه كوب به القليل من الماء:- اشرب يا نديم الدوا .. اشرب عشان خاطري ..
فتح عينيه فى تثاقل وارتشف القليل مبتلعا دوائه لتعيد رأسه موضعها على الوسادة وهى تتطلع الي قسمات وجهه الرجولية التى غطاها اللون الأحمر من جراء الحمى .. و بلا وعى منها مدت كفها ومسحت بعض من قطرات العرق المنتشرة على جبينه الواسع.. و سالت دموعها من جديد…
اما كان كافيا رؤيته لها خارج الوحدة الصحية والدكتور طارق يلوح لها مودعا فى أريحية ومحبة أفقدته تعقله وصبت بدمه جمر حارق من صهريج غيرة لم يألفها من قبل مما أورثه حنقا مضاعفا حتى يراها الان وهو يهم بالذهاب اليها قد أوقفها الضابط هاتفا وهو يوقف عربته الميري مترجلا منها:- اهلًا يا دكتورة ..اخبارك ..
توقفت ملتفتة اليه وابتسمت في رقة هاتفة بدورها:- ازيك يا حضرة الظابط اخبار حضرتك ايه !؟.. الأمن مستتب !؟..
قهقه لمزحتها هاتفا:- من ناحية مستتب فهو مستتب بالقوي .. و ربنا يخلي لنا عفيف بيه ..
ما ان انهى كلمته حتى ظهر عفيف مقتربا ليهمس شريف لها ساخرا:- اهو جه ع السيرة ..
حاولت ان تسيطر على اندفاعها و لا تلتفت في الاتجاه القادم منه حتى وصل اليهما هاتفا بلهجة جافة لا تعرف لها سببا:- سلام عليكم ..
هتف كلاهما:- وعليكم السلام ..
هتف عفيف موجها حديثه لشريف في رسمية:- ايه الاخبار يا حضرة الظابط !؟.. كله تمام !؟.. ولا في حاچة نخدموك بيها !؟..
هتف شريف مؤكدا:- لا كله تمام يا عفيف بيه والبركة ف حضرتك ..
هتف هازا رأسه فى تفهم:- طب تمام ..
و ادار نظراته لدلال وهم بسؤالها الرحيل الا ان شريف هتف بدوره و بأريحية كان يمكن ان يفقد قبالتها عمره:- ما تتفضلي أوصلك يا دكتورة .. طبعا البوكس مش قد المقام ... و ابتسم مستطردا:- بس الجودة بالموجودة ..
ما ان همت دلال بالرد على شريف حتى هتف عفيف مجيبا فى لهجة نارية:- ماهو عشان مش جد المجام يا شريف بيه مينفعش تعزم م الاساس ..
واستطرد والشرر يتطاير من حدقتيه:- طريجكم مش واحد يا حضرة الظابط ...
واستدار متطلعا لدلال هاتفا بلهجة حاول ضبط نبراتها لتخرج اكثر هدوءً:- اتفضلي يا داكتورة .. اتاخرنا ع الخالة وسيلة زمنها حضرت الغدا ..
شعرت دلال بحرج كبير وهى تنظر الى شريف و همت بالاعتذار الا انها لمحت ابتسامة عجيبة مرسومة على محياه لم تعرف لها مدلولا .. هل هى ابتسامة استهزاء!؟.. ام سخرية !؟.. ام ماذا بالضبط!؟.. مما جعلها تبتلع لسانها و هى تسير خلف عفيف فى خطوات واسعة تحاول مجاراة خطواته ..
صعدت الى الكارتة التي صعدها هو قبلها واتخذ موضعه منتظرا استقرارها بموضعها .. مرا على شريف الذي كان لايزل متسمرا مكانه لم يبرحه ولم يعره عفيف حتى إلتفاتة بل على غير العادة اطاح بسوطه الذي ما رأته استعمله قط ليهبط به على ظهر الفرس مصدرا صوتا مدويا جعل الفرس يصهل مندفعا فى طريقه كأن الريح تسابقه..
وصلا للبيت الكبير في لمح البصر فترجلت من العربة تدلف للداخل فى سبيلها لتساعد الخالة وسيلة فى إعداد الطعام الا ان صوتا كالرعد هتف يوقفها:- يا داكتورة ..!؟..
توقفت متسمرة بموضعها واخيرا ألتفتت تواجهه مستفسرة:- خير يا عفيف بيه !؟..
هتف غير قادر على كبح جماح ذاك الشعور المتنامى بداخله منذ وعى لها وهى امام الوحدة الصحية بصحبة الطبيب ومن بعدها مع الضابط:- اعذرينى ف اللي هجوله.. بس دي الأصول .. احنا هنا ف نچع ف جلب الصعيد .. يعنى اللي تعرفوه ف مصر مينفعش هنا ..
هتفت و قد ضافت عيناها متسائلة بتعجب:- وايه اللي نعرفه ف مصر مينفعش هنا يا عفيف بيه !؟.. اظن الأصول والصح مبيتجزأش سواء هنا اوهناك ..
هتف محتدا:- حيث كِده .. يبجى اسمحيلى اجول لك ان وجفتك مع كل من هب ودب وضحكك و هزارك يا داكتورة مينفعوش عندينا.. و اذا كان دِه العادى بتاعك .. ف يا ريت ..
هتفت محتدة مقاطعة اياه:- عفيف بيه .. انا مسمحش بالتشكيك ف ..
هتف صارخا مقاطعا إياها بدوره و بصوت هز جنبات البيت الكبير وتراقصت لاجله عمدانه:- بلا تسمحي بلا متسمحيش .. جاعدة تسلمي على دِه وتضحكي مع دِه و جال دِه واجف يعمل لك باي باي ..ايه المسخرة دي !
همست مبهوتة فى صدمة:- مسخرة ..!؟..
ساد الصمت .. صمت احد من نصل سكين قاطع .. تطلع اليها و صدره يعلو ويهبط انفعالا وبدت على محياه بودار ندم لما تفوه به و خاصة بعد ان لمح قسمات وجهها الوضاء وقد تحول فى لحظة لشتاء غائم تهدد سحبه السمراء بهطول مطر شَديد الغزارة ..
هم بالتفوه بأي كلمة من شأنها تعديل الحال الا انها لم تمهله كالعادة ..فقد اندفعت من امامه كسهم فر من قوسه تاركة اياه مسربل بندم يكاد يورده موارد التهلكة ..
رفرفت اهدابه فى تيه محاولا تذكر اين يكون وهو يتطلع بنظراته فيما حوله حتى ادرك اخيرا انه بغرفة الفندق .. استدار في موضعه قليلا يشعر بتيبس فى فقرات ظهره من كثرة رقاده التي لا يعرف كم طالت ليصطدم بمحياها المجاور له .. تسمر وكاد يوقف رئتيه عن التنفس وهو يراها مكومة بهذا الشكل متلحفة بسترته الجلدية اتقاءً للبرد اما ما تبقى من جسدها فمدفوع تحت الغطاء المشترك بينهما ..
حاول ان يتنحنح مصدرا صوتا ما قد يوقظها مبتعدة الا انه لم يستطع الا التطلع اليها فى فضول .. نظراته كانت تنهب ملامحها الجميلة بشغف وتلهف غير معتاد ..
شعرها المحجوب عنه تحت حجابها والذى يذكر انه رأه مرة واحدة وحيدة عندما استيقظت مذعورة فى ليلتهما الاولى معا بعد هروبهما .. من بعدها اعتاد هو كوابيسها و اعتادتها هى بدورها فما عاد ينتفض باتجاه حجرتها لنجدتها كما حدث في المرة الاولى .. و هى ايضا كانت تغلق بابها بأحكام متحملة ذاك الوجع الذى يعتريها من جراء ازعاج أحلامها وحيدة غير راضية عن تدخله .. و قد استوعب هو ذلك و ابتعد فى احترام لرغبتها.
امعن التطلع في طلتها البهية من جديد ليدرك ان بشرتها حنطية صافية مشربة بحمرة خفيفة جراء ذاك الدفء الذى يشملها اللحظة مما منحها مظهرا اشبه بالأطفال .. انفها شامخ و دقيق .. شفتاها ..
ازدرد ريقه عند هذه المرحلة من رحلته عبر محياها الناعس وأزاح ناظريه مبتعدا عن التطلع اليها هامسا لنفسه:- ماذا دهاك !؟.. انها
قاطعه صوتا داخليا:- انها ماذا !؟.. انها زوجتك ... انت لا ترتكب إثماً .. انها حلالك .. وهى ..
قاطع استرسال خواطره تنهدات من قبلها جعلته ينتفض داخليا وقد دعا الله سرا ان تستيقظ مبتعدة عنه .. و كأن ابواب السماء كانت منفرجة على مصرعيها لترفرف هى بأهدابها وما ان وعت موضعها حتى انتفضت و ما ان همت بالنهوض حتى تذكرت ان حرارته كانت مستعرة منذ ساعات فمدت كف مترددة الى جبينه لتدرك ان الامر على ما يرام .. لكن حاله هو لم يكن على ما يرام ابدا .. لمستها الرقيقة تلك لجبينه فعلت به فعل الأعاصير .
لا يعرف كيف استطاع السيطرة على تلك الرجفة التي اعترته جراءها لكنه تحكم فيها باعجوبة حتى خرجت هى من الفراش فى هدوء حتى لا توقظه فيدرك اين باتت ليلتها واتجهت لتلك الأريكة الضيقة واحتلتها في هدوء منتظرة استيقاظ من اعتقدت انه لايزل غارق فى نومه وهى لا تعلم انه استيقظ من زمن .. استيقظ ليواجه مشاعره المتنامية تجاهها وجها لوجه .. ليدرك ان هنا حيث موضع قلبه شئ ما قد تغير .. و لا يظن انه سيعود كالسابق ابدا..
قرر التخلص من تلك الخواطر الخطرة فسعل قليلا لتنتفض هى من اريكتها فى اتجاهه هاتفة:- انت بخير يا باشمهندس !؟.. مش بجيت احسن ..!؟
هتف مؤكدا و هو يحاول الا تسقط نظراته على محياها الذى سرق منه لمحات عذبة ستظل محفورة بذاكرته دوما و ستورثه أرقاً ليال طوال:- الحمد لله ..
و اعتدل فى موضعه مستندا على وسادة خلف ظهره حاولت هى ان تضعها بشكل اكثر اعتدالا الا انه كان الأسرع مؤكدا:- متتعبيش نفسك .. انا مرتاح عليها كده ..
ابتسمت في تفهم وابتعدت مما جعله يزفر فى راحة و قد اضحى ابتعادها اكثر مطلبا شَديد الضرورة فى تلك اللحظة .
هتف معاتبا:- خرجتِ لوحدك برضو !؟..
اكدت و هى تشعر بالحرج:- معلش .. اصلك يعنى مين كان هيچيب لك الدوا !؟.. حالتك كانت صعبة .. بس الحمد لله عدت على خير و انت اهاا بخير برضك ..
ابتسم لها و غلبت طبيعته المتسامحة هاتفا:- سماح المرة دي .. بس بعد كده متخرجيش لوحدك تانى ولو بموت ..
هتفت فى عجالة:- بعد الشر عنك..
صمت للحظات متطلعا اليها و شملها هى الحرج وكسا وجنتيها خجل جعل وجنتيها الشهيتان اكثر حمرة من زهرة جورية ..
هتف مازحا يغير الموضوع وهو يزيح ناظريه عن محياها:- طب فين الفطار بقى !؟.. الواحد حاسس انه مكلش من قرن ..
قهقهت هاتفة:- كان نفسى اچيب لك خروف .. بس ما باليد حيلة .. أخرنا شوية جبنة وطماطميتين ..
ابتسم بدوره:- رضاااا ..
اندفعت تحضر له الافطار وقد عزم داخليا على الرحيل من ذاك الفندق فوجودهما معا تحت سقف حجرة واحدة ينذر بالمزيد من التورط الخطر فى عشق تلك القابعة هناك تحضر له إفطاره البسيط و الذي يعلم انه سيكون مقدما من كفها كأنه الشهد المصفى ..
اربع ليال خلت لا لمح لها طرفا و لا رهفت أذنيه همسها.. اربع ليال عجاف طوال كأيام حزن لا نهاية لها.. اربع ليال انتظر ان يراها و لو صدفة او حتى يخيل اليه رؤياها فذاك الندم على ما تفوه به يتأكله كما تأكل النيران في اشتهاء أعواد حطب جافة ..
فقد الأمل فى مقدرته على رؤيتها فأصبح يقضي معظم نهاره خارج البيت الكبير وليلا يتعذب على فراش من جمر شوق الى ملاقاتها.. كم كبت رغبات كانت تهم بدفعه ليطرق بابها ليلا معتذرا .. و كم وأد من خيالات تراءت له حية امام ناظريه المعلقين بسقف غرفته و عيونه المسهدة لا شاغل لها الا محياها ..
وها هو اليوم قد اشرف على نهايته و ما عاد قادرًا على ما تفعل به تلك العزلة التى فرضتها على نفسها غير مدركة انها تعذبه اقسى انواع العذاب وانه نال عقابه على ما تفوه به وزيادة ..
كانت هى بالفعل تنأى بنفسها عن البيت الكبير واى مكان قد يجمعهما.. تحاشت بشكل قاس ان تتواجد فى مكان ما قد يفترض له ارتياده حتى و لو مصادفة ..
انها هنا لهدف ما ..لم يتحقق حتى اللحظة .. لكن فى سبيلها لتحقيقها ذاك الهدف لن تتنازل مطلقا عن كرامتها ولن تدعه ينل من كبرياءها او يقوض حريتها ..
تناه لمسامعها صوت أنشودة ما تصلها عبر ذاك الجدار الفاصل بين حجرتها ومكتبه العتيق ..
فتحت الباب فى حذّر و وقفت على أعتابه ترهف السمع لكلمات الاغنية لا تعرف لما .. كان ذو ذوق راق في اختيار ما يسمع .. هى تقر بهذا .. أعجبتها الاغنية و راحت ترهف السمع تلتقط كلماتها فى نشوة الا انه على ما يبدو قد اغلق مشغل الاغان…
تنهدت و عادت لغرفتها و بلا وعى منها اعترفت انها اشتاقته .. اشتاقت عينيها لمرأه و التكحل بمحياه .. عزت ذلك للتعود لا اكثر .. لكنها امسكت نفسها متلبسة بالتطلع من شرفة حجرتها فى اتجاه بوابة البيت الكبير مستنتجة انه فى سبيله للخارج .. و صح استنتاجها.. فها هو يندفع خارجا يقفز داخل عربته..
عادت القهقري لداخل الغرفة و قررت الدخول للمكتبة مستغلة غيابه حتى تحصل على بعض الروايات التى قد تعينها على قضاء الوقت بعيدا عن البيت الكبير او حتى الولوج الى المطبخ لمساعدة خالة وسيلة اتقاءً لصدفة مقابلته ..
فتحت باب المكتب في حذّر رغم علمها بانه بالخارج .. و ابتسمت رغما عنها فها هو يثير بها كوامن الخوف حتى في غيابه .. تسللت الى قلب المكتب وبدأت في فحص صف الروايات التى دلها عليه سابقا.. تناولت منها ما ارادت فى سرعة وما ان همت بالعودة من حيث أتت حتى اصطدمت عيناها بذاك الإطار المذهب المعلق على احد الحوائط الجانبية .. تساءلت كيف لم تلحظه من قبل رغم ولوجها الى هنا عدة مرات !؟..
اقتربت فى رهبة ووقفت تنظر الى ذاك الإطار القيم الذى يحيط بتلك الشهادة العلمية .. قرأتها حرفا حرفا..
وهمست:- الدكتور طارق كان عنده حق .. دى شهادة الماچستير ف علم الاجتماع فعلا ..
وتذكرت كيف كان يوجها للطرق المثلى للتعامل مع بعض المشكلات هنا وكيف كان يسخر منها لانها لم تراع طبيعة الصعيد وأهله و تقاليدهم وعاداتهم ..
تنهدت ورفعت ناظريها الى الشهادة من جديد وقرأت اسمه فى وجل و وجيب قلبها يتضاعف دون داع .. حتى مجرد ذكر اسمه يفعل بقلبها افعال لا سلطان عليها:- عفيف راغب النعماني ..
و كانها استحضرت جن المصباح ليظهر هو مندفعا من باب المكتب من ناحية البيت الكبير ما ان أنهت ذكر اسمه بهذا الشكل الساحر الذي كانت تنطق به بلا وعى منها..
انتفضت هى فى ذعر لدخوله الاعصاري ذاك حتى ان ما كانت تحمله من روايات سقط ارضا بالقرب من قدميها .. اما هو فلم يكن باحسن حالا منها .. فما ان طالعه محياها المذعور ذاك كغزال مضطرب امام قوس صياد حتى انتفض قلبه ما بين أضلعه يئن فى وجع .. اشبه بغائب عن الوعى ألقى على محياه الماء المثلج فجأة لينتفض مستفيقا من رقاده يرتجف طالبا الملاذ ..
تنحنح كعادته عندما يحاول استجماع نفسه المبعثرة فى حضرتها هاتفا فى لهجة هادئة:- السلام عليكم يا داكتورة ..
قررت الاندفاع مبتعدة حتى انها لم تع انه ألقى التحية وعليها ردها ..
انتفض مندفعا على غير طبيعته يقف فى طريق باب الخروج هاتفا:- السلام لله يا داكتورة ..
لم ترفع ناظريها لتقابل نظراته المشتاقة .. ليهمس هو فى نبرة هادئة جعلتها رغما عنها ترفع نظراتها المعاتبة لملاقات نظراته المعتذرة:- لسه واخدة على خاطرك من الكلام اللى جولته ..!؟
لم ترد ليهمس مستطردا:- انا بس .. كنت يعني ..
كانت نظراتها تستحثه على الاسترسال وكانت المرة الاولى التى تراه فيها بهذا الأضطراب .. بالطبع فعفيف النعمانى لا يعتذر مطلقا .. ايخطئ من الاساس !؟..
كادت ان تبتسم ساخرة الا انه اذهلها عندما هتف فى ثبات:- حجك علىّ يا داكتورة .. انى بس مش حابب حد يجول كلمة او يطولك بحرف .. اللى يمسك يمسني..
ثم استطرد في عجالة:- انتِ ضفتي ..
هتفت اخيرا:- اكيد طبعا .. انا مجرد ضيفة يا عفيف بيه .. و الضيف لازم يلتزم بقواعد اصحاب البيت ... و اكيد انت متحبش حد يمسك بكلمة من تحت راسي ..
هتف متعجبا:- لاااه .. مش دِه الجصد .. اجصد يعني.. ملوش لازمة الوجفة والحديت مع رچالة ف جلب النچع... و دِه يجول ودِه…
قاطعته هاتفة في سخرية:- يعمل باي باي ..
ابتسم محرجا وغض الطرف رغما عنه وهمس اخيرا:- دِه انتِ زعلك واعر ..
ابتسمت رغما عنها فتشجع هاتفا:- خلاص بجى .. صافي يا لبن ..
هزت رأسها ايجابا هاتفة:- حليب يا قشطة ..
همت بالاستئذان الا انه هتف وهو يندفع الى تلك الروايات التي أسقطتها لحظة دخوله المفاجئ:- رايحة وسايبة الروايات دي لمين!؟..
حملها بين كفيه وناولها إياها .. تناولتها فى أريحية وهتفت و هى تشير لشهادته العلمية:- انت واخد ماچستير في علم الاجتماع .. ليه مكملتش واخدت الدكتوراه!؟..
ابتسم عفيف وهو يتطلع لشهادته العلمية المعلقة على ذاك الجدار منذ أعوام طويلة وتنهد وهو شارد في كل حرف بها:- مكنش ينفع ..
شعرت بعمق الأسى الذي يعتريه اللحظة .. كانت تستشعر انه بين رغبتين متناقضتين كأنهما قطبي مغناطيس .. فهتفت فى فضول اصبح معتادا لكل ما يمت لعفيف النعمانى بصلة:- ليه !؟.. حد ياخد ماچستير بامتياز مع مرتبة الشرف وميكملش .. دي سابقة من نوعها..
اكد وهو يبتعد عن اطار شهادته المعلق هاتفا:- عشان دي كانت أوامر الحچ راغب النعماني .. و اوامره كانت سيف على رجبتي ..
هتفت متعجبة:- والدك !؟.. و ايه اللي يخلى والدك ياخد قرار قاسي كِده ومعارض لرغبتك !؟..
ابتسم عفيف في شجن هاتفا:- عشان كان شايف وواعي للي محدش واعيله ..
هتفت متعجبة:- مش فاهمة !؟..
اكد عفيف متطلعا الى الفراغ امامه في شرود:- جالهالى يومها .. سبتك تاخد الماچستير على هواك .. اكتر من كِده مش هينفع .. لو بجيت داكتور ف الچامعة هتروح ف السكة دي ومش هترچع .. ساعتها مين هيكون للنعمانية من بعدي و اني مخلفتش رچالة غيرك !؟.. يا الداكتوراه .. يا النعمانية ..
واستفاق من شروده هامسا وهو يتطلع اليها:- و كانت النعمانية ..
هتفت دلال متسائلة:- مندمتش!؟..
اكد عفيف فى صدق:- ولا لحظة يا داكتورة .. اللي بناه چدى وتعب فيه ابويا واچب علىّ صونته .. و أديني بحاول ..
وابتسم في رزانة مع كلمته الاخيرة تلك الابتسامة التي لا تظهر الا في مناسبات خاصة جدا والتي اصبحت تحفظ تفاصيلها ودوما ما تحرك شئ ما بالقرب من معدتها يورثها اضطرابا حاولت مداراته هامسة:- عن اذنك يا عفيف بيه .. و متشكرة ع الروايات ..
واندفعت من امامه تلوذ بحجرتها وهى لا تعلم لما اصبح عليها مؤخرا الهرب من ذاك الرجل الذي قلب موازين ثباتها رأسا على عقب!؟…
↚
كانت قد شارفت على الانتهاء من معظم الاستشارات التى جاءتها بها النساء بعد طول غياب وما ان همت بغلق باب غرفة الكشف حتى تناهى لمسامعها جدلا دائرا بالقرب من الباب الخارجى .. طلت برأسها فى اتجاه اللغط الدائرهناك لتلمح امرأتين و بجوارهما رجل يجادلها في عصبية و ضيق وما ان همت بالخروج اليهم حتى كانوا هم الأسبق وتوجهت النساء باتجاهها وبجوارهن فتاة صغيرة لم تتعد الحادية عشرة من عمرها ..
ألقين السلام فى اضطراب فردت دلال السلام و سمحت لهن بالدخول .. كان الرجل لايزل بالخارج ينتظرهما بفارغ الصبر ..
جلست النساء وقد بدأن في التخفف من حمل برداتهن القاتمة لتهتف اكبرهن سنا بلهجة متسلطة امرة:- مش انتِ الداكتورة اللي چت من مصر !؟.. لم تنتظر جوابا بل استطردت بنفس اللهجة .. عايزينك تطهريلنا البت دي ..
اشارت للفتاة الصغيرة الضئيلة الجسد والضعيفة البنية التي كانت تجلس منكمشة بالقرب من المرأة الاخرى التي كان يبدو عليها الاستكانة و الاستسلام حتى انها لم تنطق حرفا ..
نظرت دلال في صدمة للمرأة المتعالية اللهجة هاتفة في ذعر:- ختااان !؟.. بس البنت ضعيفة وممكن متستحملش وبعدين لازم يبقى في ضرورة طبية لعملية ذي دي .. لان ممكن ضررها يبقى اكبر من نفعها ..
هتفت المرأة من جديد:- بجلك ايه يا داكتورة !؟.. هاتعمليها ولاااه نروحوا لحد غيرك .. اى داية تعملها و نخلصوا..
ونظرت للمرأة المستسلمة والتي كان يبدو انها ام تلك الفتاة الصغيرة هاتفة في حنق:- اني عارفة ايه كان لزمته وچع الجلب دِه !؟.. جال دكاترة و معرفش ايه !؟.. ما كانت ام حبشي الداية خلصتنا ف ساعتها ..جلع ماسخ..
كظمت دلال غيظها رأفة بالفتاة الصغيرة وحتى يتسنى لها فحصها فهتفت بهن مؤكدة:- متقلقوش انا هعمل اللازم ..
و امسكت دلال بكف الصغيرة التي تشبثت بذراع امها التي همهمت في محاولة لطمأنة ابنتها:- روحي معاها يا بتي .. روحي متخافيشي ..
تحركت الفتاة في طاعة خلف ستار الفحص وما ان اصبحت دلال معها بمفردها حتى همست وهى تربت على كتفها في حنو:- متخافيش .. مفيش حاجة هتأذيكي .. انا مش ممكن اخليهم يضروكي ابدا ..
ابتسمت الفتاة السمراء الصغيرة في راحة واستكانت ملامح وجهها للمرة الاولى منذ وصولها .. لم يكن من السهل على دلال ادراك عدم حاجة الفتاة لمثل تلك الجراحة العقيمة لكن كان عليها ان تثبت ذلك لأهل الفتاة انقاذا لها ..
خرجت دلال من خلف ستار الفحص هاتفة فى تأكيد:- البنت مش محتاجة لعملية ذي دي .. البنت ممكن اصلا متستحملهاش .. دى ضعيفة قووى ..
هتفت المرأة المتسلطة عالية الصوت بغضب في ام الفتاة:- اني جلت بلاها دكاترة .. والمحروس ولدي عام على عومك .. أدي اللي خدناه من شورتك .. نسوان عايزة الحرج ..
هتفت دلال بحنق بالغ لم تستطع التحكم به اوالسيطرة عليه:- بقولك البنت ضعيفة .. واللي هتعملوه ف حق البنت جريمة .. و انا مش هسكت وهبلغ عنكم البوليس لو حد قرب للبنت او ضرها ..
انتفضت المرة السليطة اللسان من مكانها هاتفة متجاهلة الرد على دلال بل وجهت كلامها لزوجة ولدها:- أدي اخرتها يا معدولة .. وادي اخرة اللي يمشى ورا شورة الحريم .. جومي ياللاه بينا جامت جيامتك ..
نظرت المرأة المستكينة الى دلال نظرة تحمل كم لا بأس به من الوجع وكم مساوٍ من الاعتذارعلى اسلوب حماتها الفظ وهتفت تستدعى ابنتها من خلف ستار الفحص الذي كانت تختبئ الفتاة خلفه متحاشية ثورة جدتها:- ياللاه يا براءة..
تحركت الفتاة من خلف الستار لتسير في اتجاه امها مغلوبة على امرها و تطلعت الى دلال فى نظرة تحمل الكثير من القهر ونداء موجع يستغيث بها حتى تنقذها من براثن عادات بالية يجرمها العالم ..
هتفت دلال للفتاة ف حنو:- اسمك براءة !.. الله .. اسمك جميل قووى..
ابتسمت الفتاة في رقة وهى تطأطئ رأسها بحياء .. وضعت كفها بكف امها وسارتا خلف المرأة الأكبر سنا والتي اندفعت خارج حجرة الكشف دون حتى إلقاء التحية ..
نظرت دلال فى اتجاهه البوابة لتجد المرأة العجوز تلك تتشاجر فى غضب مع ولدها .. لم يكن يصلها ما يقولونه و لكن لم يكن من الصعب عليها استنتاج فحواه .. تجاهلتهما دلال تماما وعيناها مسلطة على الفتاة الصغيرة التي أدارت وجهها فى اتجاه موضع وقوفها و اشارت اليها مودعة من طرف خفي حتى لا يلحظها احدهم ..
ابتسمت دلال فى سعادة وهى تلوح للفتاة محاولة بدورها ان لا يلمحها احد من اهلها والتي اصبحت منذ اللحظة عدوتهم اللدود .. و خاصة تلك العجوز الجبارة التي تتعامل كانها الحاكم بأمره..
تنحنحت وهى تطرق باب غرفته داخل نقطة الشرطة التي يشرف على تحقيق الأمن داخل النعمانية من خلالها .. هتف شريف من الداخل معتقدا انه عسكري الخدمة الخاص به:- اتفضل .. من امتى الادب ده ياخويا !؟..
كان مندمج في تجميع بعض الاوراق والملفات الهامة من فوق مكتبه وهتف دون ان يلتفت للقادم يستوضح شخصه:- نعم !؟.. عايز ايه يا عملي الأسود ..!؟..
كان يقصد شاويشه الذي دوما ما يواتيه بالأخبار المشؤومة ولم ينتبه الى القادم الا عندما علت قهقهاتها رغما عنها مما جعله ينتفض مستديرا وما ان تنبه لوجودها حتى ابتسم متحنحا في احراج:- اهلًا يا دكتورة .. اتفضلي ..
هتفت دلال والابتسامة لا تزل مرسومة على محياها:- واضح انك مشغول وانا مش هعطلك ..
هتف شريف وهو لايزل يجمع الأوراق على عجالة:- لا مش حكاية شغل يا دكتورة لانك اكيد جاية هنا عشان شغل .. بس اصل انا نازل اجازة حالا دلوقتي ..
هتفت فى قلق:- طب نازل اجازة يبقى مبسوط وانا شايفة غير كده..
هتف شريف بنبرة صوت مضطربة:- صح .. اصل خالتي بلغتنى ان امي تعبانة وفي المستشفى ..
شهقت متعاطفة:- الف سلامة عليها .. خير مالها !؟..
هتف شريف:- ابدا هو قلبها اصلا تعبان شوية .. يا رب يبقى خير ..
هتفت دلال تحاول المساعدة:- طب انا ممكن اكتب لك اسم دكتورة زميلتي ممتازة وده تخصصها .. هكتب لك اسم المستشفى وعيادتها كمان ..
وتناولت احدى الاوراق وقلم و بدأت على عجالة فى كتابة رسالة لزينب صديقتها وناولتها اياه مؤكدة:- اتفضل يا حضرة الظابط.. هى بتشتغل في مستشفى … و هتفت باسم المستسفى وعنوانها ..
فهتف شريف متعجبا:- دي نفس المستشفى اللي فيها ماما .. دي اقرب مستشفى لبيتنا ..
ابتسمت دلال:- سبحان الله .. طب كده تمام قووي .. اديها بس الجواب ده وهى هتعمل اللازم ..
ابتسم شريف ممتنا:- متشكر يا دكتورة .. بس مقلتيش كنتِ جاية ف ايه !؟.. خير ..!؟..
هتفت دلال متنهدة:- خلاص بقى يا حضرة الظابط .. يا دوب اسيبك تشوف ترتيبات سفرك للوالدة ربنا يقومها بالسلامة ..
ونهضت مودعة وهى تهمس فى حزن:- بس ع الله لما ترجع يكون فى فرصة تدخل من اساسه ..
خرجت من الحمام وما ان وقع ناظرها عليه حتى هتفت فى تعجب:- على فين !؟.. انت لسه تعبان..
هتف وهو يكمل احكام غلق سترته الجلدية حول جسده اتقاءنا للبرد بالخارج:- زهقت م الراقدة .. بقالي كام يوم راقد ف السرير .. لو قعدت اكتر من كده هعيا بجد و كمان اجيب حاجة ناكلها بدل الجبنة اللي تعبتنا دي و ..
تردد قليلا قبل ان يستطرد هاتفا:- وهكلم دلال اشوف أخبارها ايه .. زمنها رجعت من المؤتمر اللي سافرت له ده المفروض انها رجعت بقالها كام يوم وبالمرة اقولها اني مش هنزل اجازة لفترة عشان متقلقش عليا لحد ما نشوف الدنيا هتودينا على فين ..
اومأت برأسها تفهما ولم تنبس بحرف واحد لذا اندفع خارجا وقبل ان يغلق الباب بأحكام خلفه سأل هاتفا:- مش عايزة حاجة اجبهالك معايا !؟..
هزت رأسها نفيا وهتفت:- عايزة سلامتك .. بس متتأخرش عليا عشان بخاف اجعد لوحدي ..
ابتسم في مودة واومأ برأسه موافقا.. ثم رحل ..
اغلقت باب غرفة الكشف بعد ان وعت لسعدية زوجة مناع بانتظارها خارج البوابة الخلفية كما اتفقتا ..
اندفعت كلتاهما لوجهتهما المشتركة فقد قررت ان تواجه ذاك الجهل و تحاربه في عقر داره وتقضى على أدواته .. انحدرتا التلة المقام عليها دار النعماني وسلكتا طرقا ضيقة حتى وصلا لذاك الدار الطيني المبني من طابق واحد والمقام على أطراف النعمانية وهمست سعدية مؤكدة:- هو دِه يا داكتورة بيت الداية ام حبشي ..
وما ان همت بالاندفاع للطرق على باب الدار حتى استوقفتها سعدية هاتفة في قلق:- لساتك يا داكتورة عايزة تعملي اللي ف راسك برضك!؟.. دي ولية جوية و شرانية ..
هتفت دلال:- ايوه لازم ومش هتراجع ولو فيها ايه ..
وبدأت دلال في الطرق على باب الدار الخشبية المتهالكة بعد ان ابتعدت سعدية تختبئ خلف شجرة ضخمة بالقرب من الدار..
انفرج الباب بعد فترة قصيرة عن امرأة طويلة القامة سمراء البشرة ضخمة الجثة ممتلئة القوام متشحة بالسواد من قمة رأسها حتى اخمص قدميها باختصار امرأة طلتها مقبضة للنفس.. تنفست دلال في عمق مستجمعة شجاعتها هاتفة في ثبات:- انتِ ام حبشى الداية ..!؟..
هتفت المرأة بصوت أجش اقرب لصوت الرجال:- ايوة .. انتِ مين يا شابة !؟..
هتفت دلال فى هدوء:- طب مش هتقوليلي اتفضلي الاول !؟..
هتفت ام حبشى في ابتسامة صفراء:- اه طبعا احنا نعرفوا الأصول والواچب .. و بعدين شكلك چاية ف حاچة كَبيرة .. ربنا يسترع الولايا كلهم ..
كادت دلال ان ترفع كفها لتلطم وجه تلك المرأة الحقيرة على ذاك الاستنتاج الأحقر لكنها تمالكت أعصابها وأظهرت ظبطا للنفس فاق احتمالها وتساءلت هل تلك المرأة ستقبل ما هى مقدمة على عرضه عليها !؟.. صمتت لحظات واخيرا هتفت من جديد محاولة الخروج من حالة اليأس التى انتابتها قبل حتى ان تبدأ:- بصي يا ام حبشي .. انا الدكتورة دلال المصري .. مش عارفة سمعتى بيا ولا ..
قاطعتها ام حبشي هاتفة بنبرة بها الكثير من الغل:- اهلًا .. طبعا سمعت .. و أديني اتشرفت كمان ..
تنهدت دلال هاتفة:- طب كويس انك سمعتي .. ده هيوفر علينا كتير .. انا جاية اعرض عليكِ عرض هينفعك وهتكسبى من وراه ..
هتفت ام حبشى ساخرة:- چاية تنفعيني !؟.. اني مشفتش من بعد مچيتك اي مُصلحة ..
اكدت دلال تحاول استمالتها:- ما هو انا جاية عشان كده .. عشان حاسة ان وجودى اثر على اكل عيشك .. فقلت ليه متشتغليش معايا وتحت اشرافى وليكي اللي تطلبيه!؟..
قهقهت المرأة متهكمة:- اشتغل معاكِ !؟.. بطلوا دِه واسمعوا دِه .. انتِ عارفة اني بولد حريم النچع من ميتا !؟.. من جبل ما انتِ تتولدي يا داكتورة .. يعني عِندي كد اللي اتعلمتيه ف الچامعة و الكتب بتاعتك عشر مرات ..
ابتسمت دلال هاتفة فى هدوء:- ربنا يزيدك يا ستي .. وانا عارفة ان عندك خبرة .. بس خبرتك مع شوية العلم اللي طلعت بيهم م الكتب ممكن تفيد الستات هنا ف النجع .. ليه نبقى ضد بعض لما ممكن نساعد بعض !؟..
هتفت ام حبشي وهى تتجه لباب الدار تفتحه:- شرفتي وانستي يا داكتورة.. ابجي كرريها ..
تأكد لدلال ان مسعاها قد خاب فتنهدت ونهضت تعبر باب الدار للخارج حتى استدارت تواجه ام حبشى من جديد هاتفة فى محاولة اخيرة:- مش هعتبر ده ردّك النهائي .. فكري تاني يمكن تغيري رايكِ ..
اقترب عفيف بعربته من حدود النجع وها قد طل على مشارفه عندما لمح سعدية زوجة مناع تقف منتصبة في استنفار خلف تلك الشجرة الضخمة كأنما تترقب وصول شخص ما ..
تعجب مما يحدث و توجه ناظره الي حيث تلقى بنظراتها المضطربة.. و ها هو يرى دلال تخرج من بيت تلك المرأة المشؤومة ام حبشي والتي مات على يديها من نساء النجع اكثر مما عاش .. لقد كادت تودى بحياة سعدية نفسها في ولادة ابنتها الثانية.. لكن ماذا تفعل الدكتورة عند تلك المرأة يا ترى !؟.. تساءل متعجبا وهو يترجل مقتربا من الدار و قد سمع دلال تدعوها للتفكير مرة اخرى في امر ما .. ما ذاك الامر الجلل الذي قد يجمعها..!؟..
هتفت ام حبشي خلف دلال وهى ترحل مبتعدة في طريقها لسعدية:- مش هغير رأيي يا داكتورة .. و مظنيش هاياچينى خير من تحت راسك ولا هشوف منفعة طول ما انتِ هنا ف النچع ..
ظهر عفيف اخيرا صارخا فى صوت كالرعد:- ام حبشي !؟..
ارتعدت المرأة وتطلعت الى محيا عفيف الذي ما ان وعت لظهوره المفاجئ ذاك حتى تحولت من هذا الجبروت الذي كانت تتمثله منذ دقائق الي امرأة اخرى تماما تدعي المسكنة والوداعة تطأطئ رأسها في مذلة هاتفة في صوت مرتبك:- امرك يا عفيف بيه ..
اقترب عفيف من المرأة هاتفا فى لهجة قاسية:- تعرفي !؟.. انت لولا ما انك مرة كبيرة وكد امي كنت عِملت الواچب معاكِ .. الداكتورة ضيفتي .. عارفة يعنى ايه تجولي اللي جولتيه ده لضيفة عفيف النعماني !؟..
انتفضت المرأة تحاول الدفاع عن نفسها:- لااه .. و الله ما اجصد يا عفيف بيه !؟.. ضيوفك على روسنا من فوج بس اصلك ..
هتف عفيف بصرامة منهيا الحوار العقيم:- انتهينا.. و يكون ف معلومك .. مچية الداكتورة لحدك دي ليها تمنها.. و اجل حاچة تتعمل انك توافجي ع اللي طلبته منيكِ .. ولا ايه !؟..
همست ام حبشي في نبرة تحاول ان تداري ذاك الحقد الذى يقطر منها:- بس يا عفيف بيه !.. يعني ..
هتف عفيف مؤكدا:- خلصنا يا ام حبشي .. سلام عليكم ..
هتف عفيف بالتحية واندفع في اتجاه عربته مارا بدلال التي ما ان حازاها حتى همس امرا:- اتفضلي يا داكتورة ع الكارتة أوصلك المُندرة ف طريجي ..
واستمر فى طريقه صاعدا الكارتة منتظرا قدومها ممسكا بلجام فرسه متأهبا للانطلاق مبتعدا ..
أشارت هى لسعدية من طرف خفي ان ترحل في هدوء وصعدت العربة بجواره كالمعتاد ليهز اللجام لتتحرك العربة ويشملهما الصمت للحظات .. حتى هتفت اخيرا متسائلة:- عجيب انك تضغط على ام حبشي تقبل باللي عرضته عليها رغم انك متعرفش انا عرضت ايه .. وحتى مسألتش !؟..
اكد في هدوء دون ان يحيد بناظريه عن الطريق:- واسأل ليه ..! انا متأكد انك هتعرضي عليها اللي فيه المصلحة للكل ..
ابتسمت رغما عنها فى بلاهة تكاد تطير فرحا لمجرد إظهاره الثقة بها وبما تتخذه من قرارات ..
تطلعت للطريق الأخضر على جانبى العربة واستنشقت في عمق ذاك الهواء المحمل بعبق خاص لن تجده الا هنا واكدت لنفسها ان ذاكرتها ستظل تحفظ ذاك العبق الأخضر المحمل بأديم الارض البكر ما حيت ..
لم يستطع كالعادة ان يغض الطرف عنها وهى بهذا الكم من البراءة و ذاك القدر من العفوية والكاف تماما لتدمير ثباته في ثوان مهما ادعى قدرته على الصمود ..
وسأل محاولا إلهاء افكاره و خواطره عنها قليلا:- بس انتِ ليكي ايه عند المرة السو دي عشان تروحيلها يا داكتورة !؟.. لو كنتِ جولتيلى كنت چبتها لحد عِندك ..
هتفت سعيدة بتجاذب أطراف الحديث وايجاد الفرصة لتستطلع رأيه فيما فعلت فهى عاجلا ام آجلا كانت لابد ان تخبره:- انا فكرت انها بدل ما تبقى منافس ليه متبقاش شريك !؟..
هتف عفيف وقد ضاقت عيناه مستفسرًا رغم استنتاجه المراد:- بمعنى !؟..
هتفت دلال شارحة في حماسة:- يعنى ليه اسبها تعمل مصايب عشان خاطر الفلوس لما ممكن اخليها تشتغل تحت عينى وبإشرافي و تاخد الفلوس اللي هى عيزاها .. المهم ف الاخر اننا نكف أذاها عن ستات النجع وبناته ..
كانا قد وصلا بالفعل امام البوابة الرئيسية للبيت الكبير فترجلا من العربة وسارا معا حتى باب المندرة تركها تفتح بابها في أريحية بمفتاحه الذي لا يفارقها وهم بالرحيل لتستوقفه هى هاتفة فى تعجب:- ايه!؟..مقلتليش رأيك يا عفيف بيه!؟.. اللى عملته ده صح ولا غلط!؟..
ارتسمت على شفتيه ابتسامة مهلكة ولمعت عيناه ببريق فخر وهمس بنبرة اذابتها حرفيا:- اتغيرتِ كَتير جوى يا داكتورة ..
همست بصوت متحشرج تأثرا:- اتغيرت !؟..
تطلع اليها من جديد وهم بالرحيل الا انها استوقفته من جديد مصرة على سماع رأيه هاتفة:- برضو مسمعتش رأيك !؟..
هتف مقهقها:- كل دِه ولسه معرفتيش رأيي !؟..
واندفع مبتعدا تاركا إياها تغمرها سعادة عجيبة وفرحة من نوع خاص ..فلقد اختفى عفيف الساخر ذاك والذي كان يمطرها بالتهكم على افعالها التي كانت تحاول بها تغيير واقع النعمانية المرير وانارة طريق الجهل الوعر ببعض من مشاعل علم لتطمث معالمه التي حفرت اثارها طوال سنين غابرة ..
هى على الطريق الصحيح واخيرا بدأت في ادراك كيفية التعامل مع معطيات تلك البيئة التي تحيطها و الاستفادة منها لتحقيق افضل نتائج ممكنة .. هو يدرك ذلك جيدا وهذا بات يسعدها وخاصة دعمه بهذه الابتسامة القاهرة وتلك النظرة البراقة التي لمحت بها شعورا من نوع خاص .. وكان ذلك كافيا لها و زيادة ..
اندفع شريف لداخل حجرة المشفى و ما ان طالعه محيا امه الراقدة على فراش المرض حتى توجه اليها هاتفا فى لوعة:- ماما .. انتِ كويسة !؟...
ابتسمت امه الحاجة شريفة فى محبة هاتفة:- يا حبيبي مفيش حاجة .. متقلقش كده .. دول شوية تعب وهيروحوا لحالهم .. اقعد بس خد نفسك ..
جلس على اقرب مقعد للفراش متنهدا في راحة:- انا اول ما خالتي كلمتني جيت جرى ..
هتفت الحاجة شريفة:- شوف وانا اللي موصياها متخضكش !..
هتف شريف معاتبا:- هو انتِ كمان مكنتيش عيزاها تقولي !؟.. ده برضو ينفع يا ماما !؟..
هتفت الحاجة شريفة في حنو:- و الله يا شريف مكنتش عايزة اقلقك عليا .. انا بقيت ذي الفل اهو ..
نهض شريف من موضعه هاتفا:- طب انا هروح اشوف الدكتور اللي متابع حالتك و اشوف ايه الاخبار ..
هتفت امه:- طب يا حبيبى خد نفسك .. ده انت شاكلك لا كلت ولا نمت ..
اكد شريف:- اه و الله انا مطبق من امبارح ..
وابتسم مستطردا في مزاح وهو يقبل جبينها:- بس فداكِ انتِ يا حجوج يا قمر ..
قهقهت امه في سعادة بينما اندفع هو باحثا عن الطبيب المعالج .. وتذكر في طريقه اسم الطبيبة التي أوصته الدكتورة دلال بالمرور عليها مرسلة لها التحية والتوصية لامه وكذا تلك الرسالة التى بعثتها معه أمانة لتصل لكفها شخصيا ..
سأل احدى الممرضات وهو يعبر الممر المفضى لحجرة الأطباء:- لو سمحتي !.. الدكتورة زينب عبدالحكيم ألاقيها فين !؟..
اكدت الممرضة:- الدكتورة زينب لسه مجتش .. و مش عارفة اذا كانت هتيجي النهاردة و لا لأ ..
هز رأسه في تفهم وانصرف عائدا لحجرة امه ليجد السرير خاليا .. تنبه لخالته التى وصلت للغرفة فسألها فى قلق:- ازيك يا خالتي !.. هى ماما راحت فين ده انا لسه سايبها !؟..
ابتسمت خالته في هدوء:- ازيك يا شريف يا حبيبي حمدالله على سلامتك .. متقلقش شريفة ف الحمام .. تعالى كوول لك لقمة .. سربت الاكل ده من الأمن تحت بالعافية .. محشي يستاهل بقك ..
قهقه شريف هاتفا:- سربتيه !؟.. انا عرفت دلوقتي انا جبت الحس الأمنى منين يا خالتي !؟..
قهقهت خالته هاتفة:- يخرب عقلك يا شريف .. و الله الواحد بتوحشه خفة دمك دي .. تعالى بس كول .. مش هتندم ..
تمدد شريف على فراش امه هاتفا بوهن:- لا يا خالتى مليش نفس .. امدد جسمي بس لحد الحاجة ما تطلع م الحمام .. انا عارفها هتقعد لها بتاع ساعتين جوه أكون انا كوعت فيهم ..
قهقهت خالته على اقواله وتركته يتمدد على الفراش فى أريحية ..
دخلت هى الغرفة في هدوء متطلعة حولها لجو الغرفة الذى يلفه السكون والصمت .. توجهت بهدوء الي مؤشر الحالة المعلق على واجهة الفراش .. قرأته فى عجالة و توجهت للمريض الممدد على الفراش تمسك بمعصمه تفحص نبضه في احترافية .. وفجأة .. و بدون سابق إنذار وجدت نفسها تطير للأعلى لتسقط ممددة على الفراش في موضع المريض الذي أنتفض منقضا ومشرفا عليها بجسده المفتول العضلات صارخا في ذعر:- مين !؟..
هتفت بأحرف ترتعش:- اهدى و الله ما في حاجة ..
هتف مضطربا ومشوشا:- انتِ مين !؟..
اكدت في عجالة:- أنا الدكتورة زينب والله العظيم ..
تطلع شريف حوله في تيه واضح و تذكر انه بحجرة المشفى ممددا على فراش امه .. وأنار في عقله الاسم .. أقالت انها الدكتورة زينب ..!؟..
تطلع اليها من جديد واخيرا عاد اليه وعيه كاملا وهى تهتف تحاول تهدئته:- ارتاح .. شكلك تعبان فعلا..
ابتعد عنها لتنتفض هى منتصبة بعيدا عن الفراش تعدل من هندامها وثبات غطاء رأسها ليعاود هو الهمس مدعيا المرض:- ايوه .. انا فعلا تعبان .. انا تعبان قووي ..
ترددت قليلا واخيرا مدت كفها اعلى كفه تقيس نبضه الذي ما أعطاها الفرصة سابقا لقياسه همست بعد قليل:- فعلا ضربات قلبك عالية ..
اكد فى ادعاء:- شفتي .. ده انا تعبان ع الاخر والله ..
تركت كفه فتأسف داخليا متمنيا الا تتركها ابدا وهم بالتشبث بها لولا بعض تعقل بينما توجهت هى مرة اخرى لمؤشر الحالة تتعجب من التشخيص المكتوب والمدون بها عن الحالة محل العلاج الغير معنونة باسم المريض على غير العادة .. حتى ان الطبيب المتابع للحالة غير متواجد بالمشفى لسؤاله وجاءت هى للمتابعة نيابة عنه ..
همست رغما عنها في حيرة:- غريب .. هو التشخيص اللي غلط و لاه انا اللي ..
واتجهت اليه مرة اخرى هاتفة و هى تضع سماعة الفحص على اذنيها:- اسمح لي افحص حضرتك!؟..
تمدد في أريحية هاتفا:- انت تعملي فيا اللي انتِ عوزاه.. اعتبريني حقل تجارب تحت امر سعادتك ..
ما ان همت بوضع سماعتها على صدره حتى دخلت امه متوكزة على ذراع خالته بعد ان تركتا له الغرفة عندما استغرق في النوم وتوجهتا للكافتيريا وما ان طالعهما المنظر حتى نظرت كل منهما للأخرى و انفجرت في الضحك بشكل هيستيري ..
تعجبت زينب مما يحدث وتطلعت للجميع في دهشة وفضول لمعرفة سبب هذه السعادة المنتشرة بالعائلة الكريمة ..
لكن اذا عُرف السبب بطُل العجب فقد هتفت الحاجة شريفة لولدها:- انت مفيش فايدة فيك يا شريف!؟..مش هتبطل مقالبك دي ابدا ..!؟..
اعادت زينب نظراتها مرة اخرى لمريضها بعد كلمات تلك السيدة المنشرحة لتجده ينهض في عافية كاملة يعدل من هندامه وابتسامة بريئة ترتسم على شفتيه في أريحية و بدأت تدرك ذاك الفخ الاحمق الذي أوقعها به فنظرت اليه شذرا ليهتف وهو يمد كفه مرحبا فى سعادة جمة وكأنه ما وضعها منذ لحظات في موقف لا تحسد عليه جعلها اشبه ببلهاء:- اهلًا يا دكتورة.. نقيب شريف عبدالواحد..
لم تمد كفها ردا على تحيته بل هتفت في ضيق:- اه .. و سيادة النقيب جاى يتسلى هنا بقى !؟..
شعر بالحرج وما ان هم بالرد حتى هتفت امه في نبرة معتذرة:- معلش يا دكتورة متخديش على خاطرك .. شريف ميقصدش ..
اكد شريف هاتفا:- فعلا مقصدش يا ماما .. انا واحد نايم ف امان الله لقيت واحدة ذي القمر .. اقصد ذي الغفر .. اقصد لا ذي القمر ولا نيلة .. ماسكة أيدي وبتقولي قلبك و نبضك وكلام كده م اللي يدوخ ده .. طب بزمتك اعمل ايه انا !؟..
قهقهت خالته و امه مع وجوم من زينب ليستطرد مازحا:- لقيت نفسها ف مريض تكشف عليه .. قلت يا واد يا شريف الشرطة ف خدمة الشعب .. قمت مطوع .. يبقى غلطة مين !؟..
هتفت زينب مصدومة:- نفسها ف مريض !؟..
علت ضحكات امه وخالته كالعادة بينما تصنعت هى الجدية هاتفة:- حصل خير .. عن اذنكم ..
واندفعت هاربة من الغرفة فما عادت قادرة على تصنع ذاك العبوس الذي ترسمه على محياها بصعوبة بالغة ..
عاتبته امه هاتفة:- شكلك زودتها يا شريف وزعلت البنية منك ..
هتف متسائلا:- تفتكرى يا حجوج!؟..
اومأت امه ايجابا ليندفع بدوره خارج الغرفة محاولا اللحاق بزينب التى ما ان ابتعدت عن الغرفة حتى أطلقت العنان لقهقهاتها والتي امسكتها متصنعة الجدية من جديد تحاول مداراة نظراتها الباسمة بكل الاتجاهات حتى لا تفضحها بعد ان توقفت اثر سماعها لصوته ينادي عليها فأستدارت لتواجهه هاتفة فى حنق:- أفندم ..
هتف معتذرا:- انا اسف بجد .. و أرجو ان حضرتك متكونيش زعلانة ..
اكدت فى هدوء جدي:- حصل خير..
تنبه اخيرا ليهتف في تساءل:- صحيح ..!؟.. مش حضرتك الدكتورة زينب عبدالحكيم !؟.. انا ازاى نسيت!؟.
استطاع استثارة فضولها لتهتف:- ايوه انا .. خير ..!؟..
اكد وهو يخرج رسالة دلال:- الدكتورة دلال المصري بعتالك الرسالة دي ..
واظهر الرسالة امام ناظريها مستطردا في مرح:- و بتقولك و النبي تتوصي بيا .. نظرت شذرا فاستطرد في مرح:- اقصد بأمي .. انتِ مش دكتورة قلب برضو !؟..
وتنهد فى لوعة ..
اختطفت الرسالة من بين أصابعه و ابتعدت تاركة اياه وما ان أصبحت وحيدة بحجرة الأطباء حتى انفجرت ضاحكة على افعاله واخيرا فضت رسالة صديقتها التى خطت فيها بخط متسرع:- "ازيك يا زينب!؟.. يا رب تكوني بخير .. بقولك .. حضرة النقيب شريف عبدالواحد ده اللي ماسك النقطة هنا ف النجع وولدته تعبانة عندك ف المستشفى .. يا ريت تعملى اللازم معاهم ..
ملحوظة:- مفيش اى اخبار وصلتك عن نديم !؟.. يا ريت تبعتي تطمنينى مع حضرة الظابط وخدي بالك هو ميعرفش اي حاجة عن سبب وجودي ف النعمانية .. سلميلي على طنط .. سلام عليكم"..
عاد شريف لغرفة امه التى اتخذت موضعها على الفراش لتهتف فيه:- تعالى يا حبيبى كُل حاجة .. انت مكلتش لقمة من ساعة ما جيت .. تعالى خدلك صباعين محشى..
هتف شريف شاردا و هو يتذكر نظراتها المذعورة عندما جذبها لفراش امه مذعورا بدوره و كذا تلك الأصابع الناعمة الرقيقة التى مست معصمه جعلت نبضه يتقافز للضعف:- لا انا عاوز صوابع زينب ..
هتفت امه متسائلة:- بتقول حاجة يا حبيبي !؟..
قهقه هاتفا:- بقول سلامتك يا ست الحبايب ..
↚
اندفع لتلك الردهة المفضية الي غرفة الأطباء والتي طرق بابها ليسأل عنها لكنه لم يجدها .. فقد كانت تمر على بعض مرضاها ...
اخذ يجوب المشفى باحثا عنها فليس لديه الوقت الكاف وهو يود رؤيتها قبل ذهابه الى النجع بعد انتهاء إجازته..
اخيرا لمح طيفها وهى تدلف الى احدى الحجرات فاندفع خلفها في رعونة هاتفا:- دكتورة زينب ..
توقفت مصدومة من رؤيته ورسمت على وجهها جدية حاولت اصطناعها وهى تراه يسرع الخطى الى موضع انتظارها اياه وتلك الابتسامة الباشة على وجهه تدفعها رغما عنها لتبتسم فى حبور عجيب كأنما هى عدوى لا يمكن تجنبها .. لكنها امسكت بالباقى من ثباتها و هى تهتف:- خير يا حضرة الظابط!؟..الوالدة بخير!؟..
اكد هاتفا والابتسامة لم تفارق محياه:- اه يا دكتورة الحمد لله بخير .. دي حتى بتسلم عليكِ وبتقولك تسلم ايدك .. قلبها دلوقتي لا بيأخر ولا بيقدم .. بقت دقاته مظبوطة ذي الساعة ..
ابتسمت رغما عنها وطأطأت رأسها تحاول مداراة تلك الابتسامة واخيرا هتفت:- طب الحمد لله .. يا رب دايما بخير .. عن اذنك ..
هتف معاتبا:- عن اذنك ايه !؟.. يعني انا جاي لكِ مخصوص يبقى ده كرم الضيافة بتاع الدكاترة !؟..
هتفت زينب في حنق:- بقولك ايه يا حضرة الظابط واضح انك مش لاقي حاجة تتسلى بيها ف اجازتك.. بس للاسف انا مش تسلية ولا عندي وقت اسلي سعادتك .. عن اذنك ..
وهمت بالاندفاع مبتعدة الا انه هتف متحسرا:- طب مع السلامة و اشوف وشك بخير بقى .. اصل مسافر دلوقتي النجع .. تحبي أوصل حاجة للدكتورة دلال !؟..
توقفت زينب مستديرة تواجهه من جديد هاتفة في تساؤل:- انت مسافر دلوقت !؟..
اومأ برأسه ايجابا في ضيق لتعود ادراجها اليه مرة اخرى امرة:- طب اتفضل معايا عشان اديك جواب تديه لدلال ..
همس شريف في سعادة:- ربنا يخليلنا الدكتورة دلال اللي خلتك ترضي عننا ..
هتفت متسائلة رغم انها سمعت ما كان يهمهم به:- حضرتك بتقول حاجة !؟..
رد هو في عجالة:- لا بقول كويس انك هتبعتي معايا جواب للدكتورة.. تلاقيها وحشتك ..
و همس لنفسه:- عقبالي يا رب ..
هزت هى رأسها في تأكيد وسار جوارها في شرود يتأمل محياها تحاول ذاكرته تشرب تفاصيل تلك الملامح وقسمات ذاك الوجه الذي سيحرم رؤياه حتى يحين موعد إجازته القادمة ..
دلف خلفها للحجرة وجلست هى خلف مكتبها وجلس بدوره قبالتها لتندمج هى في كتابة خطابها و يندمج هو في التفرس فيها واخيرا ناولته اياه داخل احد مظاريف المشفى ..
مد كفه يلتقطه فى مرح هاتفا:- من يد ما نعدمها ..
ونهض مستطردا:- اشوف وشك بخير بقى ..
هتفت في نبرة محايدة:- مع السلامة يا سيادة النقيب ..
هتف مازحا قبل ان يغلق الباب خلفه مودعا:- اهو انا كنت جاي عشان اسمع بس الكلمتين دول ..
واستطرد بنبرة جادة كانت غير معتادة منه:- مع السلامة يا دكتورة..
واغلق الباب في هدوء .. ليتركها نهبا للفكر والخواطر حول ذاك الذي ظهر في غفلة من الزمن ليقلب اتجاه بوصلتها حتى ولو حاولت ادعاء العكس ..
شعرت باختناق عجيب يتملكها فأغلقت باب غرفة الكشف بعد ان تأكدت انه لن يأتيها مرضى بعد تلك الساعة ..
أحكمت ضم شال امها حول كتفيها و تحركت باتجاه الطريق الترابي الضيق الذي ينحدر لقلب النعمانية .. كانت تشعر ان السير قليلا قد ينفعها في تخفيف وطأة ذاك الشعورالداخلي الخانق والذي لا تعلم له سببا محددا .. تركت قدميها تقودها للطريق وقررت ان تستمتع فقط بعبق ريح العصاري
الندية المحملة بأريج الغيطان البعيدة المختلطة بثرى الجبل العتيق هناك ..
لم يكن في مخططها ان تقابل احدهم و خاصة انها علمت ان شريف لم يعد بعد من إجازته وهى في الاساس لا رغبة لها في ادارة حوار مع اي من كان .. تشعر برغبة عجيبة في البقاء وحيدة ..
لكن يبدو فعلا ان ليس كل ما يتمناه المرء يدركه فلقد سمعت نداء ما باسمها .. تطلعت حولها في تيه حتى وقع ناظرها على الدكتور طارق طبيب الوحدة الصحية..
ابتسمت في رسمية متجهة الي حيث يقف عند مدخل الوحدة لا تعرف هل هو في سبيله للدخول ام الخروج منها .. هتف مرحبا:- اهلًا يا دكتورة .. مالك !؟..
هتفت متعجبة:- هو انا باين عليا قووي كده!؟..
ابتسم طارق مجيبا وهو يعدل منظاره الطبي في حياء:- مش قووي متقلقيش .. بس خير!؟.. و استدرك متنحنا:- ده لو جاز ليا اني اتحشر واسأل .. لو مكنش يضايقك ..
ابتسمت في شجن:- لا ابدا يا دكتور.. بس حاسة ان الامور مش ماشية تمام ..
اشار لها لتجلس بداخل الوحدة على احد آرائك انتظار المرضى فلبت في سعادة حتى لا تقف بالخارج فيلمحها احدهم او حتى يرها عفيف نفسه وهى في غنى عن ما قد يحدث بعدها ..
هتف متسائلا:- امور ايه اللي مش ماشية تمام !؟.. امور شخصية !؟..
كان سؤاله يتجه وجهة هى لا ترغبها على الإطلاق فحاولت ان تعيد الحوار لمساره الاول هاتفة:- الامور المهنية هنا ف النجع مش اكتر .. لسه الجواز العرفي عشان التحايل على شهادة التسنين شغال ولسه الختان رغم توضيح بعض إضراره في اصرار على إجراءه .. وفيه وفيه .. اللستة لسه طويلة للاسف .. ده كله هيتغير امتى!؟.. و ازاي !؟.. اذا كان اصحاب الشأن مقتنعين بصحة اللي بيعملوه !؟.. انا فعلا مش مستوعبة ازاي اهل يعرضوا بناتهم لكوارث ذي دي عادي كده والاسم انهم بيعملوا كده حماية و سترة ..
وقصت له ما حدث مع نادية وبراءة و زيارتها لأم حبشي ..
تبسم طارق هاتفا:- كل ده يا دكتورة و بتقولي انك مش حاسة انك بتعملي حاجة !؟..
صدقينى انتِ بتهزي جبل من تقاليد وعادات ارسخ من الجبل اللي انت شيفاه ده ..
واشار للجبل الغربي على مرمى البصر مستطردا:- وده عايز عزيمة واصرار اشد صلابة من الصخر .. وانتِ قدها وقدود يا دكتورة ..
ابتسمت في امتنان ونهضت محيية:- متشكرة يا دكتور .. انا شكلي كنت محتاجة أتكلم مع زميل يقدر ويدرك حجم المعاناة اليومية اللي بعيشها مع الستات عشان أقنعهم بالمناسب والأصح عشانهم ..
ابتسم طارق بدوره:- تحت امرك يا دكتورة ف اي وقت .. و اعتبريني صديق مش مجرد زميل .. دي حاجة هتسعدني جدا ..
هزت رأسها في تفهم وانسحبت بهدوء خارج الوحدة ..
سارت بضع خطوات وتناهى لمسامعها صوت عربة عفيف من البعد .. كانت تعتقد انها تقترب فتوقفت للحظات تمد ناظريها متوقعة ظهوره الا انها ادركت ان العربة تبتعد وان عفيف قد مر من هنا ..
هل رأها يا ترى !؟.. دار السؤال بخاطرها لكنها لم تقف كثيرا عند البحث عن اجابة ..
اما هو فقد رأها بالفعل .. كان يتعقبها منذ خروجها من البيت الكبير .. كان على مقربة منها لكنها لم تع ذلك .. وعندما رأها تقف مع طارق جن جنونه لكنه لم يستطع ان يحرك ساكنا فلقد اكتفى من افعالها وما عاد قادرًا على كبح جماح انطلاقها وكبت حريتها.. هى كالفراشة وهو ود لو كان ذاك اللهب الذي تقترب منه صاغرة مرحبة .. لكنها للاسف فراشة عمياء تتجه للعتمة متجاهلة دفء الضي وحرارته غاضة الطرف عن وهجه .. لذا تجاهلها و سار بطريقه مبتعدا ولم يكن يدرك انه اول من سيحترق بذاك اللهب الذي يحاول تجاهل ندائه لفراشته ..
تثاءب في تكاسل متطلعا الى تلك التي كانت تجلس قبالته على الأريكة الضيقة هناك .. كان يحاول جاهدا ان يتجاهل ذاك الشعور الذي بدأ في النمو تجاهها وما عاد قادرًا على وأده .. لا يعلم منذ متى بدأ ذاك الكامن في أعماقه في الظهور من مكمنه الا عندما ظهر بالفعل مشرأبا برأسه من بين كوامن روحه.. تنحنح لا ليستدعي انتباهها بقدر رغبته في اخراج نفسه من أتون خواطره التي اصبحت بالفعل تنحى منحن خطر في الآونة الاخيرة واخيرا هتف بصوت يكسوه المرح المصطنع:- ايه رأيك ف خروجه وتمشية ع البحر !؟..
هتفت في سعادة:- صحيح !؟.. يا ريت ..
ثم استدركت:- لكن انت لسه يا دوب طالع من دور برد شديد .. لحسن تتنكس ..
هتف مؤكدا:- لا متقلقيش .. انا كويس و هتقل ف اللبس .. و بيني وبينك .. انا زهقت قووي م الرقدة والحبسة ف الأوضة دي ..
هتفت توافقه:- عندك حق ..
اكد هاتفا وابتسامة على شفتيه:- طالما عندي حق يبقى ياللاه بينا ..
نهض في اتجاه حقيبته واخرج ملابسه و هتف في حرج:- ادخلي غيري هدومك ف الحمام وانا هغير هنا ..
اومأت دون ان تتفوه بحرف حرجا ودخلت للحمام بالفعل .. أنهت تبديل ملابسها لكنها لم تجرؤ علي الخروج من الحمام حتى هتف هو من خارجه متعجلا إياها ..
توجها نحو احد السنترالات وطلب رقم بيت ابيه وانتظر بفارغ الصبر ان ترفع دلال سماعة الهاتف حتى يطمئن قلبه الا انه كما المرة السابقة لم ترد .. زفر في ضيق كان ظاهرا عليه بوضوح عندما غادر الكابينة لتساءله رغم علمها:- برضو مردتش عليك!؟..
اومأ برأسه مؤكدا وهتف في حنق:- مش من عادتها انها تبقى بره البيت لفترات طويلة كده !؟.. انا قلقان فعلا عليها ..
هتفت تطمئنه:- يمكن عشان انت بعيد عنها بجت بتشتغل فترات اطول !؟..
هز رأسه غير مقتنع بتلك الحجة:- يمكن ..
هتفت ناهد مستوضحة:- طب هى ملهاش اصحاب أوليكم جرايب تسأل عندهم !؟..
هتف نديم مؤكدا:- ملناش قرايب لكن ممكن تكون عند زينب .. دي صاحبة عمرها .. ووالدتها ذي امنا وياما وقفت جنبنا بعد وفاة امي .. بس انا بقالي سنين من ساعة ما دخلت الكلية لا رحت عندهم ولا اتصلت بتليفونهم .. نسيت الرقم للاسف..
تنهد في خيبة وحاول اعتصار ذاكرته لكنه لم يفلح ..
تحركا صوب البحر واستنشقا عبق ريحه الفريدة المحملة بعشق الحرية .. الان هما امامه وجها لوجه .. بصلابته وعنفوانه و رقته ولينه .. عبا من هوائه النقي ملء رئتيهما وزفراها انفاس حارة بحجم مواجع روحيهما ..
سادهما الصمت فلم ينبس احدهما بحرف واحد .. حتي همست هى في صوت متلجلج متسائلة:- يا ترى عفيف عامل ايه ف المصيبة اللي وقعناه فيها دي !؟.. ويا ترى ممكن يسامحني !؟..
انسابت العبرات السخينة على خدها مناقضة لنسمات البحر الباردة .. تطلع نديم اليها و همس متسائلا:- مش عارف .. انتِ اللي تقدري تجاوبي ع السؤال ده لانك اخته و اكتر واحدة تعرف تحدد ردود افعاله ..
همست ساخرة في مرارة:- ردود افعاله!؟.. انا مبقتش عارفة احدد اي حاچة ..بس بعد اللي عملناه ده عفيف لو شافنا جدامه دلوجت هتكون نهايتنا چتت مرمية ف البحر ده .. في امور عفيف مبيتفاهمش فيها .. برغم انه متعلم ووصل لدرچة علمية كبيرة الا ان الطبع غلاب وامور الشرف دي بالذات مفيش فيها نقاش من اساسه ..
تنهد نديم هاتفا:- عنده حق ..
هتفت متعجبة:- عنده حج !؟.. انت اللي بتجول كده !؟..
اكد هاتفا بحنق:- اه انا اللي بقول كده ..
هتفت في ضيق:- امال ليه ..
قاطعها هاتفا في ضيق مماثل:- عشان مكنش فيه حل تاني .. كان قدامنا حل تاني!؟.. هااا !؟..
هزت رأسها نفيا ولم تنبس بحرف لكن دمعاتها أجابت عنها ..
ساد الصمت من جديد واخيرا زفر نديم في محاولة لتهدئة الأجواء المحتدمة:- ايه رأيك ف اكلة سمك جامدة !؟..
نظرت اليه وهى تمسح اثر دموعها من على وجنتيها:- بس الفلوس !؟..
هتف متعللاً:- ميهمكيش ..خربانة خربانة .. خلينا ناكل اكلة ترم عضمنا .. الواحد معدته تعبت من اكل الجبنة .. وبعدين ده انا لسه خارج من عيا وعايز اتقوت ..
ابتسمت في هدوء هامسة:- صح .. انت فعلا لازم تتغذى كويس ..
هتف مبتسما:- اهو شوفتي .. ياللاه بينا على اقرب محل سمك نفرتك القرشين اللي معانا قبل ما نمشي ..
هتفت متعجبة:- نمشى نروح فين !؟..
امسك كفها فى أريحية وهما يعبرا الطريق فاضطربت هى وما ان وصلا للجانب الاخر من الطريق واستأنفا طريقهما حتى هتف:- لازم نرجع القاهرة يا ناهد ..
تساءلت:- ليه !؟.. ونرجع لمين !؟.. لأختك!؟..
تنهد في وجع وهتف:- هنشوف يا ناهد هنروح فين .. بس لازم نرجع القاهرة لأني هنا معرفش حد ولازم اشوف لي شغلانة و ده مش هيحصل الا ف القاهرة .. ليا اصحاب هناك ممكن يساعدونى ف الموضوع ده ..
هزت رأسها في تفهم واكملا طريقهما ولم يلحظ انه كان لايزل ممسكا بل متشبثا بكفها التي شعرت بالراحة في احضان كفه ..
اندفع شريف يوقف عربته الميري امام بوابة البيت الكبير وترجل منها مندفعا تجاه مناع ملقيا التحية فى مودة:- سلام عليكم يا مناع .. الدكتورة دلال موجودة !؟..
نظر اليه مناع في تعجب هاتفا:- انت عايز الداكتورة !؟.. ولا تجصد عفيف بيه !؟..
هتف شريف مؤكدا:- انا بسأل ع الدكتورة يا مناع !؟.. موجودة !؟..
اكد مناع هازا رأسه ايجابا وبداخله رغبة دفينة في نفي وجودها لكنه اشار له بالدخول:- موچودة يا بيه .. اتفضل ..هديها خبر ..
اتجه شريف الى الحديقة وتطلع حوله منتظرا ظهور دلال التي اندفعت خارج باب المندرة مرحبة في مودة:- اهلًا حضرة الظابط .. اتفضل.. حمدالله ع السلامة وصلت امتى م القاهرة !؟..
مد شريف كفه مرحبا وهتف فى مودة:- الله يسلمك يا دكتورة .. انا لسه واصل حالا والله ..
هتفت دلال متسائلة:- وايه اخبار الوالدة !؟.. يا رب الصحة تكون بقت عال دلوقتي ..!؟..
اكد شريف ممتنا:- انا مش عارف اشكرك ازاي والله !؟.. بصراحة الدكتورة زينب قامت بالواجب و زيادة .. و الحاجة صحتها جت على علاجها ..
وهمس بصوت كان مسموع لها:- عقبال صحتي أنا كمان..
ابتسمت دلال ولم تعلق ليستطرد هو هاتفا:- بقولك ايه يا دكتورة!؟.. هى الدكتورة زينب يعني .. مرتبطة .. او متكلمين عليها !؟..
قهقهت دلال هاتفة:- اه متكلمين عليها ..
هتف منتفضا:- ايه !؟..
استطردت وهى لاتزل تضحك:- ايوه قايلين عليها كل خير ..
نظر اليها عاتبا:- وقعتي قلبي يا دكتورة ..اه صحيح .. كنت هنسى.. واخرج من جيبه خطاب زينب هاتفا:- اتفضلي جواب م الدكتورة زينب مستعجل مع علم الوصول ..
ابتسمت دلال شاكرة ومدت كفها تتناول الخطاب منه واستدار راحلا وهو لا يعلم ان هناك نظرات كالصقر تتابعه ولو ان النظرات تقتل لأردته قتيلا فى الحال ..
اندفعت لداخل المندرة وهى تتطلع للرسالة التي بكفها والتي قد تحمل اخبار عن اخيها الغائب قد تشفي غليلها وشوقها لمعرفة اين يمكن ان يكون..
كانت تهرول لتصل لغرفتها لتفض الرسالة الا انها اصطدمت به لترتد للوراء خطوة و تصدراهة ألم مع شهقة صدمة و هى تراه يقف متحفزا بهذا الشكل و نظرات عينيه تنطق بأمور تتمنى لو كانت غير قادرة على قراءتها بهذا الوضوح ..
سقطت منها رسالة زينب لتستقر بينهما ارضا ..
لا تعرف لما شعرت برغبة عارمة في الهروب من امام تلك العينين فى التو واللحظة لذا لم تشعر الا وهى تنحني لتلتقط الرسالة وتندفع مهرولة باتجاه الدرج الا انه هتف بصوت لم يكن يحمل من الغضب و الضيق بقدر ما كان يحمل من بوادر ثورة موؤدة بشق الأنفس داخله تهدد بحرق الأخضر و اليابس اذا ما أعلنت عن نفسها:- يا داكتورة !؟..
تسمرت مكانها كتمثال لا روح فيه على اولى درجات الدرج ولم تجرؤ على الاستدارة لتواجهه وهو يهتف متسائلا:- ممكن اعرف ايه اللي بيحصل بالظبط !؟..
أضطرت للاستدارة لتواجهه هاتفة في هدوء:- ايه اللى بيحصل يا عفيف بيه !؟.. لو قصدك على حضرة الظابط .. اعتبره ضيف جالي واستقبلته.. و احتراما لحضرتك استقبلته خارج المندرة .. ف الجنينة ولمدة لاتزيد عن ربع ساعة .. و متهئ لي ده افضل من انى اقف أكلمه بره المندرة ذي ما حضرتك لفت نظري عشان كلام الناس ..و لا ايه !؟.
هتف ساخرا جازا على اسنانه:- و هو ياچيكِ ليه م الاساس سوا كضيف ولاعفريت ازرج !؟..
تجاهلت نبرة السخرية التي اتشح بها صوته وهتفت في هدوء من جديد متسائلة:- مكنتش اعرف انه مش من حقي استقبال ضيوفى يا عفيف بيه لمجرد اني ضيفة عند حضرتك !؟..
هتف في محاولة لضبط نفسه عن الصراخ فيها وهى تجادله بهذا المنطق وبحجة دامغة لا يملك امامها مبررا واحدا مقنعا:- مش الجصد يا داكتورة .. انا كل اللي اجصده حضرة الظابط الهمام .. ايه اللى بينه وبينك يخليه ياچي لحدك و يبجى في بينكم چوابات ومراسيل!؟..
كان هذا هو لب الموضوع وبيت القصيد .. ذاك الخطاب الذي رأها تتناوله من بين يديه في لهفة ماذا يحمل يا ترى !؟..يكاد يجن لينتزعه من بين كفيها ويفضه حتى يشفي غليله ..
نظرت اليه في غضب لا يمكن تحجيمه وهتفت وهى تجز على أسنانها في ثورة تحاول على قدر استطاعتها السيطرة عليها:- انا مقبلش يا عفيف بيه نبرة الاتهام الموجهة ليا ف سؤالك !؟.. و معتقدش ان كوني ضيفة عند حضرتك يديك الحق في أسئلتك دي ولا انا مطالبة من الاساس اني أبرر أفعالي لحضرتك اولغيرك .. عن اذنك..
قالت كلمتها الاخيرة وانطلقت كالسهم تعتلي الدرج في عجالة تاركة اياه يكاد يمسك السماء بيديه غضبا وثورة حتى انه ما استطاع السيطرة على انفعاله اكثر من هذا فأطاح بتلك المزهرية الزجاجية من موضعها بعصاه دافعا بها ارضا مهشمة لعلها تخفف ولو قليلا من تلك النيران التي تشعلها الغيرة بين جنباته ..
اما هى فقد تجاهلت صوت الحطام الذي تناهى لمسامعها بالأسفل ودخلت حجرتها مغلقة بابها خلفها فى عنف ينم عما بداخلها من حنق وضيق ..
كيف يجرؤ !؟.. حاولت ان تهدئ من روعها وهى تجوب الغرفة ذهابا وايابا واخيرا جلست تفض خطاب زينب و تنهدت في حزن زادها هما عندما ادركت ان ما من اخبار تخص اخيها الحبيب مع تأكيد زينب على ان اى معلومة ستصلها سترسلها لها مع حضرة الضابط المجنون الذي يبدو انه سيكون له مع زينب شأنا خاصا ..
دعت لهما بالتوفيق معا فى سرها و دعت ان يظهر نديم وتجده قبل ان تصل اليه يد ذاك العفيف بالأسفل ..
انتفض دافعا جسدها في غيظ عنه هاتفا بغل يقطر من كل حرف من حروفه:- اعمل ايه تانى يا عفيف عشان اكسر نفسك وأذلك ..!؟.. وضرب بقبضة يده اليمنى باطن كفه اليسرى في حقد واضح .. ليستطرد هاتفا من جديد:- اعمل ايه فيك يا واد خالي .. اعمل ايه!؟..
اقتربت منه رفيقته اللعوب هاتفة في دلال ممجوج:- واه يا سي صفوت ودِه وجته برضك .!؟.. يولع عفيف وسيرته اللي تكدر سيد الرچالة ..
تنبه اليها بكل حواسه هاتفا:-جوليلي اعمل ايه تاني ..!؟..دِه اني وجفت جدامه اطلب يد اخته و النعمانية كلها كانت جاعدة .. و مردش على طلبى ولا حد منيهم جدر يجوله كلمة واحدة ترده ..
ونفخ في غل يكاد يرديه قتيلا.. لكنها اقتربت منه في إغواء هامسة بالقرب من أذنه كالحية:- دلوجت انت معاي اني.. يبجى تنسى عفيف دِه واللي خلفوه كمان وبعدين بجى نبجوا نفكروا كيف تخليه ينخ و يطاطي وما يرفع عينه ف عينيك طول ما هو عايش.. بس سيب دِه على لواحظ ..
وجذبته اليها من جديد وقد انصاع لها وهي تطلق ضحكة ممجوجة ماجنة تؤكد انه سيكون طوع بنانها في تنفيذ كل ما قد تصبه في رأسه من سموم ..
كانت تتابع فحوصاتها كالعادة كل نهار وفجأة في منتصف احدى الكشوفات اندفعت فتاة صغيرة لا تتعد الثامنة من عمرها لتمسك بكفها جاذبة إياها وهى تهتف في ذعر:- ألحجي اختي يا داكتورة دلال .. ألحجيها لچل النبي .. هيدبحوها ..
توقفت دلال عن الفحص واستأذنت من المريضة وتنحت جانبا بالطفلة تهدئ من روعها هامسة:- اهدى يا حبيبتي وفهميني بالراحة .. اختك مين!؟.. و مين اللي هيدبحوها دول!؟..
هتفت الفتاة السمراء الصغيرة و هى تلتقط انفاسها فى تتابع ينم عن سوء فى التغذية واضح بجانب حالة الذعر التي تنتابها والتي زادت من سوء حالتها:- اختى براءة يا داكتورة .. ألحجيها .. امي اللي جالت لي اچيلك بس مجولش لحد .. محدش غيرك اللي هيجدر ينچدها..
انتفضت دلال ما ان سمعت باسم براءة.. تلك الفتاة التي كانت تصر جدتها المتحجرة الرأس تلك على ختانها رغم تأكيدها لهم انها ليست بحاجة للختان وان ابنتهم ضعيفة البنية قد لا تحتمل عملية كهذه ..
خلعت دلال معطفها الطبى الابيض واعتذرت من الجميع واندفعت في اتجاه بوابة البيت الكبير تمسك الطفلة بكفها باحثة عن مناع حتى يحضرالعربة ليسرع بهما حتى بيت براءة الا ان مناع لم يكن بموضعه المعتاد جوار البوابة الحديدية فعلمت انه بصحبة سيده بالخارج .. ذاك الذي كانت تتحاشى لقاءه منذ اخر خلاف بينهما بسبب زيارة شريف لها ..
لم يكن هناك وقت للانتظار او حتى التفكير فاندفعت مهرولة مع الفتاة الصغيرة في أتجاه بيتها تكاد تركض في مشهد اثار استعجاب كل من لاحظه ..
وصلت اخيرا على اعتاب بيت براءة .. دفعت الصغيرة المصاحبة لها الباب ودلفت للداخل مسرعة تختبئ حتى لا يعلم من بالدار من المسؤل عن جلب الطبيبة في تلك اللحظة فتنجو من عقاب جدتها القاسية وابيها الخانع دوما لاوامر امه المتسلطة..
اندفعت دلال لداخل الدار ووقفت في منتصف باحته الضيقة تتطلع حولها في تيه .. و اخيرا جاءتها صرخة ما شقت صدرها رعبا فاندفعت من حيث اعتقدت انها مصدرها دافعة بالباب الخشبي المهترئ لتجد نفسها وجها لوجه مع ام حبشي القابلة وجدة براءة وامها المغلوبة على امرها .. وجسد براءة الممدد هناك على الفراش جثة هامدة بلا حراك.. كانت تعتقد ان تلك الصرخة لبراءة .. لكنها كانت لامها التي كانت تولول وتلطم خديها في حسرة ..
اندفعت دلال دافعة بتلك القابلة الحقيرة مبعدة إياها عن الفراش حيث ترقد براءة لعلها تستطيع انقاذها قبل فوات الأوان ..
حاولت وحاولت ان تعيد للفتاة لون الحياة في ذاك الوجه الشاحب لكن الفتاة كانت غارقة في نزفها وما عاد بالإمكان لإنسان ان يتدخل فى احكام القدر..
فلقد فتحت براءة عينيها الكحيلتين لثانية واحدة وما ان طالعت وجه دلال حتى ابتسمت في وداعة و رحلت في هدوء ..
صرخت دلال فيها هاتفة:- براءة .. انا هنا متخافيش .. انا قلت اني مش هخليهم يضروكِ .. سامحيني .. فوقي عشان خاطرى ..
انطلقت صرخة اخرى من صدر الام المكلومة على طفلتها وساد بعدها صمت احد وطأة من صمت القبور ..
ثارت النسوة امام غرفة الكشف معترضات على غياب الطبيبة مما دفع الخالة وسيلة لأستطلاع الامر لتخبرها تلك المريضة التى شاهدت اخت براءة تصطحب دلال بكل ما حدث ..
اندفعت الخالة وسيلة في ذعر في اتجاه عفيف الذى دخل لتوه الى البيت الكبير هاتفة في اضطراب:- ألحج الداكتورة دلال يا عفيف بيه ..
انتفض عفيف هاتفا في قلق:- مالها يا خالة..!؟.. ايه في !؟..
هتفت الخالة وسيلة:- اخت براءة چت خدتها من وسط الحريم و محدش يعرف ايه اللي بيچرى ..
اندفع عفيف خارج الدار في اتجاه العربة مستقلا إياها على عجالة و اندفع بها فى سرعة باتجاه بيت براءة ..
وصل اخيرا وقفز من العربة مهرولا عندما استمع للصرخة المدوية التي انطلقت من الداخل ليجد دلال تصرخ فى براءة او بالاصح في جثمانها المسجى ليندفع باتجاها مطوقا كتفيها بذراعه جاذبا إياها بعيدا عن الفراش ومحاولا ان يخفف تشبثها بالفتاة المتوفاة..
تنبهت لوجوده اخيرا ونظرت اليه نظرات باكية كلها تيه وقهر هاتفة بصوت متحشرج:- انا وعدتها ان محدش هيقدر يضرها يا عفيف .. انا قلت لهم انها ضعيفة ومش هتستحمل .. لكن انا خزلتها .. ثم رفعت كفها الغارق في دماء الفتاة متطلعة اليه مستطردة في هزيان .. خزلتها ودمها على كفي وهيفضل ف رقبتي يا عفيف ..
ونظرت لأهل الفتاة الذين تجمعوا بالغرفة مطأطئ الرؤس منتحبين و صرخت في قهرمشيرة اليهم بيد مرتعشة ونبرة مقهورة:- دبحتوها .. كلكم دبحتوها ..ورفعت كفها صارخة من جديد .. دمها ف رقبتنا كلنا ..
كان عفيف يشد من ضم كتفيها محتملا ثقل جسدها بذراعه وهمس مهدئا بصوت متحشرج يكسوه تأثر لا يمكن إغفاله:- اهدي يا داكتورة .. انا لله وانا اليه راچعون ..
تنبهت الى وجوده من جديد فرفعت نظراتها الملتاعة اليه هامسة:- براءة ماتت يا عفيف .. براءة ماتت..
ودون سابق إنذار حررت نفسها من قبضة ذراعه واندفعت خارج الغرفة ومنها لخارج الدار…
كان هو باعقابها يحاول اللحاق بها وقد لاحظ وصول الشرطة و الدكتور طارق طبيب الوحدة ..
لم يكن يعلم الى اى الطرق اتجهت بين كل ذاك الزحام امام بيت براءة بعد صرخات امها التي جمعت الجيران ولا الى اين يمكنها الذهاب في تلك اللحظة وهى بتلك الحالة!؟.. اندفع يستقل عربته باحثا بناظريه عنها بكل اتجاه واخيرا وجدها تقف بمفترق طرق تبحث حولها عن شئ لا تدركه .. كانت كتائهة لا تحدد لها طريقا تسلكه .. اندفع في اتجاهها بالعربة وما ان هم بالوصول اليها حتى ظهرت زفة نادية بالطبول والمزامير تاهت بين زحامها وزغاريدها ليندفع هو بين بحر البشر ذاك حتى يصل اليها..
انتهت الزفة ليجدها تقف موضعها بنفس التيه لكنها تضع كفيها على اذنيها تحاول ان تمنع وصول تلك الطبول والمزامير الناعقة التي تنبئ بحدوث جريمة اخرى في حق فتاة اخرى ربما يكون مصيرها يوما كبراءة من الوصول لمسامعها..
همس بالقرب منها:- تعالي نرچعوا البيت يا داكتورة..
هزت رأسها لا يعرف ايجابا ام رفضا ام تشوشا وما ان همت بالتحرك موضع قدم حتى اغلقت الدنيا ابوابها امام ناظريها لتراها بلون الحزن .. ليتلقفها هو صارخا باسمها فى لوعة بين ذراعيه..
↚
اندفع حاملا إياها فى ذعر حقيقي لداخل البيت الكبير ولم يتنبه الا و هو يضعها على فراشه في عجالة و الخالة وسيلة تندفع مهرولة خلفه فى ذعر مماثل هاتفة فى لوعة:- ايه فى !؟.. الداكتورة مالها بعيد الشر!؟..
هتف عفيف بدوره في اضطراب:- معرفش يا خالة.. معرفش ...وجعت من طولها بعد ما مامت براءة جدام عنيها ..
هتفت الخالة وسيلة مفجوعة للخبر ضاربة بكفها على صدرها:- براءة ماتت!؟.. عيني عليكي يا بتي ..و على اللي نابك ..
تحرك عفيف في سرعة فى اتجاه طاولة الزينة جالبا زجاجة من عطر اسقط بعض من رزازها على كفه التي قربها الى انفها في محاولة لإفاقتها لكن لا فائدة فقد ظلت على حالها ليضرب بخفة على خدها هامسا باسمها في اضطراب:- دلال .. دلال ..
تنبه انها المرة الاولى التي ينطق اسمها مجردا حتى ولو بينه وبين نفسه .. كان يهاب فعل ذلك وكأنه كان يدرك انه لو فعل فسيكون كمن ألقى تعويذة ما على قلبه حتى انه لن يعود قادرًا على ذكر امرأة سواها ماحيا لكنه فعل فى غفلة منه ونطق بأحرف اسمها في اضطراب جعله يشعر برجفة خفيفة بأوصاله و اهتزاز عجيب بأعماقه وارتجافه بفؤاده..
لكن همسه باسمها لم يوقظها كذلك اعاد الكرة متجنبا ذكر اسمها:- يا داكتورة ..
لم يفلح ذلك ايضا في إفاقتها.. كاد ان يصرخ هلعا واندفع في اتجاه الخارج باحثا عن طبيب لمداواتها ليصطدم بالدكتور طارق والذي جاء مسرعا بدوره للاطمئنان عليها..
هتف عفيف به كمن وجد طوق نجاة:- چيت ف وجتك يا داكتور .. الداكتورة فوج تعبانة جوي ..
اندفع طارق للأعلى وتبعه عفيف الذي وقف خارج اعتاب الغرفة يقسم انه يموت قهرا من شدة انفصامه .. فهاهو يجلب لها طبيبا لفحصها تاركا إياها معه بغرفة واحدة رغم وجود الخالة وسيلة الا ان ذلك لم يكن كافيا ليقلل من شدة استعار النيران بجوفه وما بين رغبته فى الاطمئنان عليها ورؤيته لها سالمة معافاة من جديد ..
ظل يتأرجح ما بين مشاعره المتناقضة تلك حد الهلاك حتى ظهر طارق من الداخل فتنفس الصعداء وهو يندفع اليه متسائلا:- خير يا داكتور .. ايه فى !؟..
هتف طارق متنهدا:- ذي ما اتوقعت يا عفيف بيه .. للاسف صدمة عصبية ..
هتف عفيف في اضطراب:- صدمة عصبية !؟..
اكد طارق:- ايوه .. الموقف اللي اتعرضت له مكنش بسيط عليها .. برغم اننا دكاترة وبنشوف ياما لكن واضح ان الدكتورة متعرضتش لمواقف مشابهة وخاصة اني عرفت ان البنت دي هى حاولت تمنع اللي حصلها وكانت أديتها وعد محدش هيقدر يضرها بس هى مقدرتش تمنع ده للاسف .. الدكتورة عندها احساس رهيب بالذنب ان لها يد ف اللي حصل لبراءة وانها كانت تقدر تمنع اللى حصلها وعجزت..
هتف عفيف فى ضيق:- لا حول و لا قوة الا بالله .. طب والعمل يا داكتور !؟..
اكد طارق:- متقلقش يا عفيف بيه .. فترة وهتعدي باذن الله بس اهم حاجة الهدوء والراحة وان محدش ينقل لها اخبار مش كويسة .. و الدكتورة دلال مؤمنة وعارفة ان كل حاجة باذن الله .. بس الصدمة كانت شديدة عليها شوية ..
اكد عفيف:- و نعم بالله ..
تحرك طارق نحو الدرج راحلا و مؤكدا:- انا ف الخدمة ف اى وقت يا عفيف بيه .. ابعت لى مناع بس هتلاقيني هنا ف ثواني لو جد اى جديد ..
هتف عفيف ممتنا:- شكرًا يا داكتور ..
هتف طارق:- العفو على ايه .. الدكتورة عزيزة علينا كلنا .. ربنا يقومها بالسلامة ..
تنحنح عفيف محاولا ان يسيطر على انفعالاته حتى تكون تحت السيطرة بعد تصريح طارق العادي في فحواه والغير عادي على الإطلاق بالنسبة لعفيف الذي هتف بلهجة تبدلت للرسمية فجأة:- متشكرين يا داكتور كلك ذوج ..
اندفع طارق يهبط الدرج هاتفا:- اروح اشوف ايه اللي تم ف موضوع براءة .. انا سبت شريف باشا بيعمل اللازم مع اهلها وجيت عشان اطمن ع الدكتورة ..
لم يكد يكمل طارق جملته وقد وصل لأسفل الدرج بالفعل حتى اندفع لداخل البيت الكبير النقيب شريف الذي هتف فى قلق:- خير!؟ ايه اللي سمعته ده !؟.. الدكتورة دلال !؟..
طفح الكيل .. فقد كان عفيف يغلي بموضعه اعلى الدرج غير قادر على التفوه بحرف واحد حتى لا يحرق الجميع .. فهتف طارق لشريف:- الحمد لله .. هى كويسة .. بس صدمة بسيطة وباذن الله هتعدي على خير ..
هتف شريف:- طب الحمد لله .. بس هى فايقة !؟.. يعني انا ممكن أشوفها !؟..
هم طارق بالإجابة الا ان عفيف هتف بصوت هادر:- جلنا انها بخير يا حضرة الظابط ..!.. ايه .. نغنوها ع الربابة .. هى كويسة .. مكدب الداكتور يعني .. مجال حاچة بسيطة وهتجوم منيها باذن الله .. وبعدين متهئ لي في حاچات تانية مهمة برضك محتاچاك ..
لم ينفعل شريف كالعادة بل ابتسم فى هدوء:- يا عفيف بيه ما انا كنت بسأل عشان لو فايقة كان ممكن اخد منها كلمتين عن اللي تعرفه ف موضوع براءة ..ع العموم تمام يا عفيف بيه .. المهم انها بخير ..
شعر عفيف بتسرعه في الرد بهذا الشكل .. و اقسم ان ذاك الشعور الاحمق الذي يتملكه تجاه اي ذكر يقترب منها سيورده يوما ما مورد التهلكة .. تنبه على صوت شريف مؤكدا:- انا فعلا سبت كل اللى ف أيدي وجيت جرى اطمن ع الدكتورة وأشوف اقدر اعمل ايه .. هاروح انا بقى ..
هتف طارق بدوره:- خدني معاك يا شريف باشا ..
دعاه شريف برحابة صدر و انصرفا سويا ليزفر عفيف فى ضيق عندما اختفيا من امامه زفرة راحة لانه استطاع ان يتمالك أعصابه التي كانت تحترق فى وجودهما وقد ضاق ذرعا بلهفتهما على تلك الراقدة بالأعلى التى يشعر ان لا حق لاحد غيره في القلق عليها .. نعم .. حقه هو فقط ..
همس نديم متسائلا:- جمعتي كل حاجة لينا هنا !؟..
ابتسمت رغما عنها هاتفة:- ده على أساس ان لينا سنين هنا !؟.. دي هدومنا هي اللي حيلتنا ونصها لبسينه والنص الباجي ف الشنطة ..
ابتسم بدوره هاتفا:- على قولك .. بس اهو بسأل بحكم العادة .. ياللاه بينا ..
هتفت وقد تحولت نبرة صوتها الى نبرة مضطربة:- لسه ناوي ع القاهرة !؟..
اكد نديم وهو يفتح باب الغرفة مفسحا المجال لها لتمر حتى يغلق الباب ليسلم مفتاحه لاستقبال الفندق:- والله ما عارف .. سبيها على الله .. يمكن اول ما نوصل المحطة أغير رأيي .. خلينا نشوف الدنيا هتروح بينا على فين ..
اومأت برأسها ايجابا وانتظرته حتى اغلق الغرفة وتبعته في صمت راحلان الى اللامكان ..
كان يزفر في ضيق لما حدث بالأسفل منذ دقائق .. الكل جاء للاطمئنان عليها بعد ان وصل لهم خبر ما حدث لها .. جميع الرجال بلا استثناء جاءوا مهرولين من اجل السؤال عنها .. تبا لهم جميعا ..
كان ذاك الشعور الداخلي تجاه اي رجل يتأكله فعليا وهو يطرق على باب غرفته لتطل الخالة وسيلة برأسها من خلف الباب هاتفة:- خير يا عفيف بيه!؟.. الداكتور جالك ايه !؟..
هز عفيف رأسه مؤكدا في هدوء:- خير يا خالة وسيلة .. كل خير باذن الله .. بجولك .. ناوليني چلبية انام فيها من چوه ..
هتفت وسيلة و كانها تنبهت فجأة:- واااه .. دِه جنابك چبت الداكتورة على اوضتك .. دلوجت هتنام فين!؟..
هتف عفيف بنبرة صوت منهكة:- ف اي حتة يا خالة .. مش هاتفرج كَتير .. ناوليني بس چلبية من عندك .. همّي ..
هتفت وسيلة وقد دلفت للغرفة بالفعل:- حاضر .. حلاً اهاا ..
تحركت الخالة وسيلة من امام باب الغرفة مما جعله بلا تعمد منه يرى جسدها المسجي على فراشه ..انها تحتل فراشه .. كما تحتل روحه.. شئ ما تحرك داخله جعله لا يقو على التطلع اليها من جديد فقد كان يكفيه نظرة واحدة .. مجرد نظرة فعلت به الكثير .. ظهرت الخالة وسيلة حاملة ما طلب وما ان هم بتناوله منها حتى أشاحت بكفها واندفعت خارج الغرفة هاتفة في تصميم:- و الله ما اسيبهم الا اما اعرف هتنام فين وأتأكد انك نايم ومرتاح ..
اكد عفيف:- هنام ف اى اوضة .. متشغليش بالك انتِ.. خليكِ چنب الداكتورة ..
اندفعت الخالة وسيلة حاملة اغراضه متجهة لأحدى الغرف و دفعت بابها هاتفة:- يبجى خليك ف اوضة ناهد .. انا عنضفها يوماتي من يوم ما..
قطعت الحاجة وسيلة استرسالها في الكلام وتطلعت الي وجهه الذي انقلبت سحنته الا انه لم يعقب بل على العكس دفع باب الغرفة ودلفها لتتبعه وسيلة في صمت وتضع اغراضه جانبا راحلة في هدوء لتتركه يكتر ذكريات مضت .. ذكريات تنكأ جرحا لايزل حيّا .
هتفت ماجدة ام زينب تحاول استثارة فضول ابنتها لتتابع حديثها بدلا من تلك الاوراق التي تدفن بها رأسها:- انتِ عارفة مين اللي كلمني النهاردة !؟..
هتفت زينب بلا اهتمام في محاولة لمجاراة حديث امها:- مين يا ماما!؟..
هتفت ماجدة في سعادة:- الست شريفة .. ام حضرة الظابط اللي قبلته يوم ما كنت عندك ف المستشفى ..
انتفضت زينب وبدا عليها الاهتمام اخيرا مما جلب الابتسام لشفتي امها فقد استطاعت هذه المرة استثارة فضولها بحق لتسأل زينب في توجس:- اتصلت ليه يا ماما !؟..و جابت نمرتنا منين اصلا !؟..
اكدت ماجدة:- قالت لى ان دلال اديتها لحضرة الظابط .. و هى احتفظت بيها عشان لو تعبت تعرف توصل لك ..
هتفت زينب من جديد:- تمام يا ماما .. بس برضو اتصلت ليه !؟..
هتفت ماجدة:- وحياتك يا بنتي ما اعرف .. شوية تحيات على سلامات .. وخلاص ..
نظرت زينب الى امها نظرة متوجسة تشبه نظرة المفتش شارلوك هولمز وهو في سبيله لحل لغز عويص:- ماما ..قري و اعترفي .. ام حضرة الظابط كلمتك ليه !؟..
هتفت ماجدة في اضطراب:- يوووه .. والله ما قالت حاجة .. غير..
قاطعتها زينب هاتفة تتعجلها:- ايوووه .. غير ايه بقى !؟..
هتفت ماجدة معترفة داخليا بفشلها في الاحتفاظ باي سر:- غير انها بتدعيلك دايما لتعبك معاها ف المستشفى وأنك بنت ذي القمر .. و اي واحدة تتمناكِ لأبنها .. واستغربت انك ازاي لسه متجوزتيش لحد دلوقتي ..
انتفضت زينب صارخة:- وانتِ قولتلها ايه !؟..
انتفضت ماجدة بدورها:- والله يا بنتي ما قلت لها اي حاجة .. قلت لها النصيب لسه مجاش .. يعني هقول ايه غير كده !؟..
تنهدت زينب في راحة وعادت لتجلس موضعها لكن ما ان رأت الوجوم يرتسم على ملامح امها حتى نهضت من جديد مقتربة منها وانحنت تقبل هامتها هامسة:- كله بأوانه يا ماما ..
همست ماجدة باكية:- بقالك سنين بتقوليلي كده .. سنين مش قادرة ت..
قاطعتها زينب دامعة:- عشان خاطري يا ماما بلاش السيرة دي .. بلاش ..
همست ماجدة وهى تجذبها لأحضانها:- خلاص يا حبيبة امك.. خلاص .. بلاها اي حاجة تزعلك ..
انزوت زينب باحضان امها راغبة في الهروب من ذكرى بعيدة لكنها لاتزل ماثلة حية امام ناظريها .. لكن هل لها من مفر !؟..
كان يتطلع اليها الان من الطرف الاخر عبر الحديقة و قد امر الخالة وسيلة بإنزالها من عزلة غرفتها التى تجلس بها وحيدة رغبة منه في اخراجها من حالة التيه التى لاتزل تعتريها وذاك الصمت المطبق المصحوب بالدمع المنساب على خديها ..
كان شعوره بالذنب تجاهها يتضاعف كلما رأها على هذه الحالة فقد كان هو السبب فى جلبها من الاساس .. ليته ما دفعها رغبة فى حماية اخيها الوحيد للقدوم الى هنا .. فهنا ليس مكانها المناسب على اية حال .. فعادات وتقاليد النجع لاتناسبها وافكار أهله لم تعتدها ويبدو انها لن تستطع التأقلم يوما على طريقة التفكير اواسلوب التعامل ما حيت ... فهى من بيئة مختلفة شكلا وموضوعا ..
تنهد في حزن وهو يراها لاتزل تجلس بصحبة صمتها الذى يقتله قهرا عليها ولا حيلة لديه الا صمت مقابل .. فماذا عليه ان يفعل ليخرجها من هذه الحالة !؟..
احضر بدل من طبيب واحد ثلاثة أطباء وكلهم اجمعوا ان حالتها نتيجة صدمة قوية تعرضت لها و ان احساس الذنب يكبلها عن التعاطي مع العالم الخارجي الذي ترفضه ..
تقدم منها بخطوات متمهلة حتى جلس مجاورا لها على تلك الأريكة المنعزلة نوعا ما في احد جوانب الحديقة وتنحنح محاولا اجلاء صوته المتحشرج تأثرا وهمس:- ازيك دلوجت يا داكتورة!؟.. لم تجبه بالطبع وظلت على شرودها ليستطرد هو بنبرة يحملها الشجن..
انا عارف انك سمعاني بس مش عايزة تردي .. مخاصمه الكل وأولهم انا طبعا .. معلوم مش انا اللي چبتك على هنا .. و بسببي شوفتي اللي شوفتيه ده .. بس انا عايز اجولك كلمة يا داكتورة .. متحمليش نفسك فوج طاجتها .. انتِ عملتي اللي عليك .. و انا اشهد لك بكِده .. انتِ روحتى للولية الفجرية ام حبشي وحاولتي تچريها لسكتك و تكفي الحريم أذاها .. ومن جبلها حاولتي تخلي ابو براءة وامها يراچعوا نفسهم وجلتي ان البت ضعيفة ومش هاتستحمل..
و كان عندك حج.. و لما اختها الصغيرة چات لك عشان تلحجي اختها .. مترددتيش لحظة وانا شفتك هناك بتحاولي تلحجيها ولو كنتِ تجدري ساعتها تديها من روحك مكنتيش اتاخرتي ..
تنهد ولم يطرف لها جفنا لكلماته ليكمل مؤكدا:- اللي بجوله دِه شهادة حج يا داكتورة مش عشان انتِ تعبانة .. ربنا العالم انك تستاهلي اكتر من الكلام دِه مليون مرة .. واللي حصل لبراءة دِه مجدر ومكتوب مهما كانت الأسباب وانتِ انسانة مؤمنة بجضا ربنا ..و لا ايه !؟..
كان يتمنى ان ترد عليه بأي كلمة ان تصرخ ان تلعن حتى ذاك اليوم الذي رأته فيه عند باب شقتها باحثا عن اخيها الهارب لكنها لم ترد الا بصمت تام كان يمزق روحه ..
انتفض من موضعه جوارها عندما تنبه لدخول احدهم بوابة البيت الكبير .. كان حضرة الضابط شريف .. حاول ان يتمالك أعصابه التالفة من الاساس وهو يهتف بلهجة رسمية جعلت شريف يتطلع لموضعه القادم منه والذي كان يحتله بمجلسها المنزوي بالحديقة:- خير يا حضرة الظابط!؟..تحت امرك ..
ابتسم شريف فى أريحية متجها اليه هاتفا:- خير اكيد يا عفيف بيه .. انا نازل اجازة وقلت أجي اطمن ع الدكتورة قبل ما انزل ..
هتف عفيف وهو يضرب باطن كفه اليمنى على ظهر كفه اليسرى الممسكة بعصاه والمستندة عليها:- فيك الخير يا شريف بيه ..
هتف شريف متجاهلا نبرة عفيف المبطنة بالغضب:- على ايه يا عفيف بيه .. الدكتورة عزيزة علينا .. و ده اقل واجب ..
هتف عفيف بنفس اللهجة التى بدأت تمتزج بالسخرية:- لاااه الحجيجة يا شريف بيه انت جايم بالواچب و زيادة الصراحة ..
قهقه شريف هاتفا:- و لسه يا عفيف بيه .. الواجب الحقيقي مع الدكتورة متعملش ..
زم عفيف ما بين حاجبيه فى تعجب هاتفا:- جصدك ايه !؟.. واچب ايه اللي متعملش !؟..
ابتسم شريف في غموض هاتفا:- الدكتورة ليها جميل ف رقبتي و لازم أرده .. و هحاول أرده ف الاجازة الجاية باذن الله ..
هتف عفيف فى ضيق:- ايه الفوازير دي يا حضرة الظابط!؟.. چميل ايه !؟.. و ترده كيف !؟..
اكد شريف هاتفا:- انا هساعد الدكتورة تخرج من حالتها دي ..
تنبه عفيف هاتفا في تساؤل متحيرا:-كيف يعنى !؟
نظر شريف لساعة يده وهتف في عجالة:- هتعرف لو قدرت اعمل كده فعلا .. اشوف وشك بخير يا عفيف بيه اتاخرت جداااا ..
واندفع شريف مبتعدا قبل ان يشفي عفيف غليل فضوله لمعرفة ما الذي يمكن ان يخرج دلال من حالتها تلك ويقصده ذاك الاخرق و هو لا يعلم به ..
وأنار بعقله هاجس ما .. هل كان حضرة الضابط يقصد اخيها !؟.. لمعت عيناه في جزل وتمنى من صميم قلبه ان يكون الامر كذلك و ساعتها سينتهي هذا الوضع برمته وسيكون ذاك الضابط الاخرق قد أسدى له خدمة العمر بحق ..
اندفع شريف إلى داخل المشفى متوجها رأسا الى غرفة الأطباء التى حفظ مكانها عن ظهر قلب .. طرق بابها المغلق لعله يفتح على محياها الذى اشتاقه كثيرا فى الفترة السابقة .. لكن ما من اجابة .. مرت به احدى الممرضات هاتفة:- مفيش حد جوه يا حضرت .. انت عايز مين !؟..
هتف بدوره:- الدكتورة زينب عبدالحكيم ..
اكدت الممرضة:- الدكتورة زينب بتاعت القلب !؟
اكد شريف مبتسما:- اه هى بتاعت القلب .. واستطرد هامسا:- واللي تاعبة القلب ومدوباه والنعمة ..
اكدت الممرضة:- على وصول .. استناها ف الاستقبال ..
اومأ برأسه موافقا وجلس على احد المقاعد القريبة من الغرفة لعله يلمحها وهى تدلف اليها ..
و ما هى الا دقائق حتى كانت ماثلة امام الباب تفتحه و تدخل للغرفة فانتفض وزاد وجيب قلبه وهو يراها بعد طول غياب .. لم يكن يعتقد ان ذلك سيكون حاله عند رؤيتها .. ماذا فعلت تلك المرأة بقلبه !؟.. فما ان يلمح محياها حتى يضيع ثباته وتبدأ كل موازينه فى الاختلال ..
طرق الباب وسمحت له بالدخول ليفتح الباب في هوادة مطلا برأسه من خلفه هاتفا فى محاولة للمرح رغبة فى مدارة ذاك الاضطراب الذى يعتريه ما ان يتطلع اليها:- السلام عليكم يا اعظم دكتورة قلوب ف بر مصر كله ..
انتفضت داخليا وحاولت استجماع شتاتها ما ان وصلتها نبرات صوته المرحة وتغلغلت حتى أعماقها .. كادت تبتسم لمرأه لكنها حاولت بل جاهدت حتى تتصنع الجدية كعادتها فى حضرته وردت تحيته المرحة بأخرى جادة باءت بالفشل الذريع لانها كانت مصاحبة بابتسامة على شفتيها معاكسة تماما لتلك الجدية و أفصحت عن الكثير وهى ترد:- و عليكم السلام يا كابتن .. حمد الله بالسلامة .. رجعت م النجع امتى!؟.. اكيد معاك رسالة من دلال…
تقدم لداخل الغرفة مما اثر على أعصابها كليا وجلس قبالتها و ابتسامته تلك تفعل بقلبها ما لم تخبره يوما وهتف مؤنبا:- هو انا مقدرش اجي ازورك الا لما يكون معايا رسالة من صاحبتك !؟..
أكدت زينب:- متهئ لى كده يا حضرة الظابط .. هو احنا عرفنا بعض اصلا الا من خلال دلال .. يبقى اكيد مجيتك بسببها ..
زفر في حنق هاتفا:- لا طبعا .. مش شرط على فكرة.. بس تصدقي.. انتِ عندك حق برضو ..
كادت تقهقه ضاحكة على ذاك الذي لا يستقر على رأي واحد وهتفت:- انا مش فاهمة حاجة الصراحة بس وماله .. هات جواب دلال وانا اشوف ايه الاخبار عندها ..
اكد مطأطئ الرأس:- الصراحة مفيش جوابات المرة دي منها .. بس ..
انتفضت داخليا وهتفت فى قلق:- بس ايه !؟.. دلال حصل لها حاجة!؟..
تنحنح فى محاولة لتوصيل الاحداث بشكل يقلل من وطأة صعوبتها وبدأ فى شرح الملابسات وما ألت اليه حالة دلال ..
انتفضت من موضعها واقفة وهى تهتف في عزم:- انا لازم اروح لها .. و لو قدرت هرجعها .. مش ممكن اسبها هناك مع الراجل المتوحش ده اللي اسمه عفيف ..هى ملهاش ذنب ان ..
وفجأة توقفت عن متابعة كلامها الذى يفضح عن امر ما لا يعرفه فتطلع اليها فى تعجب متسائلا:- ملهاش ذنب ف ايه بالظبط !؟.. هو ايه الحكاية !؟..
اندفعت باتجاه الباب متحججة بان موعد فحوصاتها قد حان و هتفت مؤكدة:- انا اتاخرت قووى على المرضى بتوعي .. ع العموم .. متشكرة جدا يا كابتن انك جيت قلت لي اللي بيحصل لدلال .. وذي ما قلت لك انا مش هسبها وهروح لها.. حضرتك راجع امتى النجع!؟..
هتف شريف في لهفة:- المفروض بعد يومين .. بس لو حابة أقطع الاجازة ونسافر سوا حالا ..
اكدت:- لا .. يا دوب اجهز حالي وابلغ والدتي .. ونتفق نتقابل ازاي عشان طبعا مش هعرف أوصل النجع لوحدي ..
اكد فى سعادة:- اكيد طبعا .. هكلمك ونتفق ..
اومأت فى هدوء وألقت التحية على عجالة ورحلت مخلفة اياه وراءها تتقاذفه الفرحة لان الفرصة واتته ليكون معها و يرافقها في سفرها ..
أقنعت امها اخيرا بموافقتها على السفر الى دلال بقلب الصعيد وما جعلها تطمئن في الاساس هو معرفة امها بان شريف سيكون رفيقها في رحلتها الى حيث ترقد دلال مريضة ..
كانت قد هاتفته لتؤكد له على موعد اجتماعهما للسفر وقد أزف الوقت و هى لاتزل تجمع حاجياتها في عجالة ..
زفرت فى ضيق عندما تناهى لمسامعها طرقات على باب شقتها و هى غير مؤهلة حاليا لأى زوار من شأنهم تعطيلها عن حزم امتعتها ..
اندفعت للباب تفتح في عجالة وما ان رأت الطارق حتى شهقت فى تعجب هاتفة:- نديم !؟..
ابتسم نديم في حرج هامسا:- معلش .. انا عارف انى جيت فجأة ومن غير ما اكلمك بس اعذريني .. اصل ..
هتفت زينب موبخة:- انت بتقول ايه !؟.. ده بيتك وبيت دلال .. انت تيجي ف اي وقت .. اتفضل ..
هتف مضطربا:- انا مش لوحدى .. انا ..
هتفت زينب وهى تتطلع الى حيث يشير وقد وقعت عيناها على ناهد:- طبعا عارفة ..مراتك ..اتفضلوا
دلف نديم وخلفه ناهد على استحياء ليهتف متعجبا:- انتِ عرفتي منين اني اتجوزت !؟.. ده حتى دلال متعرفش ..
اضطربت زينب ولم تعلم كيف توضح له الامر لكنه عاجلها بسؤال اخر اعتقدت انه أنقذها من اجابة الاول فإذا به يورطها اكثر:- هي دلال فين يا زينب !؟.. برن عليها تليفون البيت كتير مش بترد ..
هتفت في مراوغة مرحبة من جديد وهى تشير للصالون:- طب اتفضلوا يا نديم.. هو احنا هنقف نتكلم كده ع الباب !؟..
دخل نديم غرفة الصالون وتبعته ناهد ولم تنطق بحرف واحد.. جلسا فى صمت حتى هتف نديم متسائلا من جديد:- انتِ طبعا بتشوفي دلال يا زينب !؟..
اضطربت زينب و ساد الصمت .. ليهتف نديم في قلق:- ايه !؟.. هو دلال مرجعتش لسه من السفرية اللى راحتها دى ولا ايه !؟..
ساد الصمت من جديد و لم ترد زينب على اي من أسئلته ..
انتفض نديم هاتفا في حدة عندما طال صمتها وبدا واضحا انها تخفي شيئا ما:- في ايه يا زينب !؟.. ما تفهمينى !؟.. دلال جرالها حاجة!؟..
انتفضت زينب على رنين باب الشقة واتخذته ذريعة لتبتعد عن نديم لبرهة متعللة بالذهاب لرؤية الطارق ..
فتحت زينب الباب لتشهق فى تعجب للمرة الثانية في خلال النصف ساعة الماضية فيبدو ان اليوم يوم المفاجآت وهتفت فى دهشة:- حضرة الظابط !؟.. هو مش احنا ..
هتف شريف مقاطعا إياها في مرحه المعتاد:- والله لقيتك اتاخرتى .. قلت أجي أجيبك بنفسي عشان اضمن انك مسافرة فعلا .. صاحبتك محتاجاكِ ومعتقدش انك هتتأخري عليها ..
هتفت زينب في اضطراب:- ايوه .. ايوه اكيد .. مش ممكن أتأخر .. بس ..
كانت زينب تتطلع لباب حجرة الصالون الذي كان مفتوحا و اضطرابها تزداد وتيرته مع كل لحظة خوفا من ان يكشف شريف حقيقة وضع دلال فيسمع نديم و يحدث ما لا يحمد عقباه .. و لأن كل متوقع آت .. هتف شريف:- الدكتورة دلال لو تعرف بس انك رايحة لها .. هتخف من قبل ما توصلي .. دي ..
اندفع نديم من الصالون هاتفا فى ذعر:- دلال عيانة !؟.. مالها !؟.. و انتِ رايحة لها فين يا زينب !؟ حد يفهمني في ايه !؟..
صرخ بجملته الاخيرة فلجم كل من زينب وشريف عن النطق للحظات و اخيرا هتف شريف متعجبا:- طب ممكن قبل ما اجاوب .. اعرف حضرتك مين بالظبط !؟..
وضعت زينب كفها الذى يرتعش تخبئ وجهها فقد انكشف الكثير من المستور وخاصة عندما اندفعت ناهد من داخل الصالون على صراخ نديم مستفهمة ليتطلع اليها شريف مشدوها واخيرا زم ما بين حاجبيه في تعجب هاتفا:- آنسة ناهد النعمانى !؟.. حضرتك بتعملي ايه هنا !؟.
↚
دخلت زينب غرفة الصالون حاملة صينية عليها أكواب من الشاي و العصير .. وضعتها امام شريف و نديم وجلست جوار ناهد وامتدت يدها لكوب العصير تعطيها اياه فى محاولة لتهدئتها بعد نوبة البكاء التي انخرطت فيها ما ان ادركت حقيقة ما يجري ..
رفع نديم رأسه من بين كفيه التى كانت تستكين عليهما من ضجيج الافكار الذي يشملها وتطلع لزينب وشريف هاتفا:- انا رايح معاكم..
هتفت زينب في صدمة:- رايح معانا فين !؟..
هتف شريف بدوره:- بصراحة يا نديم بعد اللي عرفته ده معتقدش ان مرواحك النجع وخاصة ف الظروف دي هيكون قرار صحيح..
أنتفض نديم صارخا:- امال اسيب اختي بين أيدين البني ادم ده وأقف اتفرج !؟..
هتفت ناهد بحدة صارخة:- اخويا ميتجالش عليه كِده .. اخويا سيد الرچالة وعارف الأصول ومش ممكن يضر اختك مهما حصل ..
هتف نديم صارخا:- امال ايه اللى حصل لها !؟.. هو ده مش ضرر!؟ .. لما تقع من طولها و متبقاش بتتكلم م الصدمة .. كل ده مش ضرر .. عيزانى أسيبها هناك لحد ما يحصل لها ايه تانى !؟..
هتف شريف فى محاولة لتهدئة الوضع فقد شعر بالذنب لانه سبب إشعال الموقف بهذا الشكل من الاساس:- استهدى بالله كده يا نديم وفعلا والله اللي هقوله ده شهادة حق هتحاسب عليها قدام ربنا…عفيف بيه بيعامل الدكتورة دلال احسن معاملة وعمره ما ضرها .. وكل اللي ف البلد عارفين انها تحت حمايته وف ضيافته .. ده اولا .. ثانيا .. صدمة الدكتورة دلال كانت م الظروف اللي اتعرضت لها هناك لاختلاف الثقافة وانا شخصيا ف اول لقاء معاها حذرتها من الوضع..
بس هى مسمعتنيش للاسف .. دلوقتى ظهورك وهى ف الحالة دي ممكن يخلى حالتها اسوء خاصة انه اكيد هيحصل بينك وبين عفيف بيه ما لا يحمد عقباه .. عشان كده انا بطلب منك تحكم العقل شوية واستنى بس لما نسافر انا و الدكتورة زينب وتتحسن حالتها شوية واكيد لما الدكتورة زينب ترجع من عندها هتقولك على كل حاجة وخبر ظهورك اللي هتقولهولها الدكتورة زينب اكيد هيفرق ف تحسن حالها .. ساعتها يا سيدي ابقى اعمل اللى تشوف ان فيه الصالح للكل .. تمام ..
هتفت زينب مؤيدة:- تمام جدااا .. ده عين العقل يا حضرة الظابط ..
ابتسم شريف في سعادة منتشيا لاستحسانها رأيه وكاد ان يلق بأحد تعليقاته الا انه توقف في اللحظة الاخيرة مدركا حساسية الموقف ..
تنهد نديم ولم يعقب على رأي شريف وكذا ناهد التي ألتزمت الصمت وما جفت دموع عينيها ..
لتستطرد زينب موجهة حديثها لنديم في محاولة لأخذ وعد منه بعدم التهور في اتخاذ القرار:- نديم.. اللي عملته دلال كله كان عشان خاطر تحميك .. متجيش تضيع كل ده بقرار متهور .. ارجوك .. اصبر بس لحد ما ارجع من عندها واقولك الاخبار بنفسي وأوصلك رأيها هى كمان وبعدها قرر ..
تنهد نديم من جديد و همس في نبرة تحمل وجع وانكسارلايستهان بهما:- طيب ..
هتف شريف مبتهجا:- اهو ده الكلام ..
هتفت زينب فى ارتياح:- تمام .. بس انتوا قاعدين فين !؟.. أوعوا تفكروا تروحوا ناحية شقتكم يا نديم!؟..
هتف نديم محرجا:- والله فكرت يا زينب .. اصل مكنش في طريق تاني غير كده ..بس ربنا هدى تفكيري اني اجيلك ..
هتفت زينب معاتبة:- طبعا ده بيتك التاني … هو مش بيت اختك يبقى بيتك ولا ايه !؟..
هتف نديم ممتنا:- و الله ما عارف اقولك ايه يا زينب .. طبعا اختي و انت ودلال ف معزة واحدة وربنا يعلم ..
تنحنح شريف لا يعرف لما شعر بوخز من غيرة لهذه الحميمية و هتف متعجلا إياها:- طب مش ياللاه يا دكتورة .. خلينا نستعجل عشان منوصلش النجع بالليل متأخر..
هتفت زينب:- اكيد يا حضرة الظابط .. حالا .. و انت يا نديم .. باتوا مع ماما انت وناهد النهاردة .. اهوهبقى مطمنة عليها انها معاكم ومش هتبات لوحدها.. هى فى زيارة لواحدة قريبتنا ف اول الشارع وزمانها على وصول .. هبلغها الموضوع وانت عارف هى بتعزك انت ودلال قد ايه .. و باْذن الله من بكرة هخليها تجيب واحدة تنضف الشقة اللى جنبنا وتقعدوا فيها .. ده فعلا آمن مكان ليكم.. لان زي ما انت عارف البيت كله بتناعنا ولا حد هيطلع ولا ينزل الا بمعرفتنا ..
هتف نديم:- كتر خيرك يا زينب .. هنتعبكم معانا..
نهضت زينب متوجهة لخارج الصالون متعجلة و هتفت فى عتاب:- متقلش كده يا نديم .. و باذن الله خير ..
ساد الصمت عندما غادرت زينب الغرفة حتى هتف شريف موجها حديثه لنديم:- تخيل .. انا مفتكرتكش اول ما شفتك .. رغم اني شفتك مرتين كده ف النجع بس من بعيد .. كان وقت ما كنت بتنزل عشان مواعيد الري وكده ..
هز نديم رأسه مؤكدا:- و انا كمان مكنتش اعرف حضرتك قووي .. استنتج شريف هاتفا:- يمكن عشان كل واحد فينا لسه منقول للنجع جديد مبقلهوش كام شهر ومحصلش احتكاك اوتعامل..
اكد نديم:- اه فعلا .. عندك حق .. استطرد شريف مبتسما:- انا كنت بسمع عنك .. بس الشهادة لله سمعت كل خير .. انا مستعجب اني مخدتش بالي من تشابه الاسماء .. انا شكلي بقى وحش قوووي الصراحة .. زمانكم بتقولوا ده طلع ظابط ازاي ده !؟..
اكد نديم مبتسما:- لا العفو يا شريف بيه .. انت كان هايجي على بالك ازاي الحدوتة دي ..
اكد شريف:-الصراحة متجيش على بال حد .. وعفيف بيه بيعامل الدكتورة دلال معاملة محترمة جدااا ومديها صلاحيات كبيرة وعمر ما حد يشك ان فيه عداوة بينهم من اي نوع .. يعني .. بخصوص موضوعك انت والانسة .. اقصد مدام ناهد ..
اصطبغ وجه ناهد بلون احمر قان خجلا ولم يعقب نديم الا ان شريف استطرد مؤكدا:- بس الشهادة لله انت والدكتورة دلال ناس محترمة واخلاقكم عالية ..
هتف نديم:- ربنا يحفظك يا حضرة الظابط ..
هتفت زينب اخيرا قاطعة استرسال حديثهما:- ياللاه يا حضرة الظابط .. مش بتقول اتأخرنا ..!؟..
انتفض شريف مندفعا خارج الصالون لاحقا إياها ليكون اخر من يصدر صوتا هو باب الشقة بعد ان اُغلق خلفهما راحلين تاركي نديم و ناهد يغمرها صمت صاخب ..
جلس شريف بجوار زينب داخل عربة القطار التى تقلهما للنجع .. ساد الصمت بينهما لفترة لا بأس بها حتى قطعه شريف هامسا:- عجيب قوي اللي بيحصل ده !؟..
همست زينب بدورها دون ان تلتفت اليه متطلعة من النافذة على المشاهد التى تتوالى امام ناظريها والقطار يجري فى اتجاه وجهتهما المنشودة:- ايوه فعلا عجيب ..
همس مازحا:- اول مرة توافقيني على حاجة ..
تنبهت وتطلعت اليه ولم تعقب ليستطرد هو مؤكدا:- لا الصراحة دي تاني مرة .. المرة الاولى لما وافقتي على كلامي وانا بقنع نديم بوجهة نظري ..
همست بتهور:- واضح انك مركز يا حضرة الظابط..
اكد مازحا:- ده انا مركز ع الاخر .. مركز تركيز لو كنت ركزت نصه ف الثانوية العامة كنت طلعت م الأوائل…
كادت تنفجر ضاحكة الا انها كالعادة امسكت ضحكاتها وتوجهت بناظريها باتجاه النافذة من جديد ليهتف هو فى محاولة منه لتبادل أطراف الحديث معها:- بس بجد .. سبحان الله .. بقى نديم يجي م القاهرة يشتغل ف النجع عشان يشوف ناهد اخت عفيف ويحبها و يهرب معاها ويفضلوا كده هربانين من اخوها وخايفين منه وهو ياخد اخته رهن عنده عشان يخليه يظهر وينتقم منهم .. دى حكاية ولا ف الأفلام ..
هتفت زينب:- انا كنت زيك كده اول ما جت دلال وحكت لي .. و حاولت أمنعها انها تروح مع عفيف ده .. بس دلال تعمل اي حاجة ف الدنيا عشان خاطر نديم وكانت شايفة ان وجودها هناك هيخليها قريبة وعارفة ايه اللى بيحصل و اذا كانوا لقيوا اخوها ومراته ولا لأ وساعتها ف اعتقادها كان ممكن تتصرف عشان تخفف من عقاب عفيف ليهم ..
اكد شريف متنهدا:- فعلا الحب بيعمل المعجزات..
اكدت زينب هامسة:- ايوه .. حب دلال لاخوها نديم ممكن يخليها ترمى نفسها ف النار مش مع حد زي عفيف ده وبس ..
هتف شريف متعجبا:- دلال ونديم ايه ..!؟.. انا بتكلم على حب نديم لناهد .. معقول حبها للدرجة اللي خلته يغامر بالشكل ده !؟..
اكدت زينب في تعقل:- انا على الرغم من معزتي لنديم الا انى مش شايفة ان ده حب ده انتحار .. ده جنان رسمي ..
اكد شريف حالما:- وهو الحب ايه الا جنان .. رسمي بقى ولا نظمي ولا فهمي .. المهم انك تتجنن .. احلى حاجة ف الحب جنانه ..
سخرت لتداري وجيب قلبها الذى تضاعف مع كلماته التي تصف الحب بهذا الشكل هاتفة:- واضح انك خبير يا فندم ..
انتفض مستديرا تجاهها يقسم فى صدق:- و الله ما حصل .. اقصد انه حصل .. اقصد انه لسه حاصل..
ثم همس في غيظ:- يا دي النيلة .. اقولها ايه دي..
كانت هى تداري ضحكاتها دافنة وجهها في نافذة القطار تتظاهر باللامبالاة وهى تكاد تموت لكتمانها قهقهاتها على اضطرابه بهذا الشكل واخيرا هتفت فى سخرية متطلعة اليه:- صادق .. صادق ..
زم هو ما بين حاجبيه متصنعا الغضب لتبتسم هى رغما عنها و تعاود النظر من النافذة تحاول استيضاح بعض من معالم الطريق الذي بدأت العتمة في اخفائها شيئا فشيئا ..
بعد رحيل زينب و شريف ظلا على حالهما جالسين بغرفة الصالون لا ينظر احدهما للأخر .. كان كلاهما يتجنب النظر لصاحبه حرجا ووجعا حتى دخلت عليهما ماجدة ام زينب هاتفة:- ايه يا ولاد هو انتوا هتفضلوا قاعدين عندكم كده !؟.. و توجهت بحديثها لنديم معاتبة:- ايه يا نديم !؟.. طب ناهد ومتعرفناش ولسه متعودتش علينا .. انت بقى ايه حجتك ف القاعدة دي!؟..هو ده مش بيتك ولا ايه يا حبيبي !؟..
انتفض نديم مؤكدا:- اه طبعا يا طنط ..بيتي طبعا وربنا يعلم انا بعتبرك زي امي الله يرحمها ..
هتفت ماجدة فى اسف:- الله يرحمها كانت ونعم الصحبة ..
واستطردت بعد لحظات صمت:- ياللاه قوم انت ومراتك انا جهزت لكم الأوضة جوه .. ادخلوا ارتاحوا لحد ما اجهز لكم العشا ..
انتفضت ناهد عند ذكر الغرفة هاتفة في اضطراب:- انا چاية اساعدك يا طنط .. ممكن !؟..
اكدت ماجدة:- اه طبعا يا حبيبتي .. بس انا كنت عيزاكِ تستريحيلك شوية ..
اكدت ناهد فى محبة:- انا مش تعبانة والله .. اسمحيلى اساعدك..
هزت ماجدة رأسها ايجابا وسارت امامهما لتقف عند باب احدى الحجرات مشيرة:- اوضتكم اهى يا نديم .. خش يا حبيبي ارتاح .. و لما نخلص العشا هناديك ..
هتف نديم:- تسلمي يا طنط .. هنتعبك ..
هتفت ماجدة معاتبة:- تعب ايه !؟.. اوعى تقول كده لازعل بجد ..
ابتسم نديم ودلف للغرفة وهو لايزل يتحاشى النظرالى تلك التي تتجاهله بدورها والتي تبعت ماجدة للمطبخ دون ان تلق بنظرة واحدة تجاهه ..
دخل الى الغرفة يغلي غضبا من رد فعلها .. ماذا كانت تتوقع منه بعد ان علم ما فعله اخوها بأخته التي اضطرت ان تضع نفسها في مهب الريح لانقاذه وهى لا ناقة لها ولا جمل في الامر برمته ..
تمدد على الفراش متنهدا في وجع يشعر ان كل عضلة من عضلات جسده متشنجة تئن في ألم صامت يستشعره ينخر روحه ..
اما ناهد فقد وقفت بذهن غائب تساعد ماجدة التي اخذت فى تبادل الحديث معها على أمل اخراجها من عزلتها التى استشعرتها كأم فحاولت ولكنها لم تفلح فقد كانت اجابات ناهد كلها مقتضبة توحي بحزن دفين يشملها كليا .. تم إعداد العشاء ووضع أطباقه على المائدة فهتفت ماجدة:- روحي بقى يا ناهد نادي جوزك ..
كانت تحاول ان تتحاشى التعامل معه لكن الامور تضطرها دوما لفعل أشياء ليست من اختيارها ..
اومأت في هدوء وتوجهت نحو الغرفة .. فكرت في طرق الباب لكنها تراجعت فماذا ستظن ماجدة اذا ما فعلت .. دلفت للحجرة في سرعة تغض البصر قدر إمكانها و هتفت:- العشا چاهز ..
لم تتلق ردا فرفعت رأسها في حذّر متطلعة للغرفة بنظرة سريعة حتى وقع ناظرها على الفراش الذي يتمدد عليه بملابسه التي لم يخلعها حتى موليا ظهره لها .. توجهت قبالته لتكتشف انه قد استغرق في نوم عميق وقد ارتخت ملامحه المتشنجة منذ علم بموضوع اخته .. هى لا تلمه .. هى تلوم الظروف التي وضعتهما وجها لوجه مع تحدي من الواضح انه اكبر من إمكاناتهما .. تنهدت في يأس وهمست في هدوء:- نديم .. نديم ..
لم يحرك ساكنا فيبدو ان الإنهاك بلغ منه مبلغا كبيرا جعله يغرق في النوم بهذا العمق ..
تحركت خارج الغرفة ومنه لطاولة العشاء هاتفة لماجدة:- الظاهر نديم م التعب نام ..
هتفت ماجدة في إشفاق:- يا حبيبي .. نوم العافية.. خلاص لما يقوم يبقى ياكل على مهله .. تعالي انت بقى كليلك لقمة ونسيني ..
جلست ناهد تتناول عشاءها مع ماجدة .. كان بودها ان تعتذر فهى بدورها لم تكن تشعر برغبة في تناول اي طعام لكنها لم تستطع ان تترك ماجدة تتناول عشاءها وحيدة فجلست على مضض وما ان رأت انه من المناسب الاستئذان الان حتى فعلت وأسرعت الي غرفتهما.. دلفت للغرفة ليطالعها جسده الذي لا يزل على حاله مسجيا بطول الفراش بكامل ملابسه .. تطلعت حولها لا تعلم اين يمكنها النوم ولا يوجد حتى أريكة صغيرة يمكن ان تتمدد عليها حتى الصباح ..
شعرت بالرغبة في البكاء من جديد فاعصابها متوترة وتحس انها على حافة الانهيار فكل ما حدث في الفترة السابقة ظهر فجأة مطلا برأسه كأحد الوحوش المرعبة التي تثير مخاوفها وذعرها مما هو آت..
جلست على المقعد الوحيد الموجود بالغرفة و الذي كان مواجها لموضع نومه وتطلعت نحوه تتساءل كيف لها ان تحبه !؟.. كيف ومتى حدث هذا !؟.. انه زوجها وليس كذلك .. وهو حبيبها وليس من المفترض عليها ذلك .. هما هنا مجتمعان لكنهما ابعد ما يكونا عن بعضهما منذ ان رحلا سويا من نجع النعماني ..
سالت دمعاتها وهتفت لنفسها في ثورة:- فوجي يا ناهد .. فوجي .. محدش عارف اخرت اللى بيحصل ده .. وانتِ تجوليلى حب ومعرفش ايه .. باينك اتچنيتي يا بت النعماني..
هزت رأسها مؤيدة لحديث نفسها و أشاحت بناظريها بعيدا عن منبع وجعها ومصدر شقاء قلبها القابع هناك على الفراش وحيدا دونها ..
شعر بسعادة غامرة ربما تكون المرة الأولي بحياته التي يستشعر بها هذا الكم من السعادة كل هذه الفترة .. فترة بقاء رأسها الصغير المسند على كتفه بهذه الوداعة ..
غلبها النعاس فقد فاتهما القطار الذي كان من المفترض ان يستقلاه بسبب زيادة نديم وناهد المفاجئة لها.. فأخذا هذا القطار الذي لن يصل بهما الا فى الصباح الباكر .. كان يبدو انها مرهقة بشكل كبير..
فقد غفت رغما عنها وما ان اخذتها سِنة من نوم حتى مال رأسها الصغير الصلب تجاه كتفه في حميمية أسعدته ولم يتحرك قيد انملة خوفا من إيقاظها .. ورغم عضلات كتفيه التي تيبست الا انه كان منتشيا لا لشئ الا لاعتقاده ان شعورها بالامان هو الذي دفعها لتغرق في النوم وهي الى جواره .
حبس انفاسه الان وهو يسمع تنهداتها الرخيمة وبدأت فى تعديل موضع رأسها فى محاولة لإراحة رقبتها التي على ما يبدو بدأت تؤلمها فهو خبير بساعات السفر الطويلة في القطار ويعلم ما تفعل بفقرات الرقبة والظهر ..
تغيير موضع رأسها بهذا الشكل جعل ملامح وجهها الدقيق تحت مجهرعينيه الشغوفة بالمعرفة .. تطلع الى تفاصيل ذاك الوجه المليح الدقيق التفاصيل واستمتع في نشوة بالترحال عبر كل تفصيلة حتى توقفت نظراته على بوابات الثغر الخطرة فتنهد رغما عنه مضطربا مما دفعها لتنتفض مستيقظة يصحبها الذهول لا تدرك اين هى بالضبط .. تصنع النعاس في سرعة ومهارة حتى لا يشعرها بالحرج وخاصة عندما سمع شهقتها المكتومة حين ادركت ان رأسها قد وجد ملجأ له على كتفه .. و سمعها كذلك تهمس فى اطمئنان:- الحمد لله .. طلع نايم ..
كاد ان يبتسم رغما عنه وفكر ان يشاكسها بالرد عليها مؤكدا على استيقاظه التام وانه ظل حارس امين على اميرته الناعسة طوال فترة سباتها الا انه اثر الصمت و التظاهر بالنوم فعلا ..
كان يتطلع اليها الان مثل ذئاب الجبل بنصف عين ليراها تعدل من هندام حجابها امام مرآة صغيرة أخرجتها من حقيبتها .. ابتسم وما عاد قادرًا علي التظاهر بالنوم وهو فى حضرة هذا الجمال ..
تنحنح هامسا مدعيا استيقاظه لتوه:- صباح الخير يا دكتورة ..
همست وهي تحاول ان لا تدع عينيها تسقط على كتفه التى كانت ملاذها منذ دقائق:- صباح النور ..
قرر مشاكستها كالعادة فهمس بلهجة متسائلة تحمل بعض من خبث:- يا ترى نمتي كويس !؟.. ولا الخدمة معجبتش حضرتك ..
اكدت مضطربة:- اه .. اه الحمد لله .. تمام ..
مر العامل المخصص لجلب المشروبات والأطعمة لمسافري القطار ليسألها شريف في أريحية:- نفطر بقى .. لحسن الواحد ميت م الجوع ..
ابتسمت هامسة:- بالهنا والشفا .. انا مبفطرش ..
انتفض معاتبا:- مبتفطريش ايه !؟.. ده غلط على صحتك .. لااا .. لازم تفطري .. وتفطري كويس كمان .
وضعت كفها على فمها تمنع قهقة عالية كانت فى سبيلها للانطلاق بحرية واخيرا هتفت:- مالك قلبت على ماما كده ليه يا سيادة النقيب!؟.. هي عشان وصتك عليا يبقى تحل محلها ..!؟..
قهقه في أريحية مؤكدا:- طبعااااا .. انا بنفذ الأوامر كما انزلت .. انتِ عيزاها تغضب عليا وتزرفني دعوتين يجبوني الارض ... حرام عليكِ يا دكتورة .. ده احنا بنتشعلق ف رضا ربنا ..
كتمت قهقهاتها كالعادة وخاصة انها محاطة بالعديد من البشر منهم من لم يستيقظ بعد داخل القطار في هذه الساعة المبكرة صباحا ..
هتف شريف ينادي العامل طالبا افطار لشخصين وكوبين من الشاي لتعاجله زينب مؤكدة:- خليه نسكافيه عشان بجد عايزة افووق ..
اكد شريف للعامل:- خليهم اتنين نسكافيه ..
مد شريف كفه اليها بكوبها الذي تناولته وبدأت فى ارتشافه ليمتعض هو هامسا متقمصا دور امها:- الفطار الاول يا بنتي.. اقول للعريس اللى هايجي يتجوزك ايه!؟..بتشرب النسكافيه على معدة فاضية !.. يا دى الفضيحة ام جلاجل يا دى الجرسة ام حناجل ..
كادت ان تغص برشفة النسكافيه التي ابتلعتها في صعوبة ووضعت الكوب جانبا وبدأت في السعال و اخيرا همست و على شفتيها ابتسامة:- لاااا .. انت كفاياك كده دور ماما ده .. و الله لو امي اصلا شافتك و انت بتقلدها كده والله ما تدخلك بيتنا تاني ..
هتف مذعورا:- لا خلاص .. كله الا كده .. ده انا عايش على امل اني ادخل بيتكم .. تاني و تالت و رابع كمان ..
اضطربت وغابت ابتسامتها و أزاحت بناظريها الى النافذة من جديد في محاولة لتجنب نظراته التي تسرق راحة بالها وتدفع بها الي دنيا جديدة ما وطأت عتباتها كما كانت تعتقد يوما ..
طرق باب حجرته التي كانت لاتزل تبيت بها بصحبة الخالة وسيلة .. ما أراد لها العودة لحجرتها بالمندرة حتى لا تستشعر الوحشة هناك وتكون قريبة من حجرة ناهد التي يحتلها اذا ما جد جديد قد يطرأ على حالتها التي لاتزل على وضعها من الشرود والتيه ..
انفرج الباب عن محيا الخالة وسيلة التي كانت تتثاءب معلنة رغبتها في النوم هامسة بنعاس:- خير يا عفيف بيه !؟..
همس عفيف محرجا وهو يغض الطرف عن ذاك الجسد المسجي هناك بغرفته محتلا فراشه:- معلش يا خالة وسيلة جلجتك .. بس في اوراج مهمة ف خزنة الدولاب .. كنت فاكر اني حاططهم ف المكتب طلعوا هنا وانا محتاچهم ضروري عشان هطلع بيهم مشوار من بعد الفچر ..
مد كفه بمفاتيح الخزينة مخرجا إياها من قلب جيب جلبابه مستطردا:- خدي افتحيها وهاتي الظ..
قاطعته الخالة وسيلة هاتفة:- واني ايه دراني بالحاچات دي يا عفيف بيه !؟.. ادخل چيب حاچتك يا ولدي..
هتف متعجبا باضطراب:- ادخل!؟..ادخل فين !؟..
هتفت وسيلة ببساطة:- ادخل اوضتك چيب حاچتك .. و ان كان ع الداكتورة .. أهي نايمة مش دريانة بحاچة ياولداه بعد الأدوية اللي الدكاترة كتبينهالها ..و أديني واچفة اهااا لحد ما تخلص امورك..
تنحنح عفيف وكأن دلال مستيقظة و تسمعه يستأذن للدخول .. فعلها بعفوية وانطلق في اتجاه خزانة ملابسه فتح ضلفتيها وانحني يعبث بأزرار خزينة الاوراق بكف مرتعش حتى فتحها وجذب منها ملفه المطلوب وما ان هم بالاندفاع في طريقه تاركا الغرفة حتى سمع همهماتها فتوقف متسمرا موضعه.. كانت تهزي بأسم اخيها الغائب .. تردده ببطء أوجعه ..ورغم ذلك جاهد حتى لا يرفع ناظريه اليها ..
كان مطرقا لا يعرف ما دهاه ولما لا يتحرك راحلا .. تطلع لموضع الخالة وسيلة فوجدها قد غادرت الغرفة فتذكر انه سمع صوت مناع بالأسفل يناديها ويبدو انها ذهبت لتلبية مطلبه .. ما ان وع هذه الحقيقة حتى اضطربت دواخله وهم بالاندفاع خارج الغرفة ... تقدم خطوتين حتى اصبح على أعتابها للخارج لتتسمر قدماه من جديد ما ان تناهى لمسامعه همسها باسمه .. كان اسمه مجردا دون ألقاب كانت تحجب عنه روعته منغما بهذا الشكل من بين شفتيها..
اهتزت اركان روحه وتقوضت دعائم ثباته وما عاد قادرًا على البقاء لحظة وما كان لديه الهمة الكافية ليندفع مبتعدا الا ان وصول الخالة وسيلة جعله يحسم موقفه وهى تسأله:- خدت اوراجك يا ولدي !؟..
هز رأسه في إيجاب يسربله التيه و يشمله الاضطراب وهرب من امامها هابطا الدرج في عجالة وقد اصم أذناه ندائها الاخير باسمه عن ادراك العالم من حوله ..ونقله لعالم اخر..
وصلا اخيرا لقنا وخرجا من محطة القطار ليكون باستقبالهما احد العساكر بالعربة الميري ما ان لمح شريف قادما حتى انتفض فى اتجاهه مؤديا التحية العسكرية مشيرا لموضع العربة ..
امره شريف بالبقاء بالخلف فى صندوق السيارة مع حقائبهما بينما اتخذ هو موضعه امام عجلة القيادة وجلست هى جواره ..
همس مازحا محاولا تقليد اللهجة الصعيدية:- يا مرحب بكِ ف الصَعيد يا داكتورة.. الصَعيد نور ..
ابتسمت هاتفة:- منور بناسه ..
اتخذا وجهتهما على الطريق فى اتجاه نجع النعماني وقد شملهما الصمت لبعض الوقت الا انه على غير العادة كانت هي المبادرة بالسؤال هاتفة:- هو صحيح الكلام اللي انت قولته عن اللي اسمه عفيف ده يا سيادة النقيب !؟.. ولا كان مجرد كلام بتهدي به نديم !؟.
اكد شريف في ثقة:- صحيح يا دكتورة .. هو فعلا بيعامل الدكتورة دلال معاملة خاصة وبجد مهتم بيها قووى لدرجة اني شكيت انه ..
صمته عند هذه النقطة جعلها تنتبه موجهة نظراتها اليه متسائلة:- انه ايه !؟..
تنهد قليلا ثم هتف فى جدية غير معتادة منه على مسامعها:- بصي .. انا مش عايز أديكِ احكام مسبقة تبني عليها قرارات .. شوفي انتِ بنفسك واحكمي ..
نظرت اليه متطلعة فى اهتمام فهذه من المرات النادرة التي يتحدث فيها اليها بهذه الجدية .. ساد الصمت من جديد حتى وصلا لمشارف النجع فهتف مستعيدا روحه المرحة:- استعدي يا دكتورة .. احنا داخلين ع النجع اهو ..
تنبهت وشعرت بالاضطراب لكنها داخليا عزمت على ان لا تعود الا برفقة صديقتها مهما حدث .. فلابد لأحد ما من تخليصها من بين يدىّ ذاك العفيف وخاصة بعد معرفة مكان نديم ووجوده في امان ببيتها…
انتفضت على صوت زمور العربة الذي اطلقه شريف ما ان وصلا لبوابة السراىّ الحديدية ..تطلع مناع للعربة الميري في تعجب ولكنه لم يجرؤ على فتح ضلفتيّ البوابة الا عندما امره عفيف الذي ظهر على الدرج مندفعا خارج البيت الكبير..
انفرجت البوابة ليدخل شريف صافا العربة جانبا ليترجل منها ويتجه الي باب زينب ليفتحه لتترجل بدورها متطلعة في استطلاع للوضع حولها حتى وقع ناظرها على عفيف الذي كان يتطلع اليها في تعجب بدوره غير مدرك سبب قدم شريف وبصحبته هذه المرأة الا انه هتف بكل ذوق:- حمدالله بالسلامة يا شريف بيه .. و اهلًا بضيوفك .. شرفتونا..
هتف شريف كعادته مازحا:- دي مش ضيفتي يا عفيف بيه .. دي ضيفة سعادتك ..
تطلع اليه عفيف في تعجب لكنه رغم ذلك هتف في لهجة واثقة:- على عينا وراسنا اى غريب يدخل النعمانية .. بيت النعماني الكَبير يبجى بيته يا شريف بيه ..
ابتسم شريف هاتفا:- قد القول يا عفيف بيه .. و انا كنت وعدتك اجيب اللي يخرج الدكتورة دلال من تعبها .. و أديني وفيت بالوعد ..
تطلع اليه عفيف في اهتمام بالغ منتظرا ان يكمل شريف حديثه و الذي استطرد هاتفا:- الدكتورة زينب تبقى صاحبة الدكتورة دلال..
هتفت دلال في صرامة:- انا مش بس صاحبتها انا اختها يا عفيف بيه…
تنحنح عفيف هاتفا في هدوء:- الداكتورة دلال وكل اللي يخصها على روسنا من فوج .. شرفتينا يا داكتورة زينب ..
هتفت زينب بنفس اللهجة الحازمة:- متشكرة .. بس فين دلال .. انا عايزة أشوفها ..
هز عفيف رأسه هاتفا:- معلوم يا داكتورة .. اتفضلي..
واشار بكفه لأحد الاتجاهات صوب الحديقة الخلفية فاتجهت اليه زينب مندفعة باحثة عن صديقة عمرها بينما ظل عفيف يقف متطلعا الى شريف الذي امر العسكري بوضع حقائب الدكتورة زينب جانبا ..
هتف عفيف في غيرة يشوبها شئ من فضول:- انت تعرف صحاب الداكتورة دلال من فين يا حضرة الظابط !؟..
هتف شريف مبتسما:- ما ده الجميل اللي عملته فيا الدكتورة و بحاول أرده يا عفيف بيه ..
هتف عفيف متعجبا:- كيف يعني!؟..
هتف شريف:- الدكتورة زينب هي الدكتورة اللي عالجت امي ف مرضها الاخير والدكتورة دلال كانت هي السبب ف المعرفة لما رشحتها لي عشان تعالج الوالدة و من هنا جت الفكرة يا عفيف بيه..
هتف عفيف:- تمام .. تمام ..
وصلت زينب لموضع جلوس دلال لتجدها تجلس ساهمة متطلعة للأفق في تيه اقتربت منها في سعادة هاتفة باسمها:- دلال .. دلال ..
لم تنتبه دلال لها بل ظلت على شرودها مما صدم زينب التي كانت تتوقع انها ستقفز فرحا ما ان ترها.. دمعت عيناها وهي تتطلع الي صديقتها في غضب وقهر واندفعت باتجاه موضع شريف وعفيف وما ان وصلت اليهما حتى صرخت بوجع في اتجاه عفيف:- انت عملت فيها ايه !؟.. دلال اتبدلت .. مش هى دي دلال اللي سبتها تروح معاك من يجي شهر .. و يا ريتني ما سبتها .. انت عملت فيها ايه!؟..
تقبل عفيف انفعالها في صمت مطبق بينما هتف شريف مهدئا:- اهدي يا دكتورة .. اهدي .. احنا جبناكِ هنا عشان تتحسن حالتها ف وجودك .. مش حالتك انتِ اللي تتأخر بسبب وضعها ..
تطلعت زينب في غيظ لعفيف ولم تنبس بحرف واحد واندفعت عائدة لموضع دلال بينما هتف شريف معتذرا بالنيابة عن زينب:- معلش يا عفيف بيه .. هي زعلانة على صاحبتها .. انت اكيد مقدر الموقف..
هز عفيف رأسه في تفهم واخيرا هتف بصوت متحشرج وهو يندفع خارج البوابة مغادرا البيت الكبير:- البيت بيتك يا سيادة النقيب .. معلش عندي مشاغل ولازما امشي دلوجت ..
هز شريف رأسه متفهما بدوره و هو يتجه الى عربته الميري هاتفا:- طبعا يا عفيف بيه اتفضل شوف مشاغلك .. وانا كمان هروح اشوف مشاغلي .. سلام عليكم ..
رحل شريف بعربته الميري وتبعه عفيف خارجا لكنه قبل ان يتجاوز البوابة توقف للحظة متطلعا حيث تقبع مصدر سهاده ووجيعته .. ألقي الي البعد نظرات تشي بالكثير ثم رحل في عجالة ..
↚
تطلعت زينب الى دلال في حزن و هي تراها على هذا الحال الذي ما توقعت ان تراها عليه يوما .. مسدت على ظهرها في محبة هامسة لها:- دلال ..انا زينب يا دلال .. دلال انا هنا ..
تحشرج صوتها واختنق بالعبرات وما عادت قادرة على النطق بحرف.. امسكت كف صديقتها البارد وضمته بين كفيها وهمست ما ان استطاعت النطق من جديد:- دلال .. انا عارفة انك سمعاني .. و عارفة انك مرتاحة ف الوضع اللي انتِ فيه ده .. لكن عايزة اقولك حاجة مهمة .. اكيد هتخليكي تغيري رأيك وترجعي من حالتك دي لدلال اللي انا اعرفها ..
ساد الصمت قليلا وزينب تتطلع حولها في ترقب قبل ان تقترب من دلال هامسة:- نديم و ناهد عندي…
انتظرت زينب اي انفعال يذكر من قبلها ولكن لم يحدث فاستطردت من جديد:- والله العظيم نديم وناهد موجودين عندي فبيتي .. انا مش هقول كده عشان أخرجك من اللي انتِ فيه .. اقسم بالله دي الحقيقة حتى اسألي شريف .. شافهم بنفسه..
لم تحرك دلال ساكنا مما دفع زينب للنهوض غير قادرة على مجابهة ذاك الوضع الذي تري فيه صديقتها وقد شعرت ان الخبر الوحيد الذي كانت تعقد عليه امل كبير في زحزحة هذا الصمت المسيطر عليها كليا قد فقد تأثيره المتوقع .. دمعت عيناها بعد ان شعرت بالخيبة وهمت بالاندفاع مبتعدة الا ان صوت متحشرج قادم من اعماق سحيقة همس في تردد:- احلفي انه بخير ..
عادت زينب مسرعة تجسو بالقرب من ركبتىّ دلال هاتفة في حماسة:- ورحمة ابويا اللي انتِ عارفة و متأكدة غلاوته واني عمري ما بحلف بيها الا ف الشديد القوي نديم بخير .. وجالي امبارح بعد ما أتنقل ف كذا مكان هو وناهد .. وطبعا حذرته انه يرجع شقتكم وسيبتهم بايتين مع ماما وهديله الشقة المقفولة عندنا يقعدوا فيها لحد ما ربنا يسهل ..
تطلعت اليها دلال بنظرات جوفاء هامسة بنفس النبرة المتحشرجة:- يعني هو بخير !؟..
هتفت زينب مؤكدة:- اقسم بالله بخير وزي الفل..
ساد الصمت للحظات قطعها انفجاردلال باكية ما ان اجابتها زينب .. بكاء دامي وكأنما كان هناك سدا منيعا يقف امام عبراتها والان فقط انهار وانهارت معه لامبالاتها.. ضمتها زينب في تعاطف ممزوج بفرحة .. فها قد عادت دلال .. كانت تعلم ان معرفتها بأي اخبار عن نديم من شأنها إعادتها لدلال التي تعرفها والتي تحقق المستحيل من اجل اخيها ..
رفعت دلال رأسها من بين احضان زينب متسائلة من جديد في لوعة:- يعني بجد انتِ شفتيه يا زينب .. و هو بخير !؟.. صحته كويسة يعني!؟.. اصله وحشني قووي ..
دمعت عينا زينب وهتفت تحاول السيطرة على عبراتها وتصنعت المزاح هاتفة:- و الله زي القرد وكان عايز يجي معانا كمان ..
انتفضت دلال موضعها هاتفة فى ذعر:- لااا .. يجي فين !؟.. هو انا جيت هنا عشان ابقى انا الطعم اللي يصطادوه بيه !؟.. لااا .. أوعي تطاوعيه يا زينب عشان خاطري ..
هتف زينب تطمئنها:- وهو انا عبيطة أخليه يبوظ الدنيا .. وعلى فكرة انتِ كمان وحشاه قووي .. و عشان تصدقي هخليه يبعت لك جواب المرة الجاية مع حضرة الظابط..
هتفت دلال متسائلة:- هو سيادة النقيب عرف الموضوع ولا ايه!؟…
هزت زينب رأسها ايجابا وقصت عليها ما حدث من لقاء شريف بنديم ورؤيته لناهد برفقته مما دفعهم لإخباره الحقيقة كاملة ..
هتفت دلال في هدوء:- حضرة الظابط راجل محترم و ..
هتفت زينب مقاطعة:- ومجنون و عنده كام ربع ضارب ف نفوخه ..
انفجرت دلال ضاحكة على صديقتها وتعليقاتها على شريف و ما ان همت بالدفاع عنه حتى هتف صوت عميق النبرات من خلفهما جذبته ضحكاتها التي اشتاقها كثيرا حد ارضا غاب عنها موسم المطر لعصور مما جعلها تنتفض ما ان طل عليهما بقامته السامقة مستحسنا:- ما شاء الله .. سرك باتع يا داكتورة زينب .. كنتِ فين من زمن!؟..
وتطلع الي دلال محاولا غض بصره هاتفا:- حمدا لله ع السلامة يا داكتورة ..
هزت دلال رأسها فما كان لها القدرة على التطلع اليه اوالحديث في حضرته .. قاطعت زينب خواطرها هاتفة لعفيف في حزم:- طب يا عفيف بيه احنا متشكرين لك حسن الضيافة بس انا بقول ارجع و اخد دلال معايا ..
انتفض عفيف داخليا لمجرد ذكر رحيلها بعيدا لكنه ظل على ثباته الظاهري ولم يعقب بحرف واحد متطلعا الى دلال منتظرا منها الموافقة على ما تقترحه صديقتها او الرفض .. فهمست دلال اخيرا بعد فترة من الصمت:- لااا .. مش هرجع يا زينب.. انا هقعد هنا ..
لا يعرف ما دهاه لحظة ان نطقت بكلماتها تلك فكأنما نطقت ببراءته من حكم جائر بالفراق .. ابتسم رغما عنه واستأذن في عجالة مندفعا يبتعد كى لا يلحظ احدهم سعادته الطاغية تلك والتي على غير العادة لم يستطع مداراتها ما ان أعلنت قرارها بالبقاء .
اما زينب فهتفت فى دلال بحنق:- تاااني .. هتقعدي هنا تاااني يا دلال .. مش كفاية اللي حصل لك !؟.. و كمان أدينا اطمنا على نديم .. ارجعي بقى وارتاحي شوية ..
هتفت دلال مفسرة سبب رغبتها في البقاء:- مينفعش يا زينب .. ده عشان انا اطمنت على نديم بالذات مينفعش أرجع .. لأن لو رجعت عفيف هايبعت حد يبقى ورايا على طوول وده هيخلي احتمالية اكتشاف عفيف لمكان نديم و ناهد كبيرة.. خليني هنا .. خليه فاكر ان نديم هيرجع على هنا اول ما يعرف بوجودي .. خليه لسه معتقد اني لسه الطعم اللي هيصطاد بيه نديم و اخته ..
وتطلعت دلال لزينب هاتفة:- بمناسبة اخته .. شفتيها طبعا يا زينب .. ايه رأيك فيها !؟..
قهقهت زينب هاتفة:- ايه يا دولي احنا هنبدأ شغل الحموات ولا ايه !؟
ابتسمت دلال ولم تعقب لتستطرد زينب مؤكدة:- اطمنى يا ستي الاستاذ نديم وقع واقف البنت زي القمر ..
هتفت دلال:- انا مش بسأل على جمالها يا زينب .. انا ..
قاطعتها زينب مؤكدة:- أطمني .. شكلها بنت حلال وطيبة والله .. دي قضت القاعدة كلها عياط اول ما عرفت ان عفيف جابك على هنا .. شكلها حاسس بالذنب قووي ..
همست دلال:- غلطتهم كبيرة قوي يا زينب .. ازاي نديم يعمل كده!؟.. وازاي طاوعها ولا هى طاوعته ف اللي عملوه ده !؟.. مية سؤال بيدورا ف دماغي ومفيش اجابة واحدة تريحني ..
ما ان همت زينب بالإجابة عليها حتى سمعا جلبة قادمة من ناحية بوابة البيت الكبير .. تطلعا من موضعهما لما يحدث فإذا به عفيف قد دخل البيت وخلفه مناع ساحبا ورائه بهيمة عفية امره عفيف هاتفا فى سعادة:- ادبح يا مناع وفرج ع الغلابة كلهم .. ومدخلش من الدبيحة حاچة للبيت .. كله لله ..
هتف مناع مجيبا:- أوامرك يا عفيف بيه ..
وسحب البهيمة حتى أطراف الحديقة باتجاه الذريبة لينفذ امر سيده بينما اتجه عفيف صوب دلال وزينب وما ان اصبح قبالتهما حتى هتف في سعادة:- دي حلاوة جيامك بالسلامة يا داكتورة ..
همست دلال فى امتنان:- متشكرة يا عفيف بيه .. لولا انها لله كنت قلت لك ملوش لزوم .. بس اهو ربنا خلانا سبب لفرحة الغلابة ..
ابتسم عفيف هاتفا:- ربنا يچعلك دايما سبب للفرحة يا داكتورة ..
شعر بالحرج مع كلماته العفوية تلك والتي خرجت بتلقائية شديدة أربكته هو شخصيا مما دفعه ليتنحنح مستأذنا:- عن اذنكم لما اشوف زحمة الناس اللي ع الباب ..
صاحبته نظرات دلال وهو يستدير راحلا وكذا نظرات زينب التي تطلعت اليه في تعجب وتحولت الي صديقتها ليزداد تعجبها أضعافا وقد شعرت ان شيئا ما يدور هاهنا .. شئ رغم انه خفي عن الاعين لكنه اكثر وضوحا من شمس في كبد سماء صيفية ..
تمطع بعرض الفراش يحاول فك تيبس عضلات ظهره وفجأة تنبه لأمر ما .. لقد استغرق في النوم دون ان يشعر .. انتفض متطلعا حوله باحثا عنها على ذاك الضوء الخافت المنبعث من احد المصابيح الصغيرة الموضوعة على احد جانبى الفراش ..فوجدها تنام متكومة على نفسها على ذاك المقعد الضيق ..
شعر بالذنب لوضعها ذاك فنهض في هدوء مقتربا منها و انحنى محاولا حملها في حذّر حتى لا تستيقظ لكنه ما ان وضع كفه اسفل رأسها حتى استيقظت مذعورة منتفضة من موضعها وكادت تسقط ارضا تشعر بالدوار لنهوضها المفاجئ ذاك فما كان منه الا ان لحق بها يحاول مساعدتها على التوازن ..
تطلعت نحوه للحظة كانت كفيلة لجعل قلبه ينتفض بصدره فقد كانت نظرتها تلك تحمل عتابا صامتا مزق قلبه كخرقة بالية ..
استعادت توازنها وتوجهت مبتعدة عنه لطرف الفراش البعيد ليهمس هو بصوت متحشرج:- خدي راحتك ونامي .. انا اسف اني نمت امبارح غصب عني ومسبتش السرير ليكِ .. عن اذنك ..
واندفع خارجا من الغرفة .. تطلعت هي نحو موضع رحيله للحظات في تيه واخيرا تمددت على الفراش ليأخذها النعاس في لحظات الى دنياه بعد ليلة قضتها مؤرقة ..
خرجتا من الباب الخلفي للبيت الكبير منحدرتان التلة المقام عليها في اتجاه قلب النعمانية .. هتفت دلال في سعادة:- هفرجك ع النعمانية كلها بقى .. انا بقالي حوالي شهر هنا وحفظتها من كتر ما رحت وجيت بالكارتة ..
هتفت زينب في تخابث:- واضح انك حبيتي النعمانية قووي .. كنت فاكرة اني هلاقيكي كرهاها ومش مستحملة تفضلي هنا !؟..
ابتسمت دلال هاتفة:- انا مش كارهة المكان يا زينب .. انا كارهة عادات بتشوه جماله .. وافكار للاسف بتدمر بنات ملهاش ذنب غير فقر اهاليهم.. و هم اللي بيدفعوا تمنها من عمرهم .. و براءة مكنتش الا مثل على مليون براءة بتغتالها تقاليد عمية ملهاش قلب واهل طاحنهم العوز ..
تنهدت زينب هامسة:- صدقتي ..
هتفت دلال تخرج من جو الحديث المشحون بالشجن ممسكة بكف زينب مؤكدة:- تعالي بس افرجك على مناظر عمرك ما هتنسيها .. زي ما وريتك النعمانية من سطح المندرة تعالي بقى اوريهالك وانتِ وسط ناسها ..
ابتسمت زينب واندفعت خلفها سارتا معا ما بين الحقول واتجهتا للمعدية .. حاولت دلال ان تقنع زينب بتجربتها الا ان زينب أبت خوفا فعادتا مرة اخرى للطريق الترابي .. صوت مكابح عربة اثار انتباههما .. ترجل شريف من عربته الميري متوجها في حماس باتجاهما هاتفا:- ايه النور ده !.. وانا اقول النعمانية الفولت زايد فيها اليومين دول ليه !؟..
قهقهت دلال بينما امسكت زينب ضحكاتها بجدية تحاول ادعائها وهى تلكز دلال خفية والتي هتفت في أريحية:- ده نور اهلها يا حضرة الظابط ..
هتف شريف فى نبرة تشتعل هياما:- ازيك يا دكتورة زينب !؟.. يا رب تكوني مرتاحة هنا !؟..
اومأت برأسها ايجابا هامسة:- الحمد لله ..
تنبه جمعهم لصوت كارتة عفيف القادمة من البعد والتي توقفت خلال لحظات بالقرب من موضع وقوفهما وهتف ملقيا السلام دون ان يترجل منها:- السلام عليكم ..
رد الجميع التحية ليتساءل عفيف:- خير يا داكتورة !؟.. ايه اللي موجفكم كِده !؟.. كلكم تمام ..!؟..
اكدت دلال:- كلنا بخير يا عفيف بيه .. انا خرجت أتمشى انا وزينب شوية وأفرجها ع النعمانية .. بس الصراحة تعبت ..
هتف شريف متحينا الفرصة حتى يكون برفقة زينب:- تعالوا أوصلكم..
امتعض عفيف وكاد ان يلق تعليقا لاذعا كعادته الا ان دلال كانت الأسبق لتهتف مؤكدة:- لا .. انا هروح مع عفيف بيه وانتِ يا زينب خلي حضرة الظابط يفرجك ع النعمانية .. انتِ ملحقتيش تتفرجي عليها ..
همت زينب بالرفض وهى تتطلع الي دلال بنظرة لائمة تخالف نظرة الفرحة التى اعترت شريف وهو يجزل الدعاء لدلال على إتاحتها هذه الفرصة ..
اندفعت دلال في اتجاه الكارتة ليمد عفيف يده لاأراديا تجاهها لتقبلها هى بشكل غريزي وتتلاقى الأكف بعد طول اشتياق .. استقرت جواره بالكارتة ليشعر انه لتوه قد اكتمل كمن غاب عنه جزء غال من روحه وهاقد عاد لموضعه الأصلي من جديد ..
لوحت لزينب والكارتة تندفع راحلة ليهتف شريف في نشوة:- اتفضلي يا دكتورة زينب .. ده انا حصل لى البهجة النهاردة ..
صعدت العربة وهى تقسم ان تقتص من دلال على فعلتها بينما سمعت همس ذاك المخبول جوارها:- و الله نيتك صافية يا شرشر وامك داعية لك ..
امسكت ضحكاتها وهتفت فى تعجب:- ايه يا حضرة الظابط !؟.. هو احنا هنقضيها هنا ولا ايه !؟..
هتف متعجبا بدوره:- هاااا .!؟.. انتِ قصدك ايه !؟..
هتفت زينب ساخرة:- حضرتك متحركتش بالعربية .. احنا محلك سر على فكرة ..
تنبه شريف انه ادار محرك العربة لكنه لم يبرح موضعه بالفعل فقهقه هاتفا بلهجة نسائية متقنة:- استري عليا بقى .. اصل انا عندي فكر .. والفكر مبهدلني ..
ابتسمت رغما عنها هاتفة:- لا ألف سلامة .. اتفضل بقى ربنا يجعل لك ف كل خطوة سلامة ..
همس ممتعضا:- سلامة مين !؟.. قولي ربنا يجعلي ف كل خطوة زينب ..
ابتلعت ابتسامتها تخفيها مُشيحة بوجهها في اتجاه نافذة السيارة وهو ينطلق بها اخيرا ..
لا تعلم كم مر عليها وهى على حالها داخل الغرفة وقد طواها النوم تحت جناحيه فلم تشعر الا بأشعة الشمس تتسلل بقوة من بين خصاص النافذة معلنة عن بداية النهار .. انتفضت لا تعلم كم الساعة حتى تنبهت لموضع ساعة حائط بمواجهة الفراش لم تلحظها البارحة كانت عقاربها تشير لما بعد العاشرة بقليل ..
نهضت من موضعها في اتجاه الباب ليتناهى صوته لمسامعها و هو يدلف للشقة من الخارج هاتفا لماجدة ام الدكتورة زينب:- جبت لك شوية فطار يا طنط انما ايه .. هتكلي صوابعك وراه ..
هتفت ماجدة:- يا بني ليه تكلف نفسك م الاكل موجود اهو ..
ظهرت على اعتاب الردهة لتطالعها ماجدة هاتفة في سعادة:- اهلًا بعروستنا .. ياللاه تعالي جوزك جاب فطار سخن .. كلي لك لقمة .. انتِ متعشتيش كويس امبارح ..
وتطلعت لنديم هاتفة بأمر امومي:- وانت كمان يا نديم تلاقيك ميت م الجوع .. انت نايم من غير عشا .. تعالوا كلوا على بال ما أحط الشاي ع النار..
اتجهت ماجدة للمطبخ بينما جلست هى فى هدوء للمائدة تبعها هو واضعا أصناف الطعام امامها هامسا:- يا رب تكوني نمتِ كويس!؟..
هزت رأسها مؤكدة في هدوء دون ان تنطق بحرف واحد ..هم بالحديث من جديد الا ان ماجدة ظهرت على اعتاب الردهة قادمة اليهما .. جلست قبالتها وبدأوا جميعا في تناول افطارهم .. كانت عيناه تحاول ان تتجاهل حضورها الطاغ قبالتهما لكنها لم تستطع الا التطلع اليها خلسة ما بين لحظة واخرى .. اما هى فقد كانت تحاول ان توطد نفسها على تجاهل حضوره الذي يربك مشاعرها ويغمر روحها بوهج من بهجة ما استشعرتها يوما.. كانت تجاهد حتى تتغلب على ذاك الشعور المتنامي تجاهه والذي يتغلب على اي محاولة من قبلها لتعود ناهد القديمة التي ما كانت تقيم لأمور القلب وزنا ولا تعترف بالعشق مذهبا ..
هتفت ماجدة تجذب كلاهما من براثن خواطرهما الدامية:- انا هتفق لكم مع حد يجي ينضف الشقة اللى جنبنا دي عشان تقعدوا فيها براحتكم ..
هتفت ناهد في حماسة:- مفيش داعي يا طنط .. انا هقوم انضفها .. اهو أتسلى بدل جعدتي دي ..
هتف ماجدة في اعتراض:- تنضفيها ده ايه !؟.. ده انت عروسة جديدة والشقة عايزة شغل جامد .. دي مقفولة من فترة طويلة .. هتتعبي يا حبيبتي ..
ابتسمت ناهد مؤكدة:- متجلجيش يا طنط .. مفيش تعب ولا حاچة .. و أوعدك مش هاچى على نفسي و اللي اجدر أعمله النهاردة هعمله و الباجي لبكرة باذن الله ..
ازعنت ماجدة لمطلب ناهد هاتفة:- طيب يا حبيبتي اللي يريحك .. هقوم اجيب لك المفتاح ..
ما ان اختفت ماجدة حتى همس نديم في حنو:- طب كلي كويس .. انتِ مكلتيش حاجة ..
اكدت وهي تنظر لطبقها الذي كان تقريبا على حاله هامسة بدورها:- كلت الحمد لله ..
ظهرت ماجدة بالمفتاح لتتناوله ناهد وتنهض مستأذنة في اتجاه الشقة المقابلة ليهتف نديم بدوره خلفها:- استني انا جاي معاكِ ..
لم تشأ ان تجادله امام ماجدة فأثرت الصمت .. تناول منها المفتاح و سبقها لفتح باب الشقة والذي اخذ يعالج به الباب لفترة وذلك لطول مدة اغلاقه حتي انفرج اخيرا ..
هتف نديم بالبسملة في وجل و استطاع ان يجد وصلات الكهرباء وينير الردهة قبل ان يتوجه للنوافذ ليفتحها بعد محاولات عدة .. كانت الشقة تحتاج الي مجهود جبار بالفعل حتى تصبح صالحة للمعيشة الآدمية بها ..
هتف متسائلا:- هااا .. هنبدأ منين!؟..
تطلعت اليه للحظة ثم هتفت في تعجب:- هنبدأ !؟.. هو انت هتشتغل معايا !؟..
هتف بدوره متعجبا:- اه .. ليه !؟.. عندك مانع !؟..
أكدت في اصرار:- اه طبعا عندي .. انا عايزة اشتغل لوحدي ..
اشار للشقة في تعجب:- لوحدك ازاي !؟.. الشقة كبيرة وفعلا محتاجة مجهود فوق العادي .. انا هساعد باللي هقدر عليه .. عشان ننجز ونعرف نبات ف الشقة بدل الاوضة ف الشقة الثانية ..
اعترفت انه على حق فلم تجادل و عادت من جديد لشقة ماجدة لتبدل ملابسها بملابس تصلح للتنظيف و جمعت شعرها تحت غطاء محكم للشعر وعادت لتجده قد خلع قميصه ووضعه جانبا وثنى أطراف بنطاله حتى ما دون ركبتيه ..و امسك بعصا المكنسة متكئا عليها هاتفا:- استعنا ع الشقا بالله .. نبدأ منين يا حلاوتهم !؟..
تطلعت اليه هاتفة في زمجرة:- حلاوتهم !؟..
هتف مازحا:- والله ده انا مجاملك .. بشكلك ده اخرك ست ابوها ..
زمجرت من جديد ليهتف مشاكسا:- اهو العرق الصعيدي هيطلع و هدفن هنا ولا من شاف ولا من دري ..
علا صوت قهقهاتها لتجذبه كما الفراشة للهب ليتعلق ناظريه بها في وله .. اخفضت ناظريها حياءً و هتفت في محاولة لقطع استرسال تلك النظرات التي تذهب بثباتها:- هنبدأ ننضف اوضة اوضة ..
هز رأسه متفهما وسار خلفها للحجرة الاولى ليتوجه لفتح نافذتها بينما عادت هى للخارج لتحضر أدوات التنضيف .. حملت دلو المياه باتجاه الغرفة ليعود هو ادراجه باحثا عنها فكاد ان يصطدم بها .. تناول منها الدلو معاتبا:- متشيليش حاجة تقيلة تاني .. ناديني وانا اشيلها ..
كانت ماجدة تقف على باب الشقة الذي تركاه مشرعا حاملة صينية عليها أكواب من الشاي في تلك اللحظة لتهتف في سعادة:- انتِ حامل يا ناهد!؟.. الف مبروك يا ولاد .. يتربى ف عزكم يا رب..
بهت كل من ناهد ونديم ولم يجرؤ احدهما على التفوه بحرف لتكذيب الخبر .. فقد شملتهما الصدمة كليا عن محاولة اصلاح ذاك الاعتقاد الخاطئ لتستطرد في سعادة:- طب بلاش بقى تنضيف .. ده مش هايبقى حلو على صحتك ولا ع البيبي ..
هتف نديم مازحا:- لا متقلقيش يا طنط ما انا هساعدها اهو ..
هتفت ماجدة مازحة:- وانا اللي قلت نديم جدع ورايح يساعد مراته .. اتاريك عارف اللي فيها عشان كده جاي تساعد عشان خايف على ولي العهد .. يا سااااتر عليكم يا رجالة .. محدش فيكم يعمل حاجة لله ابدا !؟..
قهقه نديم و قد أعجبته المزحة فاستمر بها هاتفا في مشاكسة:- لا عملنا لله يا طنط .. ان احنا اتجوزناكم...
قهقهت ماجدة هاتفة:- شايفة يا ناهد جوزك ..
أطرقت ناهد برأسها خجلا ولم تستطع التفوه بحرف فاستنتاج ماجدة بذاك الحمل المزعوم حرك شئ ما كان كامنا بأعماقها .. اضطربت وهي تحاول ان تحيد بناظريها عن محياه تكاد تصرخ غيظا لان كل من عقلها وقلبها و عينيها قد تأمروا جميعا ضدها و اصبحوا لا تشغلهم الا فكرة واحدة للأجابة عن سؤال واحد .. كيف سيكون شكل أطفالها اذا كان هو ابوهم !؟..
ارتجفت داخليا للخاطر اللذيذ الذي أذاب تمنعها وذهب بمحاولتها لتجاهله ادراج الرياح .. واضحى ذاك هاجسها طول فترة ما بعد الظهيرة وهما يعملان جنبا الي جنب فى حماسة ..
تمايلت العربة تمشي الهوينى على ذاك الطريق الترابي المؤدي لتلة البيت الكبير .. كانت دلال شاردة في الأفق البعيد وهو شاردا فيها .. كان كل منهما مشغول بِما يأسره .. كان السلام والسكينة يعما الأجواء ويسربلا الطريق كانما هو الطريق للجنة .. ذاك الأخضر الذي ينتشر على جانبي الدرب والذي مال لونه للبرتقالي مصبوغاً بأشعة الشمس المائلة للغروب .. و صوت ذاك الناي الذي كان يأتيهما من البعد يطفي على العالم من حولهما سحر معتق ..
توقفت العربة فجأة وانتظرها ان تسأل عن السبب لكنها كانت مأخوذة تماما بذاك الجو الخرافي .. تناهى لمسامعهما صوت احد الفلاحين ينشد بصوت عذب مصاحبا لذاك الناي:-
يا بايعين الصبر .. الصبر فين ألاجيه ..
حبيبي غاب ما عاود .. دلوني فين أراضيه ..
لو يطلب العين ما تغلا .. جلولي كيف أراضيه ..
دِه كل جلب لجي خله .. و انا خلي الروح فيه ..
عاشج يا بووي وما لاجي للعشج مداوي ..
و انا يا خال ما كنت غاوي عشج و لا ناوي ..
وكان مالي انا يا ناس ما كنت ع البر معداوي …
اخذ المنشد في الاسترسال في مواله الشجي حتى تنبهت هى اخيرا لتوقف العربة فتطلعت الي عفيف في تعجب ثم ابتسمت في تفهم عندما ادركت انه أوقفها لاستشعاره رغبتها في الاستمتاع بذاك الشدو المتهادي من ذاك الغيط القريب نوعا ما وبالتحديد من تحت ظل شجرة الجميزالعتيقة تلك ..
تحرك عفيف بالعربة لتتهادى مرة اخرى على الطريق حتى وصلا للبيت الكبير ..
ترجلت منها مسرعة قبل ان يترجل هو ويمد لها كفا لا قبل لها على رفض عطيتها واندفعت مبتعدة عن محياه شاكرة اياه في عجالة ..
وصلت لغرفتها لتدلف اليها فوجدت زينب متمددة على الفراش في انتظارها وما ان طالعتها حتى هتفت في حنق:- كنتِ فين بقى!؟.. هاااا .. و بعدين ده مقلب تعمليه فيا برضو يا دولي !؟
قهقهت دلال هاتفة:- مقلب ايه !؟.. والله الراجل كان هيجراله حاجة لو مكنش وصلك .. قلت اعمل فيه جميل ..
هتفت زينب حانقة:- تعملي جمايل على حسابي.. و بعدين كان هيجراله ايه يعني !؟.. ده منخوليا ع الاخر ..
علت ضحكات دلال من جديد:- متنكريش ان دمه خفيف .. انا راقبتك وشوفتك كذا مرة وانت بتكتمي ضحكك على كلامه .. و بعدين والله شريف غرضه شريف..
هتفت زينب مصدومة:- غرضه شريف ازاي !؟..
اكدت دلال متخابثة:- سألني ان كنتِ مرتبطة اوحد متكلم عليكِ ..
هتفت زينب في شجن:- هااا وانتِ قولتيله ايه !؟..أوعي يا دلال تكوني قولتيله حاجة !؟..
هتفت دلال في شجن مماثل:- هقوله ايه بس يا زينب !؟.. لا طبعا.. دي حاجة تخصك وانتِ بس اللي ليكِ الحق تقوليله ولا لأ ..
ساد الصمت بينهما للحظات و اخيرا هتفت دلال تخرج صديقتها من خضم خواطرها الشجية هاتفة بمرح:- وبعدين هو انتِ هتتجوزي المجنون ده برضو !؟..
هتفت زينب متنهدة بحسرة:- ايوه صح مجنون ودمه خفيف وابن حلال وبيحب امه قووي وامي كمان حبته قووي..بس ياللاه ..
عاجلتها دلال هاتفة في مرح:- ياااه ده احنا عرفنا عنه كل حاجة اهو..!؟.. ع العموم انا قلت له انك مش مرتبطة ولا حد أتكلم عليكِ و انك قربتي تعنسي وهيكسب فيك ثواب لو لحقك قبل ما تروح عليكِ..
انتفضت زينب في غيظ ممسكة بأحدى الوسائد وجذبت دلال تسقطها على الفراش واخذت تضربها بالوسادة ودلال لا تسطيع الدفاع عن نفسها من شدة قهقهاتها التي خرست فجأة ما ان تناهى لمسامعها صوت موسيقى قادم من غرفة مكتبه المجاورة ..
هتفت زينب هامسة:- عفيف بيه!؟..
اكدت دلال بايماءة من رأسها لتستطرد زينب متعجبة:- الراجل ده عجيب قووي .. اول مرة اشوف التركيبة دي .. راجل متعرفيش ان كان قاسي ولا حنين .. دماغه متحجرة ولا متحضر .. عادل ولا ظالم !؟.. تركيبة تحير..
همست دلال في شرود:- هو ده عفيف .. تناقضات عجيبة معجونة ف راجل والعجيب ان كل تناقض له اللي يبرره .. و الأعجب انك تشوفي ده وتصدقيه ..
اكملت زينب في وله:- وتحبيه !؟..
انتفضت دلال كالمصعوقة هاتفة في صدمة:- احب مين !؟.. انتِ بتقولي ايه يا زينب !؟.. احنا أعداء.. بينا مصيبة ممكن تنتهي على مصيبة اكبر .. انا وهو طرفين نقيض .. ماية وزيت مش ممكن حاجة تجمعنا .. انا كل اللي بدعيه دلوقتي ان الموضوع بتاع نديم ده يعدي على خير .. ازاي!؟.. معرفش .. ربنا اللي يدبرها من عنده .. لكن حب .. لاهو بتاع الكلام ده ولا اللي بينا يسمح بده يا زينب ..
ثم استطردت في لهجة حاولت اضفاء بعض المرح المصطنع عليها:- خلينا ف حضرة الضابط شريف اللطيف ابو دم خفيف ..
قهقهت زينب لتعاجلها دلال هاتفة:- ياللاه بينا بقى على تحت نساعد الخالة وسيلة ف تحضير العشا ..
خرجتا من الغرفة في اتجاه الأسفل يصحبها على طول الردهة موسيقاه الشجية ..
↚
اصبحت الشقة بالفعل على حال اخر مغاير لما كانت عليه منذ عدة ساعات خلت .. تنهد كل منهما و هو يلقي بجسده المنهك على احد المقاعد غير قادر على التفوه بكلمة .. تطلع نديم حوله للشقة التي اصبحت عروس مزينة بعد ان كانت موضع خرب لا يصلح للعيش .. الفضل في ذلك لها .. تطلع لناهد المنهكة على المقعد المقابل وشعر بشفقة تجاهها فقد كان الحمل الأكبر على عاتقها ..
هتف يستحثها:- قومي بقى خدي دش محترم عشان ترتاحي .. انتِ تعبتي قووي النهاردة ..
ابتسمت في وهن هامسة:- لاااه .. ادخل انت الاول عشان انا لسه هدعك الحمام عشان تبقى اخر حاچة ..
هتف معاتبا:- حمام ايه وبتاع ايه تاني !؟.. كفاياكِ النهاردة .. الدنيا مش هطير .. قومي ياللاه ..
وبلا وعي منه نهض وامسك بكفها جاذبا إياها لتنهض بدورها .. تطلعت لكفه التي تحتضن كفها في أريحية ومن ثم تطلعت اليه .. تنبه هو لفعلته فترك كفها في بطء ساحبا كفه مبتعدا .. وتساءل.. لما اصبح يتباسط معها بهذا الشكل !؟.. لما اضحى تعامله معها وكأنها بالفعل زوجته !؟..
ساد جو مشحون بالتوتر و الاضطراب شمل كلاهما الا انه كان المبادر لتحويل مسار خواطرهما هاتفا وهو يشير الى احدى الحجرات:- انا هاخد الاوضة دي ..
هتفت تشاكسه:- اشمعنى !؟.. لا انا اللي هاخدها..انا بحب اوضتي يبقى فيها بلكونة ..زي اوضتي ف النعمان..
لم تكمل جملتها لكنه وعاها ولم يعقب ... كانت تحن الى اي شئ من شأنه تذكيرها بما خلفته وراءها ورحلت .. انه الحنين الذي يجرفنا في نوبات مده وجزره لنصبح اشبه بقطعة خشب تطفو علي أمواجه تتلاعب بها كيفما ووقتما شاءت ..
تنحنح ونهض في عجالة هاتفا:- انا داخل اخد دش.. ومش هتأخر عليكِ..
اندفع لداخل الحمام بينما نهضت هى تتطلع حولها للشقة تحاول ان تستوعب ان هذه الحجرات ستكون ملاذها من الان فصاعدا .. و سيكون هذا هو بيتها حتى اشعار اخر .. احتضنت الحوائط بناظريها ودمعت عيناها رغما عنها وهى تتذكر النعمانية وكل من فيها .. و الان وفي تلك اللحظة تشتاق لروائح العصاري القادمة من الغيطان البعيدة ورائحة الجبل الشامخ قبالة بيت جدها النعماني..
تشتاق رائحة مخبوزات الخالة وسيلة التي كانت تصنعها خصيصا لأجلها وخاصة الخبر الشمسي التي كانت تعبء التلة المقام عليها البيت بأسرها فتنشر عبق خاص من دفء عجيب.. واكثر ما تشتاقه هو احضان الخالة وسيلة التي تشعرها ان امها الغالية ما رحلت .. لكم تهفو لبوح بين ذراعيها يزيح عنها ثقل ماعادت قادرة على حمله ..
تطلع نديم اليها فقد خرج لتوه من الحمام وتعجل على قدر استطاعته حتي لا يتركها تنتظر طويلا لتنل دورها .. شعر بما يعتريها فتمهل للحظة واخيرا هتف محاولا اخراجها من شرودها الشجي:- انا خلصت .. تقدري تتفضلي ..
انتفضت متطلعة اليه ساهمة لثوان وكأنما تستوعب لبرهة عما يتحدث واخيرا هزت رأسها ايجابا هاتفة:- اه .. هدخل حالا اهو ..
مرت جواره بسرعة واندفعت لداخل الحمام ليتبعها هو بنظراته التي اكتشفت انها كانت تبكي في صمت مما اثار داخله نوبة من وجع جعلته يتنهد بدوره في قلة حيلة ..
جلس على الأريكة في انتظارها لتناول الغذاء الذي أحضرته ام زينب لكن يبدو انه غفى رغما عنه من شدة الإرهاق وانتفض متطلعا حوله في ذعر عندما استيقظ على صرخة قوية وانين صادر من جهة الحمام .. استعاد كامل وعيه هاتفا باسمها وهو يندفع مهرولا في اضطراب ..
كاد ان يدفع الباب و يدخل الا انه توقف باللحظة الاخيرة يطرق الباب مناديا عليها ولكن صوت الأنين هو كل ما كان يصله للحظة وفجأة انقطع مما جعله يدفع الباب دون تفكير ليجدها ممددة فاقدة الوعي على الارض المبتلة التي خاضها بحذر حتي وصل موضعها لينحني حاملا إياها عائدا للخارج في حرص حتى وصل اقرب غرفة فدفع بابها بقدمه ومددها علي الفراش وما ان ابعد كفه حتى اكتشف ان بها اثر دماء ..
شعر بالذعر وهتف بأسمها من جديد .. لكنها لم تجب .. فكر في جلب طبيب على وجه السرعة .. لكن كيف يأتي به وهى على حالها ذاك .. ترتدي هذا القميص الحريري القصير و شعرها الليلي منثور بكل اتجاه .
اندفع لحقيبة ملابسه بالحجرة الاخرى وتناول منها قنينة العطر خاصته وعاد يضع منها بعضا على كفه مقربا إياها من انفها في محاولة لإفاقتها .. لحظات مرت حتى همهمت تستعيد وعيها متأوهة وهى ترفع كفها لرأسها حيث موضع الإصابة ..
هتف بدوره في محاولة لطمأنتها:- متقلقيش انت كويسة الحمد لله .. بسيطة .. بس متتحركيش لحد اما اجيلك ..
اندفع طارقا باب شقة ماجدة و ما ان طالعته هتف في لهفة:- معلش يا طنط عندك قطن ومطهر .. ناهد وقعت ف الحمام ومتعورة ..
شهقت ماجدة هاتفة:- يا خبر ..
واندفعت تحضر ما طلبه ليتناوله من كفها عائدا لشقته وماجدة بأعقابه..
دلف للغرفة متوجها بلهفة لموضعها وقد اعتقد انها فقدت وعيها من جديد جلس بقربها هامسا باسمها في ترقب لتفتح عينيها في وهن ليتنهد في راحة ..
رفع رأسها عن الوسادة التي كان عليها بقعة صغيرة من الدماء وترته فهو لا يحتمل رؤية الدماء لكنه تحامل على نفسه باحثا عن موضع الإصابة بكف مرتعش .. كانت رأسها بأحضانه عندما لمست أصابعه في حذّر جرحها فندت منها أهة جعلته ينتفض موضعه هامسا:- معلش ..خلاص اهو ..
ابعد خصلات شعرها عن الجرح مطهرا اياه في رقة وتأكد انه جرح يحتاج استدعاء طبيب لكنه سيقوم باللازم الان .. وضع ضمادة خفيفة على موضع الإصابة وما ان أعادها موضعها حتى اكتشف انها لاتزل بقميصها الحريري .. غض بصره وهو يزدرد ريقه في اضطراب .. كانت كتلة مجسدة من الفتنة بين ذراعيه..
جذب غطاء الفراش في سرعة ملقيا اياه على جسدها فى نفس اللحظة التي دلفت فيها ماجدة حاملة كوب من الحليب المحلى بالعسل هاتفة:- خد يا بني خليها تشرب ده يعوض لها الدم اللي نزفته ..
تناول من ماجدة الكوب وتقدم من جديد يضع ذراعه اسفل كتفيها محاولا رفع جزعها هامسا بصوت مضطرب:- خدي اشربي يا ناهد..
فتحت عينيها في إعياء هامسة:- انا بردانة يا نديم .. بردانة ..
همست ماجدة في إشفاق:- يا حبيبتي يا بنتي .. انا رايحة اجيب لكم بطاطين من شقتي .. ازاي نسيت اديهالكم !؟..
همست ناهد من جديد بأحرف مرتعشة:- بردااانة .. يااا .. نديم ..
وضع كوب الحليب المحلى جانبا وجذبها الي صدره بلا وعي ضاما إياها بين ذراعيه يحاول ان يبث الدفء بأوصالها هامسا في عشق:- انا هنا يا ناهد .. انا هنا جنبك ..
عادت ماجدة حاملة الاغطية الصوفية ورغم ذلك لم يفلتها من بين ذراعيه وضعتها على طرف الفراش هاتفة:- اهو الغطا يا نديم.. و انا رايحة اسخن لكم الأكل اللي محدش منكم لمسه ده .. لازم مراتك تاكل ..
ما ان خرجت ماجدة من الغرفة حتى جذب نديم احد الاغطية ناشرا إياها مدثرا ناهد بها هامسا بها من جديد وهو يتناول كوب الحليب المحلى:- اشربي يا ناهد عشان خاطري ..
ارتشفت عدة رشفات من يده واخيرا تمنعت .. وما ان تحرك حتى اصطدم بلا قصد بقدمها فتأوهت هاتفة:- اااه .. رچلي ..
كانت قدمها لا يصلها الغطاء و ظهرت متورمة فنهض متوجها للخارج هاتفا لماجدة التي كانت لاتزل بالمطبخ:-انا نازل اجيب دكتور يا طنط .. خليكي جنبها ..وحاولي تساعديها تلبس عباية..
تركت ماجدة ما كانت تصنعه لتعود للبقاء بجانب ناهد حتى عودة نديم بطبيبها ..
توجهتا الى السيارة التي كانت بانتظار زينب خارج بوابة البيت الكبير وكان عفيف ينتظر قربها يحادث مناع في امر ما حتى ظهرتا متجاوزتان البوابة ليهتف عفيف في مودة:- شرفتينا يا داكتورة .. و مچيتك چات بالخير والداكتورة دلال جامت لنا بالسلامة ..
ابتسمت زينب في دبلوماسية:- تسلم يا عفيف بيه .. دلال دي اختي.. و انا اعمل اي حاجة عشان راحتها ..
ابتسم عفيف هاتفا:- ربنا يديم المعروف ما بينكم يا داكتورة .. و دايما النعمانية مفتوحة لحضرتك تشرفينا ف اي وچت ..
هتفت دلال معاتبة:- كنتِ خليكي يومين تاني يا زينب !؟..
همت زينب بالإجابة الا ان توقف عربة الشرطة المفاجئ جوارهم جعل الجميع يتنبه لها موجها أنظاره تجاه شريف الذي ترجل منها على عجل هاتفا بلهجة مطمئنة مندفعا نحو زينب:- الحمد لله لحقتك .. كنت فاكرك سافرتي..
تنبه انه اندفع متوجها بحديثه لزينب متجاهلا كل من عفيف ودلال فهتف مستدركا:- السلام عليكم اولا ..
ثم توجه بحديثه لعفيف:- انا بستأذنك يا عفيف بيه هسافر بالدكتورة زينب اوصلها بنفسي .. معلش .. والدتها امنتني عليها .. زي ما جت معايا ترجع معايا ..
ابتسم عفيف مؤكدا:- وماله يا حضرة الظابط .. العربية ومناع تحت امرك .. تروح مع الداكتورة وتوصلوها بالسلامة وترجعوا سوا انت ومناع ..
ابتسم شريف منشرحا وهو يشير اليها لتصعد العربة .. استدارت تحتضن دلال في محبة هامسة بالقرب من اذنيها:- لو في اي حاجة ابعتيلي مع البوسطجي ..
امسكت دلال قهقهاتها التي ظهرت علي شكل ابتسامة واسعة وهمست بدورها:- حاااضر .. ابقي طمنينى ع الحبايب .. و سلميلي عليهم قووي ..
اومأت زينب في تفهم واندفعت باتجاه العربة لتجد مناع مندفعا باتجاه مؤخرة السيارة يضع عدد من الصناديق الكرتونية فتسألت زينب في تعجب:- ايه ده يا عفيف بيه!؟..
ابتسم عفيف في وداعة:- دي حاچة بسيطة يا داكتورة هدية للوالدة .. بالهنا والشفا..
ابتسمت زينب ممتنة:- هدية مقبولة يا عفيف بيه .. كلك ذوق ..
صعدت السيارة وصعد شريف على الجانب الاخر وبدأ مناع في التحرك لتلوح دلال بكفها مودعة هاتفة:- سلميلي على طنط يا زينب .. أوعي تنسي ..
اومأت زينب بالإيجاب وابتعدت السيارة .. ظلت دلال موضعها حتى غابت العربة خلف غبار الطريق ليهمس عفيف مشيرا للبيت الكبير:- اتفضلي يا داكتورة ..
هزت رأسها في سكينة ودلفت للداخل ولم تنبس بحرف واحد لكن صمتها ذاك كان ابلغ من اي احرف قد تُنطق .. كان يدرك تماما غربتها..كان يتمني لواضحى قادرًا على اذهاب وحشتها ولكن ما بيده حيلة .. تركها تعود للمندرة وتوقف يتطلع اليها حتى غابت .. وغابت سعادته بالتبعية ..
خرج الطبيب من غرفة ناهد بعد ان وقع الكشف عليها ليعاجله نديم فى لهفة متسائلا:- خير يا دكتور!؟ هى بخير !؟..
هتف الطبيب وهو يدون بعض من ملاحظاته ويخط اسماء اجنبية لادويته:- متقلقش .. الحمد لله هى بخير .. الجرح ف راسها عملت له اللازم بجانب ان رجلها فيها إلتواء لازم ترتاح ومتتحركش ولا تمشي علي رجلها على الاقل اسبوع..
مد نديم كفه للطبيب يتناول وصفته الطبية ويرافقه للباب وهبط الدرج معه حتى يبتاع الدواء وما ان عاد من جديد حتى هلت ام زينب من داخل غرفة ناهد هاتفة:- الحمد لله يا بني انها بخير .. انا هروح اسخن لكم الاكل عشان الدكتور قال لازم تتغذي ..
هتف نديم ممتنا:- هنتعبك يا طنط .
هتفت ام زينب معاتبة:- تعب ايه بس يا نديم !؟.. تعبكم راحة يا حبيبي ..
ثم استدركت في حنق:- يووه .. معلش يا نديم انا دماغي كانت فين!؟.. تصدق مسألتش الدكتور على حمل مراتك !؟.. يا رب الوقعة متكنش اثرت عليه ..
ابتسم نديم مؤكدا:- لا متقلقيش يا طنط هو مفيش حمل من اصله ..احنا لقيناكِ مصدقة قلنا نهزر معاكِ شوية ..
هتفت فى راحة:- طب الحمد لله .. ربنا يديكم يا حبيبي ..
هتف بدوره:- تسلمي يا طنط ..
ما ان غابت ام زينب حتى تنحنح في تأدب ودلف لحجرة ناهد في هدوء هاتفا:- اخبارك ايه دلوقتي!؟.. مش احسن ..!؟..
همست بصوت واهن:- الحمد لله ..
رفع ناظريه تجاهها وقد هزه نبرة الوهن بصوتها فوجد رأسها حوله عصابة محكمة وقدمها تظهر من اسفل غطاء الفراش حولها احد الأربطة الضاغطة .. اقترب حتى اصبح قبالة الفراش ووضع الدواء بالقرب منها هاتفا:- الف سلامة .. الدكتور قال لازم ترتاحي وتتغذي كويس ..
دخلت ام زينب حاملة صينية الطعام ليتقدم نحوها نديم مسرعا متناولا منها الصينية هاتفا:- عنك يا طنط .. تسلم ايدك ..
هتفت ام زينب:- تسلم وتعيش يا حبيبي .. ياللاه اقعد كل واكل مراتك عشان تاخد دواها .. و انا ف شقتي لو احتجتوا حاجة .. ياللاه تصبحوا علي خير والف سلامة يا ناهد يا بنتي ..
هتفت ناهد ممتنة:- تسلمي يا طنط .. ربنا يخليكي ..
عادت ام زينب لشقتها ليعاود نديم النظر اليها هاتفا:- ياللاه بقى عشان تاكلي ..
وحمل صينية الطعام متوجها بها ليضعها على طرف فراشها من الجهة الاخرى لجلوسها لتهمس هى بنبرة مرهقة:- بجد مليش نفس .. انا حاسة اني دايخة قوي وعايزة انام ..
اكد وهو يجلس جوار صينية الطعام:- يا ستي نامي براحتك بس لازم تاكلي الاول عشان تخدي الدوا .. ياللاه ..
هتف بكلمته الاخيرة وهو يمد لها كفا بقطعة صغيرة من صدر الدجاجة التي تتوسط الصينية:- خدي كلي بقى لأني هموت م الجوع بجد ولو مكلتيش و الله ما انا دايقه..
تنبهت انه اختار القطعة التي تفضلها من الدجاجة.. هل هى مصادفة !؟.. و جاءت الإجابة فى هتافه مؤكدا:- ياللاه كلي ده انا مديكي الحتة اللي بتحبيها اهو ..
تطلعت اليه في تيه .. هل اصبح يدرك ما تحب و ما تكره !؟.. لما!؟..سطع السؤال برأسها وكانت تتهرب من الإجابة .. فلا تحب ان تتعلق بأمل بعيد قد لا يتحقق .. تناولت من يده قطعة الدجاج و بدأت في تناولها في شرود وبدأ هو بدوره في تناول الطعام بشهية كبيرة تدل بالفعل علي تضوره جوعا..
جلس شريف بجوار مناع وكانت زينب تجلس بالمقعد الخلفي لشريف مباشرة .. مر الوقت لم يقطعه احدهم .. حتى مد شريف كفه محاولا ضبط مرآة العربة التي في اتجاهه حتى يتسنى له رؤيتها من موضعها خلفه الا ان مناع هتف مشيرا الى المرآة:- والنبي اعدل المراية اللي چارك دي يا شريف بيه ..
هتف شريف ممتعضا وقد بدأ لتوه في التمعن بصورتها قبل ان يعم الظلام قريبا ويحرم من مطالعتها:- ما هى معدولة اهى يا مناع .. حلوة حلوة والطريق هادي وزي الفل .. توكل على الله ..
جز مناع على اسنانه غيظا هامسا:- اجوله مشيفش يجولي الطريج زي الفل ..
هتف شريف متسائلا:- بتقول حاجة يا مناع !؟..
هتف مناع مؤكدا:- لاااه مبجوليش يا بيه ..
استطرد مناع وقد استشعر بما لديه من خبرة عاطفية جعلته غارقا في عشق سعدية ان هناك شرارات ما بين زينب وشريف فهتف:- بجولك يا بيه !؟.. افتح لكم مزيكا !؟..
هتف شريف مستحسنا:- الله عليك يا مناع ..سمعنا يا سيدي .. بس اوعى تسمعنا الرعد ف الاخر ..
امسكت زينب ضحكاتها بالخلف بينما انفجر مناع مقهقها بصوت جهوري ليهتف شريف مدعيا الفزع:- اديك سمعتنا اللي ألعن من الرعد .. العربية بتترج .. استر يا رب ..
قهقه مناع من جديد ومد كفه يفتح مشغل الأغاني لتصدح كوكب الشرق مترنمة:-
ياما الحب نده على قلبي ما ردش قلبي جواب..
ياما الشوق حاول يحايلني واقول له روح يا عذاب..
ليهتف شريف مؤكدا كلام الاغنية:- والنعمة صح .. الست دي بتقول احلى كلام ..
لتستطرد ام كلثوم صادحة:-
ياما عيون شاغلوني لكن ولا شغلوني..
إلا عُيونك إنت دول بس اللي خدوني وبحُبك أمروني..
أمروني أحب لقيتني بحب وأدوب فى الحب وصبح وليل على بابه..
تطلع شريف الى عينيها عن طريق مرآة السيارة وتنهد في شوق مسندا عضده على حافة نافذة السيارة وذقنه على باطن كفه ليتيقن مناع ان شريف غارقا في حب تلك الطبيبة التي تجلس بالخلف تحاول ان تتظاهر بالامبالاة فمد كفه ليرفع من صوت الغناء قليلا وكلمات الاغنية تسري عبر اجواء العربة توقظ مشاعر راكبيها مصحوبة بأجواء الغروب التي تصاحبهما على طول الطريق ..
كان عائدا من احد اجتماعات فض المنازعات التي يترأسها بمقعد الرجال بالقرب من إسطبلات النعماني .. كانت رأسه تعج بالكثير من التفاصيل والمشكلات التي شغلت معظم نهاره والان هو عائد للبيت الكبير لعله ينال بعض الراحة بعد ذاك اليوم المنهك ..
كان يسير الهوينى بعربته لا قبل له للإسراع بها على ذاك الطريق الضيق المترب وكان يريد ان يعب من هواء المغارب النقي لعله يريح بعض من ما يعتريه من ضيق .. لقد أضحت الفترة الاخيرة خانقة بحق بعد كل الاحداث التي شهدتها.. تنهد زافرا في حنق واذ به يجذب لجام الفرس في قوة لتتوقف العربة فجأة .. تطلع الي تلك السائرة هناك وحيدة تحمل حقيبتها وتمشي شاردة حتى انها لم تنتبه لصوت العربة المميز على الطريق و ما ألتفتت نحوه بل استمرت بطريقها ..
اندفع مترجلا من العربة خلفها وما ان اصبح بمحازاتها حتى تنحنح هاتفا:- السلام عليكم يا داكتورة ..
انتفضت من شرودها وردت التحية في اقتضاب:- وعليكم السلام ..
تساءل متعجبا:- ليه ماشية لحالك يا داكتورة مطلبتيش الكارتة ليه !؟
اكدت وهى لاتزل تسير بطريقها غيرعابئة بالتطلع اليه وهى تحدثه:- ملهاش لازمة يا عفيف بيه .. انا حبيت أتمشى شوية ..
كانت تسرع الخطى وكأنها تهرب من امر ما أو ربما شخص ما .. شخص له قدرة على قلب ثباتها رأسا على عقب ..فمنذ محادثتها مع زينب وإنكارها إمكانية الوقوع في حبه وهى لاتنفك تفكر فيه ولا يبرح مخيلتها للحظة مما اثرعلى علاقتها به وباتت تتحاشاه وإذا ما اجتمعا تتعامل معه بشكل عدائي لا تستطيع ضبطه اوالسيطرة عليه ..
هتف معاتبا:- هاتفضلى تجري كِده وانا اچري وراكِ يا داكتورة .. طب حتى اوجفي كلميني زي الناس..
توقفت فجأة تستدير متطلعة اليه هاتفة فى حنق:- خير يا عفيف بيه!؟..
توقف فجأة بدوره قبل ان يرتطم بها متقهقرا خطوتين للخلف و تنحنح هاتفا:- خير طبعا يا داكتورة .. انتِ فيه حاچة مزعلاكِ!؟..
هزت رأسها نفيا في عجالة ليهتف هو مستطردا:-طب انا بجول يعني تتفضلي ع الكارتة بدل مشيك .. المسافة للبيت الكبير لساتها بعيدة و انتِ يعني اكيد تعبانة وعايزة تستريحي .. اتفضلي..
اشار للعربة التي تركاها خلفهما على مسافة لا بأس بها .. كانت بالفعل مرهقة ولا قبل لها لتجادل فيومها كان عصيبا بحق .. تنهدت في استسلام ليبتسم في نشوة المنتصر وهو يعود خلفها مستقلا العربة بعد ان استقرت داخلها بالفعل..
ساد الصمت بينهما وكان الجو مشحونا فمنذ قدوم الدكتورة زينب وامتثالها للشفاء وهى تنأى بنفسها عنه .. كانت بارعة حقا في عقابه بمثل ذاك العقاب الذي لا تعلم كم هو ثقيل على نفسه .. لكن من اين لها ان تعلم !؟..
هز لجام فرسه لتتحرك العربة بهما عائدين وها قد شارف المغرب على الدخول وبدأت جحافل العتمة فى الانتشار .. كان التعب بلغ منها مبلغه بالفعل لم تشعر بذلك الا ما ان استراحت داخل العربة .. كانت تشعر ان كل عضلة من عضلات جسدها متشنجة نظرا للمجهود الذى قامت به النهار بطوله..
لكن كل هذا لا شئ ما ان اتم الله على يديها تلك الولادة التي استدعيت لها بعد رحيل زينب مباشرة مما ساعدها على الالتهاء بعيدا عن حزنها لفراق صديقتها وخاصة وان الام وجنينها بخير مما أشعرها بالسعادة فتنهدت فى ارتياح جذب انتباهه ليتطلع اليها بطرف لحظ يحاول ان يغضه عنها دوما..
لكن كيف له ان يفعل وكل ما فيه يناديها وخاصة بعد طول فترة بعادها بمرضها وكذا وهى بهذا القرب الدامى منه تشاركه أريكة الكارتة التى تهتز بهما فى طريقهما للبيت الكبير على ذاك الدرب الذى بدأت شمسه فى المغيب مخلفه ورائها شفق ذهبى مخلوط بالحمرة اورث الأجواء نوعا من السحر لا يمكن مقاومته ..
انتفض فجأة مطرودا من جحيم خواطره عندما هتفت هى فى تعجب متسائلة:- ايه الصوت ده يا عفيف بيه !؟
تطلع اليها متعجبا فيبدو انها نسيت خصومتها فجأة وتساءل بدوره في اهتمام:- صوت ايه !؟..
ارهفت السمع هامسة:- حاسة انى سامعة صوت غنا او حاجة شبه كده .. ده صحيح و لا بيتهئ لي!؟..
ابتسم فى رزانة مجيبا:- لا صحيح يا داكتورة ..
وادار العربة قليلا لتسلك طريقا فرعيا ضيقا كادت العربة ان تتجاوزه اشرف بهما على سهل منخفض رأت فيه من على البعد بعض من خيام وشادر منصوب .
نظرت دلال لعفيف فى تعجب هامسة:- ايه ده !؟..
رد هامسا بدوره:- دى خيام الحلب..
هتفت مستفسرة:- اه .. قصدك الغجر مش كده !؟
ابتسم مؤكدا:- ايوه يا داكتورة صح .. بجيتى خبيرة اهااا ..
ابتسمت في خجل:- يعنى افتكرت كلام خالة وسيلة عليهم ساعة موضوع خفاجي وبنته ..
بالحديث الا انها تنبهت للغناء الذى بدأ من جديد بالأسفل فنزلت من الكارتة مشدوهة ومأخوذة اليه .. وقفت تتطلع من موضعها فوق تلك التلة المنخفضة على ذاك الصخب الدائر بالأسفل وتناهى لمسامعها أهازيج الغجر ورقص فتياتهم و مشاعلهم المستعرة بأركان المكان بالأسفل تضفى عليه جوا أسطوريا خلب لبها ..
كان عفيف لايزل بالعربة متطلعا اليها فى تيه مأخوذا كليا بصورتها التى تتراقص اللحظة امام ناظريه على انعكاس اللهب القادم من البعد.. كانت قطعة فريدة وضعت فى لوحة فائقة الجمال فزادتها حسنا.. نزل بدوره من الكارتة سائرا في حذّر ليقف جوارها محاولا الا يقطع ذاك السحر الذي شملهما وان لا يخرجها من ذاك الجو الذى أضحت اسيرته تماما ..
تناهى لمسامعهما الغناء الذى علت وتيرته بالأسفل لتصلهما ..
يا حنة .. يا حنة .. يا حنة .. يا جطر الندى ..
يا شباك حبيبي يا عيني .. چلاب الهوى ..
همست دلال مسحورة:- الله .. بحب الاغنية دي قووي ..
نظر اليها مسحورا بها وتنحنح محاولا ان يجلو صوته هامسا بدوره:- أغاني عن حكاوي جديمة..
وحاول ان يجذب نفسه خارج ذاك السحر الذى يشملها يدعوه اليه كنداهة لا يستطيع منها فكاكا فاستطرد هاتفا:- والاغنية دي بالذات .. عن حكاية جديمة جوي وكلها وچع ..
تنبهت لحديثه فتطلعت اليه متسائلة في شغف للمعرفة:- قديمة قوي ازاى !؟.. من امتى يعني !؟.. وليه كلها وجع !؟..
ابتسم عندما علم انه اثار فضولها فهتف:- من ايّام الدولة الطولونية..
هتفت متعجبة:- ياااه .. دي قديمة قوي فعلا .. بس واضح انها حكاية مش عادية عشان تعيش كل ده!؟..
اكد هامسا وهو يومئ برأسه متطلعا لمضارب الغجر:- اكيد .. حكاية لسه عايشة وبتتغنى يبجى لازما تبجى مش عادية .. حكاية عن فرحة وحزن متعشجين ف بعض زي الارابيسك ..
هتفت فى حيرة:- ازاي !؟..
همس يحكى وأهازيج الغجر عن الحكاية تكمل تلك الخلفية الخلابة:- دي حكاية الاميرة جطرالندى بنت خمارويه وحفيدة احمد بن طولون.. كانت شابة ف غاية الچمال وكان ابوها بيحبها چدا .. بس للاسف حبه ده ممنعهوش انه يتاچربيها ..
هتفت دلال في فضول:- ازاي !؟..
اكد عفيف متنهدا:- للاسف كان فى مشاكل وصراعات كبيرة بين ابوها حاكم مصر وبين الخليفة العباسي المعتضد .. وشاف الاتنين ان انسب وسيلة عشان ينهوا الخلاف ده هى چواز جطر الندى من بن الخليفة ..
اكدت دلال:- طب تمام ما هو الخلاف هيخلص اهو .. ولا هى بتحب حد تاني ..!؟..
هتف عفيف:- لا ابدا .. هى كانت سعيدة بالچوازة دي لانها ف مصلحة ابوها .. و فعلا تم تچهيزها بچهاز في قافلة اولها ف العراج و اخرها ف مصر وكان فيها من عچايب الدنيا اللى عمر ما حد شافه..
همست دلال فى فضول:- و بعدين!؟..
ابتسم مستطردا:- بيجولوا ان ابوها بنى لها جصور على طول الطريج من مصر لبغداد كل ما تكون عايزة تستريح تنزل ف جصر منيهم لحد ما وصلت بغداد .. وزي ما بيجولوا برضك تأتى الرياح بما لا تشتهي السفن ..
هتف تتعجله فى فضول:-ليه !؟. ايه اللى حصل يا ترى !؟..
قهقه لحماستها مستطردا:- شافها الخليفة المعتضد فبهرته بچمالها فجال انه هيتچوزها هو بدل ابنه ..
شهقت دلال فى صدمة هاتفة:- يا عينى .. ضاعت فرحتها ..
اكد عفيف في رزانة متطلعا لملامح وجهها المليحة والمتقلبة التعابير كما وجوه الاطفال عند قَص الحكايا:- بالظبط .. بس هى ملهاش انها ترفض للاسف لانه چواز سياسى م الاساس .. عشان كِده جلت لك .. رغم مظاهر البذخ والفشخرة اللى أتعمل بيها الزفاف والأربعين ليلة حنة اللى اتجام فيها الفرح واللي بيتغنوا بيها لحد دلوجت الا انها مكنتش سعيدة ابدا..
همست دلال فى شجن:- اكيد مكنتش سعيدة .. هتبقى سعيدة ازاي وعمرها بدل ما تعيشه مع حد يحبها راح ف صفقة سياسة !؟..
صمت عفيف ولم يعقب متطلعا اليها في وله .. تطلعت هي الي الغناء بالأسفل من جديد وفجأة وكأنها فقدت شغفها استدارت تصعد الكارتة .. تبعها صاعدا الكارتة جوارها وهز لجام الفرس بين كفيه لتتحرك عائدة متخذة الطريق الرئيسى مرة اخرى لتدير دلال رأسها متطلعة خلفها لمضارب الغجر وهم لازالوا على غناءهم يتناهى لمسامعها كلمات اوصلها الريح والعربة تندفع مبتعدة:-
استنى .. واستنى .. لما تفوت على بستانا ..
وتصبح وتمسى .. تطلب مفتاح الچنة ..
وأهديك شال الأفراح .. مليان ورد وتفاح .. والفرحة الكبيرة نقسمها سوا ..
وأتوه بين حبيبى يا عينى والليل و الهوى ..
↚
وصلت العربة لبيت زينب ليتوقف مناع حيث اشار له شريف هاتفا:- بس هنا يا مناع .. كتر خيرك ..
ترجلت زينب من السيارة وتبعها شريف هاتفا:- حمدالله بالسلامة يا دكتورة ..نورتي القاهرة وضلمتي النجع ..
ابتسمت زينب هاتفة:- الله يسلمك يا سيادة النقيب ..
واستطردت هاتفة:- هطلع انا بقى لماما ..
هتف مناع:- وانا هحصلك بالزيارة اللي ف شنطة العربية يا داكتورة ..
ابتسمت في مودة:- تسلم يا مناع ..
همس شريف بقربها:- يسلم ايه !؟.. انتِ ناسية الناس اللي عندك !؟..
وضعت كفها على فمها مانعة شهقة قوية ليهتف شريف امرا:- سبهم يا مناع انا هطلعهم ..
اكد مناع:- ودي تيجي يا شريف بيه !؟.. ميصحش برضك ..
همس شريف لزينب:- اطلعي بسرعة نبهي ع اللي فوق ..
اومأت برأسها موافقة شريف واندفعت في اتجاه بوابة البيت المغلقة .. دفعتها ودخلت وشريف يتعقبها بناظريه وما ان هم بالعودة لمناع الذي كان على وشك اخراج رأسه من خلف السيارة التي كان منحنيا داخلها لجلب الصناديق حتى شاهد نديم قادم من مقابلة مع احد أصدقاءه ليوفر له عمل يستطيع به تدبر اموره وخاصة ان طبيب ناهد ودواءها قد أتى تقريبا على ما يملك من أموال.. فاندفع شريف باتجاه مناع يحاول تعطيله عن اخراج رأسه حتى يضمن دخول نديم للبيت..
اخذ شريف في تعطيل مناع قدر استطاعته حتى شعر ان مناع قد اوشك على الخروج عن طوره وقد يرديه قتيلا لتوه .. وما ان تأكد ان نديم دخل بيت زينب حتى اصر على حمل الصناديق الكرتونية بنفسه حتى باب شقة زينب متعللاً بان هناك امر ما قد نسي أخبارها به ..
ابتسم مناع لاعتقاده بان شريف يتحجج لرؤية زينب فيبدو انه افتقدها قبل ان يغادرا من الاساس فتركه يفعل ما يحلو له ..
اندفع شريف بالصناديق حتى اعتاب شقة زينب طارقا بابها لتهتف زينب من الداخل في سرعة:- ايوه ..
وفتحت هاتفة في ذعرومن خلفها كان نديم في ذعر مماثل:- نديم مكنش فالبيت ولسه طالع ورايا ..مناع شافه !؟..
هتف شريف مطمئنا إياها وهو يضع حمله جانبا:- لا الحمد لله ربنا ستر وقدرت ألهي مناع لحد ما نديم طلع على هنا ..
تنهدت زينب في راحة:- يعني مشفهوش!؟.. الحمد لله يا رب ..
هتف نديم بدوره:- الحمد لله ..
هتفت ماجدة لشريف:- تعبناك يا بني ..
اكد شريف مبتسما:- العفو يا طنط مفيش تعب ولا حاجة وبعدين انا بنفذ الأوامر .. سلم واستلم ..
قهقهت ماجدة هاتفة:- قد القول يا حبيبي ..
هتفت زينب في حنق:- ايه سلم واستلم دي.. هو انا ايه !؟.. طرد ..
هتف شريف مشاكسا وهو يندفع ليهبط الدرج في عجالة:- طب اقولكم سلام عليكم بقى بدل ما انا اللي اخد طرد ..
قهقه الجميع لتهتف ماجدة:- مع السلامة يا حبيبي .. ومتنساش تسلم لي على ماما ..
اكد شريف وقد وصل لأخر الدرج مندفعا لخارج البيت:- يوصل يا طنط ..
اغلقت ماجدة الباب لتهتف زينب موجهة حديثها لنديم:- عارفة انت عايز تسأل على ايه !؟.. انا مش هقول ولا حاجة غير ان دلال بقت كويسة جداااا وعشان تصدقني ..
مدت كفها لحقيبة يدها التي كانت بالقرب منها على الطاولة وأخرجت خطابا سلمته لنديم مستطردة:- أدي جواب منها وبخط ايديها يا سيدي .. اقراه وأتأكد بنفسك .. هي حكت لك كل حاجة فيه ..
اختطف نديم الخطاب في لهفة وما ان هم بالخروج تجاه شقته حتى هتفت ماجدة تستوقفه:- استنى يا نديم خد الحاجات دي من الزيارة اللي بعتها اخو مراتك .. اكيد نفسها فيها .. خليها تفرح بيهم ..
اخذها نديم وابتسم في امتنان هاتفا:- تسلمي يا طنط .. كلك ذوق ..
اندفع لشقته حاملا الزيارة والخطاب .. توجه صوب حجرتها يطرق بابها في هدوء ليفتحه ما ان دعته للدخول ..
هتف ما ان طالع محياها الشاحب قليلا على غير عادته:- السلام عليكم ..ايه اخبارك دلوقتى !؟.. مش احسن ..
اومأت ببطء ايجابا ليقترب من الفراش واضعا ما حملته اياه ماجدة هاتفا:- بصي يا ستي طنط ماجدة بعتت لك ايه !؟..
هتفت في وهن هامسة وهى لا تقو على النظر داخل الحقيبة البلاستيكية:- ايه ده !؟
اكد مبتسما:- دي زيادة من بلدكم بعتها عفيف اخوكِ مع زينب ..
صمتت للحظات ثم طلت داخل الحقيبة متطلعة لما بداخلها واخيرا أبعدت ناظريها عنها وأجهشت في البكاء رغما عنها ..
صمت لبرهة بدوره احتراما لوجعها ولكنه هتف في شجن:- انا اسف كنت فاكر ان الحاجات دي هتبسطك ..
ومد كفه لإبعادها لكنها استوقفته هامسة بصوت موجوع النبرات:- هى بسطتني فعلا .. بس ..
لم تستطع ان تستطرد في وصف مشاعرها اكثر لكنه استشعر كل ما كانت تود البوح به فأومأ برأسه متفهما وهمس بدوره:- حاسس بيكِ وعارف انتِ عاوزة تقولي ايه ..
وغير الموضوع بسرعة هاتفا:- بالمناسبة.. انا جالي جواب من دلال .. هقراه وأقولك الاخبار..
هتفت في حياء مترددة:- لو فيه اخبار عن عفيف ..هتبلغني !؟..
اكد في ثقة:- اكيد طبعا .. وهديكِ الجواب تقريه كمان ..
ابتسمت وهي تمسح دمعاتها:- لااه مش للدرچة دي .. طمني عليه كفاية عليا ..
هز رأسه موافقا وتركها وأنصرف لتمد كفها لداخل الحقيبة البلاستيكية مخرجة رغيف من الخبز الشمسي المصنوع بيد الخالة وسيلة والذي تستطيع تمييزه دوما وقربته من انفها تتلمس فيه رائحتها التي تشتاقها وعبق أرضها التي افتقدتها حد الوجع ..
تمايلت وتمايلت في إغواء ونظرات عينيه التي تضج بالشهوة تتبعها هنا وهناك حتى توقفت عن رقصها اخيرا ما ان استشعرت بحسها المدرب على انها قد استطاعت اسر حواسه كلها فاقتربت منه تسقط بدلال بين ذراعيه ليهتف في صوت نبراته تحمل قدر لا يستهان به من الرغبة:- واااه يا لواحظ .. كنك چنية بترجص ع الدخان ..
أطلقت ضحكة ممجوجة هامسة باغواء:- عچبتك يا سي صفوت !؟.
اكد هاتفا في حماسة:- يوووه .. دِه انتِ تعچبي الباشا ..
همست بالقرب من مسامعه ترغب في المزيد من التأثير عليه حتى يكون طوع بنانها في تنفيذ ما انتوته:- ولسه هعچبك كمان وكمان لما اجولك كيف تخلص من عفيف وتبجى انت سيد النعمانية وكبيرها..
انتفض متطلعا اليها هاتفا في لهفة:- كيف..!؟..
مالت عليه تهمس بأذنيه بما خططت له وبدأ هو في الإيماءة برأسه في موافقة وقد ارتسمت على محياه القبيح ابتسامة صفراء تحمل خبثا ودناءة غير مسبوقة..
اندفعت لداخل البيت الكبير على غير عادتها مهرولة لتخبر الخالة وسيلة بالتوأمين اللذين كان لهما حظا فى القدوم للدنيا على يديها .. توقفت رغما عنها فى صدمة وكلل محياها الخجل عندما اكتشفت ان هناك ضيف بالبيت الكبير يجلس بأريحية في بهو الدار نهض هو فى جرأة متوجها اليها هاتفا:- اهلًا .. ومد كفه محييا ومستطردا:- انا تامر الضمراني شريك عفيف بيه .. اكيد حضرتك اخته !؟..
مدت كفها تتبادل التحية لكنها شعرت بالضيق من جراء ضغطه الموح لكفها فجذبتها في ضيق و همت بالإجابة الا ان عفيف كان الأسبق وهو يهتف مهرولا هابطا الدرج وبكفه بعض الاوراق وما ان وصل اليهما حتى اكد:- الداكتورة دلال المصري.. موچودة لمتابعة الحريم هنا ف النچع .. و توجه بحديثه لدلال هاتفا وهو يشير لباب المطبخ:- الخالة وسيلة كانت بتسأل عنك يا داكتورة ..
اكدت فى سرعة وهى تندفع للمطبخ:- انا رايحة لها حالا ..
هرولت باتجاه المطبخ وما ان دلفته حتى وجدت الخالة وسيلة غارقة بين اوانيها تحضر الغذاء للضيف الغير مريح بالخارج ..
هتفت وسيلة ما ان رأتها:- هااا .. ايه الاخبار!؟.. مرت عوض ولدت بالسلامة !؟..
اكدت دلال و هى شاردة:- اه .. الحمد لله ..
هللت وسيلة متسائلة:- الله اكبر .. وربنا چاب ايه !؟..
اكدت دلال مبتسمة:- جابت توأم ولدين ..
كبرت وسيلة من جديد مهللة:- الله اكبر .. الله اكبر .. دِه عوض هيعمل لك مجام يا داكتورة .. ولدين بعد تلت بنات .. يا فرحتك يا عوض .. تلاجيه ماسك السما بيديه م الفرحة ..
ابتسمت دلال هاتفة:- ربنا يسعد الجميع ..
أمنت وسيلة هاتفة:- اللهم امين يا داكتورة و يچعلك سبب للفرحة دايما يا رب ..
قالتها وسيلة بنبرة ذات مغزى كادت ان تسألها عن مقصدها الا ان عفيف اندفع من باب المطبخ هاتفا فى ضيق:- خبر ايه يا خالة !؟.. فين الغدا !؟.. خلينا نخلصوا م الأخ الثجيل اللي بره دِه ..
هتفت وسيلة متسائلة:- مين دِه يا عفيف بيه!؟.. اول مرة اوعاله ..
هتف عفيف زافرا في ضيق:- دِه واد الضمراني بيه شريكي ف المشروع اللي جلت لك عليه .. ابوه بعته بداله يعاين ارض المشروع .. بلانا بيه .. معرفش مجاش هو ليه بدل العيل الفجري دِه ..!؟..
هتفت وسيلة متسائلة:- هو هيبيت و لا هياخد بعضه ويطرجنا !؟..
اكد عفيف:- سمعته بيحول لأبوه انه هيعاين الارض ويرچع طوالي .. لكن من دجيجتين جالي انه هيبيت وكان بيسأل عن مكان جريب يبيت فيه ..
هتفت وسيلة:- وجلت له ايه !؟..
هتف عفيف متعجبا:- وااه يا خالة ومن ميتا حد بياچي بيت النعماني و يبيت براه !؟..
شهقت وسيلة هاتفة:- هيبيت ف البيت الكبير !؟.. دي محصلتش جبل سابج ..
هتف عفيف بنبرة حازمة:- الداكتورة ف المُندرة يا خالة .. يبجى يجعد هنا ..
اومأت وسيلة متفهمة ولم تعلق بحرف بينما هتف عفيف من جديد و هو يستدير مغادرا المطبخ:- همي يا خالة ان شالله يخليكي .. خلونا نخلصوا م اليوم دِه على خير..
اكدت وسيلة ان الطعام سيكون جاهزا في غضون الربع ساعة وما ان غادر عفيف حتى تطلعت الى دلال التي كانت منزوية بأحد اركان المطبخ ولم تفه بحرف منذ دخول عفيف حتى غادر وهتفت بنبرة متخابثة:- اول مرة ينزل ضيف ف البيت الكَبير .. و كله عشان خاطر عيونك ..
هتفت دلال متعجبة:- عشان خاطر عيوني انا!؟..
قهقهت وسيلة مازحة:- لاااه .. عشان خاطر عيوني اني ..
اضطربت دلال لتلميح الخالة وسيلة الذي جعلها تحمل الاطباق مسرعة لتخرج لتجهز المائدة من اجل اطعام ذاك الضيف الذي جعل عفيف بيه يغير من طقوس مقدسة و ترك احد ضيوفه يقتحم خصوصية بيت النعماني في سابقة هى الاولى من نوعها على الإطلاق ..
دخل من الخارج متوجها للمطبخ يضع بعض الأغراض التي ابتاعها رغبة في إرضائها حتى تتناول بعض من طعام تحبه لأجل دواءها الذى يحتاج لتغذية .. تناهى لمسامعه صوتا يجاهد للوصول لموضع ما ألقى بنظراته تجاه بباها والذي فتح في تلك اللحظة لتظهر هى على أعتابه ووجهها يتصبب عرقا وهى تعافر للوصول للباب بحال قدمها المصاب ورأسها المعصوب ..
انتفض مندفعا اليها هاتفا فى عتاب:- ايه اللى قومك من مكانك بس !؟.. نادي وانا اجيب لك اللي انتِ عوزاه ..
ابتسمت في وهن وهى تتكئ على مصرع الباب هاتفة:- هتچيب لي الحمام ازاي !؟..
ابتسم بدوره هاتفا:- لا صعب ده يتجاب .. واستطرد وعلى وجهه نفس الابتسامة:- بس سهل اننا نروح له ..
اقترب منها يسندها وهو يراها تترنح شاعرة بدوار يكتنف رأسها الموجوع احتضن كفها الذي لم يمانع في البقاء باحضان كفه واسند كتفيها ضاما إياهما بعرض ذراعه .. لكن لم يكن ذلك كافيا فلم يكن باستطاعتها في هذا الوضع التحميل عليه بدلا من قدمها المصابة وبلا وعى منه انحدرت كفه من اعلى كتفها لتستقر على خصرها تضمه بقوة لكى تستطيع الاتكاء عليه حتى تصل للحمام ..
اوصلها اخيرا لداخل الحمام ليتنهد في راحة ما ان خرج مغلقا الباب خلفه .. كان يرتجف .. نعم يرتجف .. اصبح قربها داميا ومهلكا .. كانت كالجمر المستعر وكان هو حطبا جافا قابلا للاشتعال .. ازدرد ريقه الجاف بصعوبة وما كاد ان يستعد رباطة جأشه حتى ظهرت من جديد علي اعتاب الحمام ليهتز ثباته مجددا وما عاد لديه الشجاعة ولا القدرة على اعادة التجربة السابقة من جديد فتناهى لخاطره فكرة قرر تجربتها فورا اتقاء لموجة احتراق جديدة فاندفع لمقعد خشبي و جذبه واضعا اياه امامها هاتفا:- اقعدي..
نظرت الي المقعد متعجبة لكنها أطاعته وجلست في تؤدة وما ان استقرت على المقعد حتى اعاد ظهر المقعد للخلف قليلا حتى اصبح على قوائمه الخلفية فقط ودفع به في اتجاه غرفتها ..
قهقهت هى رغما عنها هاتفة:- دي توصيلة تمام التمام..
هتف بدوره ما ان اوصلها جوار فراشها:- حمد الله ع السلامة ..
قهقهت من جديد ليستطرد هو:- ف يوم دلال انكسرت رجلها وحلفت عليا ما اشيلها .. كانت خايفة على ضهري برغم انها بالنسبة لي كانت خف الريشة بس هى طول عمرها بتخاف عليا م الهوا الطاير ..
تنهد مكملا بنبرة تحمل شجن لا يمكن إغفاله وصل لشغاف قلبها قبل اذنيها فتطلعت اليه والى ملامح وجهه المتقلبة وهى تستند لتجلس على طرف الفراش:- ساعتها .. اخترعت لها حكاية الكرسي دي.. وهى رايحة اوجاية أذقها ع الكرسي ..لدرجة إننا اخدناها لعبة بعد ما خفت ..
قهقه للذكرى حتى انها لمحت لمعان لأدمع عزيزة بمآقيه مما جعله يهتف مسرعا:- عن اذنك .. هروح أحضر العشا ..
واندفع مبتعدا خارج الغرفة تتعقبه نظراتها العاشقة رغما عنها ..
ابتسمت شريفة لولدها ما ان طالعها محياه وهى تفتح باب شقتهما:- شريف .. ايه المفاجأة الحلوة دي!؟..
انحنى شريف مقبلا جبينها هاتفا:- اعمل ايه بس يا حجوج !؟.. مبقتش اقدر ابعد عنك .. يا مدوبة القلوب انت ِ ..
قهقت شريفة هاتفة خلف ولدها الذي اندفع لحجرته يخلع عنه بدلته الميري:- انا برضو .. ولا دكتورة القلوب !؟..
انتفض شريف وقد توقفت كفه عن فك أزرار سترته:- قصدك مين يا ماما !؟..
هتفت شريفة مؤكدة:- هو في غيرها .. الدكتورة زينب طبعا ..
هتف شريف مبتسما في حياء غير معتاد:- هو انا باين عليا قوي كده!؟..
هزت امه رأسها ايجابا هاتفة:- يوووه .. قووووي ..
هتف هو في حنق:- امال هى مش واخدة بالها ليه !؟..
اكدت امه هاتفة:- يا حبيبي دي بنت ناس .. وعمرها ما هتبين انها واخدة بالها طالما انت متقدمتش خطوة لقدام في اتجاه حاجة رسمية ساعتها بس ممكن تعرف هى فعلا عايزاك ولا لأ ..
ساد الصمت لحظات ليهتف شريف بعدها:- طب انا رايح لها ..
تساءلت امه:- ليه بقى !؟.. مش حلو يا بني كل شوية تنط لهم كده ..
اكد شريف:- انا هوديلها جواب من الدكتورة دلال صاحبتها .. و ..
هتفت شريفة في فضول:- و ايه!؟..
ابتسم شريف مؤكدا:- وهاخد خطوة .. و استأذن امها ف إننا نزورهم ..
احتضنته امه هاتفة:- ايوه كده .. فرحني بعيالك قبل ما أموت ..
انتفض شريفا محتضنا إياها:- بعد الشر عنك يا ست الكل .. وربنا يديك الصحة .. و
صمت يتطلع اليها في تخابث لتهتفت تتعجله:- وايه !؟..
هتف مازحا:- وأجوزك وافرح بيكِ انت كمان يا حجوج ..
قهقهت امه فهتف يشاكسها:- سامعك وانتِ بتقولي ياااريت.. علت ضحكاتها من جديد هاتفة:- طب ياللاه اجري روح للدكتورة بتاعتك ..
ارتدى شريف ملابسه على عجالة مندفعا باتجاه بيت زينب يكاد يطير حتى يصل اليها وتأكد ان خطاب دلال بجيب سترته فربت عليه في سعادة منتشيا فمنذ ان اوصلها مع مناع وعاد معه مباشرة للنجع وهو يعد الليالي ليعود مجددا للقاءها .. كان يضع كفه على قلبه عند وصولهم يومها لبيتها مخافة ان يرى مناع نديم .. وهوالذي تطوع للصعود بالصناديق الكرتونية المحملة بما لذ وطاب من خيرات الصعيد حتى يضمن ان يظل مناع بالأسفل داخل العربة تجنبا لأي مصادفة قد تدفعه لرؤية نديم اوناهد وكذلك .. دفعه وجوده للإسراع في المغادرة دون وداعها كما يجب ..وها هو في سبيله اليها..ولن يعود الا بتحديد موعد لسعادة قلبه ..
جلس عفيف يتوسط مجلس النعمانية المنعقد لمناقشة بعض الامور الطارئة الخاصة ببعض الخلافات هنا وهناك الا ان صفوت بلا اي مقدمات نهض هاتفا في غضب:- معدش فيها سكات يا واد عمتي .. خلاص .. المستخبي كله بان ..
رغم ان كلام صفوت زلزل عفيف داخليا الا انه تظاهر بالثبات هاتفا في لامبالاة:- سكات ايه ومستخبي ايه يا صفوت اللي عتتكلم عنِه !؟..
هتف صفوت حانقا:- موضوع طلبي يد اختك يا عفيف بيه .. اعتبره ماكان .. و اني اللي ميشرفنيش نسبكم ..
انتفض عفيف مندفعا باتجاه صفوت ممسكا بتلابيه صارخا في صوت كالرعد هز المكان برمته:- انت واعي لحديتك يا عويل !؟.. عارف ان الكلام اللي بتجوله دِه يضيع فيه رجاب وأولهم رجبتك !؟..
هتف صفوت في غل:- عارف وواعي اني بجول ايه .. وأختك اللي حفيت عشان اتچوزها اني اللي بجولك دلوجت انها متلزمنيش ..
انتفض رجال النعمانية لفك التشابك بين عفيف وصفوت وما ان ترك عفيف صفوت من بين كفيه حتى اخرج سلاحه في غضب هاتفا:- والله يا صفوت ما ليك الا دِه عندي بعد الكلمتين اللي جولتهم دوول ..
هتف صفوت متحاميا في رجال النعمانية هاتفا في صوت هادر بدوره:- لو اني كداب .. جول لرچالة النعمانية اختك فين يا كبيرهم !؟..
هم عفيف بالكلام ليعاجله صفوت صارخا:- ومتجوليش عند بت خالتها ف المنصورة لأني نزلت المنصورة بنفسي وأختك معتبتش هناك من اساسه ومخطتش المنصورة من سنين يا عفيف بيه .. جولهم بجى اختك فين يا زين الرچال!؟..
انتفض عفيف يحاول الوصول لصفوت ليخنقه بكلتا يديه الا ان رجال النعمانية وقفوا حائلا بين عفيف وبين الوصول لصفوت الذي هتف من جديد:- طب اني كداب .. لو انت صادج وهى هناك روح چيبها .. ولو رچعت بيها يبجى احكموا علىّ الحكم اللي تشوفوه .. واني راضي ..
هتف احد الرجال مؤيدا:- صح يا عفيف بيه .. اجطع لسان الكل وروح چيب اختك ..
هتف اخر:- ايوه هو دِه الكلام يا عفيف بيه .. و لو حد غيرك ف المطرح دِه كنت انت نفسيك حكمت عليه بكِده ..
هز عفيف رأسه في ثبات يحسد عليه هاتفا:- هروح اچيبها .. بس لو رچعت بيها يبجى جول على روحك يا صفوت يا رحمن يا رحيم.. خوضك ف عرض النعماني ميمحهوش الا الدم .. و انت اللي اختارت ..
هتف صفوت ساخرا:- وماله يا واد خالي .. اني راضي ..
هز عفيف رأسه مجددا في تأكيد واندفع خارج المجلس مهرولا باتجاه البيت الكبير ..
استعدت للنوم وهى على يقين من ان النوم لن يزورها مبكرا تلك الليلة فقررت التسلل للمكتبة لإحضار احدى الروايات لتكون رفيقتها بليلها الطويل ..
دلفت لحجرة المكتب ما ان تأكدت ان لا احد بالداخل ضبطت حجابها على رأسها وشدت مئزرها حول جسدها وتقدمت لرف الروايات و بدأت في اختيار احداهن .. لكنها استشعرت حركة بالقرب من باب المكتب فاندفعت تختبئ خلف احد الأعمدة .. لا تعرف ما الذي دفعها لذلك لكن حدسها يؤكد ان القادم ليس بعفيف .. وقد صدق حدسها عندما طالعها ذاك الضيف السمج .. تامر الضمراني وهو يتسلل في خفة للداخل متجها لمكتب عفيف يعبث هنا وهناك ببعض الاوراق والملفات ويحاول فتح بعض الأدراج عنوة ..
استشعرت الخطر وحاولت اخفاء وجودها قدر الإمكان لكن للاسف حركتها البسيطة تلك عند محاولة الاختباء أسقطت احد الكتب مما استرع انتباه تامر لينظر تجاه موضعها ليتعجب اولا قبل ان ينهض من موضعه في اتجاهها مبتسما في سماجة:- اهلًا .. اهلًا .. اختفيتي فين من بعد الغدا يا دكتورة !؟..
خرجت من موضعها لتطالع تامر الذي ابتسم ابتسامة صفراء هاتفا:- ايه يا دكتورة مالك !؟.. انا مجاليش نوم قلت أجي اقرا شوية..
ابتعدت عنه في محاولة للفرار من امامه مندفعة للباب الجانبي للمكتب ومنه لحجرتها الا انه كان الأسبق ليعترض طريقها هامسا بنبرة أرجفتها:- على فين يا دكتورة .. ما تخليكِ معايا شوية وصدقيني مش هاتندمي ..
قال كلماته الاخيرة وهو يقترب منها في صفاقة فاضطرت للتقهقر حتى اصطدم ظهرها بالمكتبة واصبحت محاصرة بينها وبين ذراعيه اللذين وضعهما موازيين لوجهها واقترب بوجهه من وجهها هامسا بصوت كالفحيح:- اسمك دلال .. و انا متأكد اني هشوف الدلال كله ..
دفعته عنها بقوة وهي تحاول الخروج من باب المكتبة المفضي للبيت الكبير هذه المرة الا انه جذبها وحاصرها مرة اخرى فشعرت بيد باردة تعتصر معدتها ورغبة في افراغ ما بداخلها لقربه منها بهذا الشكل ..
كان يأسرها بشكل لم تستطع منه فكاكا ولم تكن تع اين ذهب صوتها الذي حاولت إخراجه عدة مرات لكنه خانها جراء صدمتها لما يحدث وما ان همت بالصراخ اخيرا الا وكان هو الأسبق واضعها كفه على فمها مانعا صوتها من الخروج هامسا بحقارة:- لااا .. ليه كده!؟.. انا قلت انت عاقلة .. هو في عاقلين يفضحوا نفسهم كدا !؟..
لا تعرف كيف منحها الله القوة لتعض كفه التي كانت تطبق على فمها ليطاوعها صوتها صارخا في تضرع باسمه:- عفيييييف ..
كان عفيف في تلك اللحظة يصعد الدرج قادما من الخارج يحمل هم الدنيا على كتفيه بعد مواجهة صفوت امام رجال النعمانية جميعهم ..فمن اين له بناهد!؟.. واين يمكنه ان يجدها ويحضرها الي هنا انقاذا لشرف النعمانية في غضون ساعات !؟...
انتفض عندما وصله ندائها المجرد باسمه بهذا الشكل الذي هز اركان روحه .. ألقى عصاه جانبا وأزاح عنه عباءته واندفع في اتجاه مكتبه حيث كان مصدر الصراخ القادم من اعماق روح تطلب النجاة ..
دفع الباب ليتسمر لحظة موضعه و فجأة ينقض على ذاك الخسيس المدعو تامر جاذبا اياه مبعده عنها و بدأ يكيل له اللكمات المتتابعة بلا توقف .. اندفعت هى تنزوي بأحد الأركان تشهق غير قادرة على البكاء صدمة وكان عفيف مستمرا فى تلقين ذاك الحقير ما يستحق و اخيرا ألقى به جانبا مندفعا اليها و هتف ما ان وصل لموضعها وهو يلتقط انفاسه في تتابع لاهثا:- انتِ بخير يا داكتورة !؟..
رفعت نظراتها اليه وهى لاتزل ترتجف ذعرا واخيرا انفجرت في بكاء دام أوجع روحه المقهورة عليها .. كان يقف ضاما كفيه في غضب وصدره يهبط ويصعد في اضطراب لمرأها بهذا الشكل وهو غير قادر على اتيان ما يهدئ من روعها .. غير قادر على ضمها اليه وبثها الطمأنينة التي تستحق .. زاد اضطرابه بعد خواطره تلك مما دفعه ليعود مرة اخرى لذاك القذر تامر هاتفا به في غيظ:- و الله انت ما تستاهل تعيش بعد اللي عملته دجيجة واحدة ..
شهقت دلال من بين دموعها و انتفض تامر موضعه غير قادر على النهوض محاولا الهرب و عفيف يخرج سلاحه من صدر جلبابه جاذبا أجزاءه موجها اياه لتامر هاتفا:- دِه اللي تستاهله يا نچس عشان تعرف يعني ايه حرمة بيت النعماني ..
اندفعت دلال فى ذعر حقيقي صارخة:- لااا يا عفيف بيه ..بلاش دم ..
لكن عفيف لم يكن بوعيه لحظتها .. فمنظر تامر وهو يمسك بتلابيها و هى غير قادرة على الإفلات منه جعل براكين من الغضب والثورة تستعر بشرايينه فلا يستمع لصوت العقل .. انطلقت الرصاصة من موضعها مصحوبة بصراخ دلال الصادر من أعماق مقهورة ..
اندفع مناع بذعر لداخل البيت الكبير اثر سماعه لصوت إطلاق النار .. وصل لباب مكتب عفيف صارخا في ذعر:- خبر ايه يا عفيف بيه !؟.. ايه صوت الرصَاص دِه !؟..
كان عفيف يقف بمنتصف الحجرة شاهرا سلاحه وبالقرب منه الدكتورة دلال وعلى الارض يتمدد تامر الضمراني وجهه مخضب بالدماء .. لم يجب عفيف على اسئلة مناع الذي ظل على اعتاب الحجرة لم يحرك ساكنا بينما هتفت دلال في ذعر:- بلاش دم يا عفيف بيه .. مش عايزة حد يروح بسببي .
هتف عفيف صارخا:- دِه ميستاهلش ..
وركله عفيف في غضب قاهر و هو يستعد مرة اخرى لتوجيه سلاحه باتجاه تامر بعد ان طاشت رصاصته الاولى جراء تدخل دلال ممسكة بكفه مبعدة اياه الا انه قرر اعادة الكرة مما دفعها لتهمس بقربه في تضرع:- عشان خاطري يا عفيف بيه .. انا عايزة اخرج م البلد دي بسمعتي .. ارجوك .. كفاية قووى لحد كده ..
نظر عفيف لكفها الموضوع على ظهر كفه الحاملة لسلاحه فأرتجفت روحه .. ولأجل خاطرها الذي حلفته به اخفض كفه الحاملة للسلاح حتى يتخلص من تأثير لمساتها وتوجه بناظريه لمناع امرا:- خد النچس دِه وارميه لأجرب مكان يجدر ياخد منيه حاچة توصله مصر..
وتطلع لتامر الذي جذبه مناع من موضعه ارضا مستطردا:- والله لولا الداكتورة وشفاعتها فيك لكنت مدفون مطرحك يا خسيس ..و ابجى سلملي على ابوك ان مجطعتكش ديابة الچبل جبل ما تروحله وجوله كل اللي ما بينا لاغي.. غووور..
صرخ عفيف بكلمته الاخيرة ليهرول مناع جاذبا تامر خارج المكتب ومنه لخارج البيت الكبير..
استدار عفيف لدلال التي كانت دموعها لاتزل تترقرق بمآقيها فغض الطرف حتى يستطيع ان ينطق بما انتواه وهتف فى حزم:- كفاية جوووى لحد كده .. انتِ صح يا داكتورة .. انتِ صح .. حضري حالك عشان من بعد الفچر مناع هيخدك يرچعك لدنيتك ولحياتك اللي خدناكِ منيها .. عن اذنك ..
هم بالاندفاع مبتعدا الا ان دلال استوقفته هاتفة:- عفيف بيه !؟..
توقف عفيف لكنه لم يستدر لملاقاة نظراتها التي ما عاد له القدرة على التطلع اليها دون ان يشعر بشئ ما يتصدع داخله وهتف في صرامة:- اني محجوج لك يا داكتورة .. واسف اني جبتك لهنا .. واسف اكتر اني مجدرتش احميكِ من حاچات كَتير.. مع السلامة ..
واندفع لخارج المكتب كمن تلاحقه آثامه التي لطالما أنكرها ليتركها موضعها تشعر ان الارض قد خلت من ساكنيها وان روحها قد غادرتها وهي تراه يبتعد عنها موليا بلا رجعة..
دلفت الي حجرتها بعد ان جرت اقدامها جرا من موضعها الذي تسمرت به بعد مغادرته إياها .. وصلت لجوار فراشها وانهار جسدها لتجلس على أطرافه متطلعة الي الفراغ امامها.. لا تعلم كم مر من وقت وهى على حالها ذاك و اخيرا تناهى لمسامعها صوت همهمات بحجرة المكتب جعلتها تنهض من جديد مقتربة من بابه تلتصق به ترهف السمع لمناجاة بصوت اشتاقته قبل ان تغادر صاحبه الذي قرر رحيلها عنه بعد عدة ساعات .. كان يهمهم بتضرع ما جعل فؤادها يترنح كالذبيح .. تضرعه اعاد الدمع لأجفانها من جديد لتسيل سخينة على خديها وصوته يعلو دون وعي منه يؤكد على وجع بحجم الكون وهو يبتهل:-
لبِستُ ثوب الرَّجا والناس قد رقدوا
وَقمِتُّ أشكوا إلى مولاي ما أجدُ
وقُلتُ يا أمَلي في كلِّ نائبة
ومَن عليه لكشف الضُّرِّ أعتمد
أشكو إليك أموراً أنت تعلمها
ما لي على حملها صبرٌ ولا جلدُ
وقد مدَدْتُ يدِي بالذُّلِّ مبتهلاً
اليك يا خير من مُدَّتْ اليه يدُ
فلا ترُدَّنها يا ربِّ خائبةً
فبَحْرُ جودِكَ يروي كل منْ يَرِد.
كادت ان ترتفع شهقات بكائها وودت لو تدفع الباب لتزيح بعض من ذاك الهم عن كاهليه لكنها عادت لغرفتها من جديد ومدت كفها لقلم وبعض الاوراق وبدأت تكتب كل ما كان يجول بخاطرها انتهت ووضعت الخطاب داخل احدى الروايات وقد قررت تركه له على مكتبه عند مغادرتها صباحا .. نهضت من موضعها في اتجاه النافذة التي نسيت سحب ستائرها عندما حلت العتمة لتكتشف ان السماء تشاطرها حزنها بماء منهمر من اعين فاضت حين فاض الحزن عن الحد ..
كانت ادمع السماء تهطل بغزارة غير مسبوقة ولم تعهدها منذ قدومها للنعمانية .. تنبهت من خلف زجاج النافذة لمناع الذي كان يتجه لداخل البيت الكبير مهرولا مناديا على عفيف بلهفة ونبرة مذعورة لم تكدب خبرا فاندفعت بدورها تستكشف ما يحدث وقد استشعرت بحدسها ان الامر جلل .. هبطت الدرج في عجالة و منه للمطبخ ووقفت خلف بابه المشرع لتفهم سر اندفاع مناع الذي كان يلهث من فرط انفعاله والذي كان يقف مع عفيف مشيرا للخارج في لوعة ..
اتم عفيف ضبط عمامته على رأسه واندفع مع مناع لخارج البيت الكبير لم تع حتى اللحظة ما يحدث .. لكنها ادركت من ذعر عفيف الذي ما كان يهتز ولو اهتزت الارض تحت قدميه ان الامر تخطى حدود اللامعقول ..وان الوضع جد خطير ..
↚
طرق على الباب بشكل مستفز مما دفع زينب لتصرخ بالداخل وهى فى سبيلها لفتح الباب:- ايه !؟.. في ايه !؟.. مين اللي بيخبط كده ده !؟..
فتحت الباب بعنف ليطالعها وجهه الذي كان يوما ما محببا الي قلبها اكثر من اهل الارض جميعا ..نظرت اليه في غضب هاتفة:- نعم!؟..
حاول ان يحشر جسده ليدخل هاتفا:- ايه يا بنت عمي !؟.. مش هتقوليلي اتفضل !؟..
دفعت به بعيدا حتى يلزم موضعه هاتفة بحنق:- مينفعش تدخل لان ماما مش هنا .. وحتى لو كانت هنا برضو مش هتدخل .. عايز ايه يا باشمهندس حاتم !؟..
اقترب منها في صفاقة هاتفا:- عايزك يا زوزو .. وعمري ما هاعوز غيرك ..
قهقهت في سخرية:- أنسى .. الموضوع ده خلص ومعدش ينفع خلاص .. وقتك معايا انتهى وزينب اللي كنت تعرفها وعشمتها بمحبتك دي ماتت خلاص .. اللي قدامك دي زينب تانية خااالص ..
همس في فجاجة:- شوفي انا اتجوزت كام مرة بس مفيش واحدة عرفت تاخد مكانك ف قلبي .. برضو اللي ف القلب ف القلب يا زوزو..
اكدت في عزم:- صح اللي ف القلب ف القلب وانا اللي بقى جوايا من ناحيتك يخليني اقتلك و انت واقف دلوقتي .. لان اللي بينا بقي دم .. عارف يعني ايه دم يا حاتم !؟.. وابويا هيفضل ما بينا ليوم الدين..
وامسكت بمصرع الباب تهم بغلقه الا انه وضع كفه مانعا إياها وقد انقلبت نبرته السمجة الي اخرى مهددة اقلقتها وخاصة ان لا امها بالبيت ولا حتى نديم موجود بالشقة المجاورة للزود عنها..
هتف حاتم متوعدا وهو لايزل يحاول دفع الباب للدخول عنوة:- انتِ والبيت ده من حقي .. ويا اخدك يا اخد البيت .. وطالما ابوكِ كتب البيت ده باسم امك القرشانة يبقى انتِ بتاعتي انا..
واستمرفي دفع الباب حتى يدخل وظلت تقاوم هى من الداخل دافعة الباب ف الاتجاه المعاكس محاولة الزود عن نفسها ..
كاد الباب ان ينفرج سامحا له بالدخول الا ان ظهوره المفاجئ صارخا وجاذبا حاتم كان فاصلا للمعركة فقد سقطت زينب على اعتاب البيت لاهثة بينما بدأ شريف في تسديد الضربات واللكمات لحاتم في غضب قاهر واخيرا جذبه شريف من ياقة ملابسه يهزه في عنف:- انت مين !؟.. و ايه اللي جابك هنا !؟..
هتف حاتم لاهثا وهو يمسح خيط من الدم سال من شفته السفلى:- انا بن عمها .. انت بقى اللي مين !؟..
رجه شريف صارخا:- وانت مالك انا ابقى مين!؟..وبعدين بن عمها وتعمل كده !؟.. قال بن عمها .. طب قول كلام يتصدق يا خفيف ..
اكد حاتم صارخا:- اسألها .. انا بن عمها .. حضرتك بقى اللى مين !؟..وجاي هنا ازاى وامها مش موجودة !؟..
وهتف حاتم محاولا قلب الطاولة لصالحه صارخا في زينب التي كانت لاتزل ارضا منكسة الرأس:- مين ده يا هانم ..!؟.. وجاي هنا ليه وامك مش موجودة!؟.. وعاملة لي فيها شريفة عليا انا بس!؟..
استثار كلامه شريف ليصرخ موجها اليه لكمة قوية:- اخرس قطع لسانك .. دي اشرف من اهلك كلهم ..
ودفع بحاتم في اتجاه الدرج هاتفا:- غور من هنا ياللاه بدل ما يكون نهايتك النهاردة على أيدي ..وحاول تقرب تاني من البيت ده وانت هتشوف اللي عمرك ما شفته .. واقسم بالله لهنيمك ف التخشيبة وألففك كعب داير لو لقيتك مش بس قريب م البيت لا لو حتى معدي ف الشارع ده تاني والا مبقاش انا النقيب شريف عبدالواحد ..
انتبه حاتم لتهديدات شريف فاندفع مسرعا خارج البيت ليعود شريف يعتلي تلك الدرجات التي نزلها خلف ذاك الأحمق ليجدها على حالها تجلس منهارة امام عتبة الباب ..
انحنى في إشفاق هامسا:- زينب !؟.. انتِ كويسة!؟..
كانت المرة الاولى التي يناديها فيها باسمها مجردا وكم تمنت الا تسمعها منه في موقف كهذا يمثل جم ضعفها فهمسه باسمها جعلها هشة تكاد تلق بنفسها بين ذراعيه رغبة في الأمان الذي افتقدته منذ غادر ابوها دنيانا على اثر شجار بينه وبين عمها والد حاتم والذي كان يدرك تماما ان ابيها مريض بالقلب ولا طاقة له على الشجار والمناقشة العقيمة .. رفعت عيونا دامعة اليه ولم تجب فما كان منه الا انه تنهد في وجع يود لو يحتويها صارفا عنها صنوف الهم التى يراها مجسدة بمقلتيها ..
مد كفا بتلقائية اليها فاستندت على تلك الكف الممدودة حتى نهضت واتجهت في بطء باتجاه اقرب المقاعد للباب وجلست.. ظل هو موضعه لم يتزحزح فما كان له ان يطأ البيت وامها ليست بالداخل وليس لديه القدرة على تركها بهذه الحالة .. وما بين هذا الاحساس وذاك ظل على صراعه ممزقا حتى ظهرت امها خلفه هاتفة في تعجب:- جرى ايه !؟.. فيه ايه يا شريف يا بني واقف كده ليه !؟..
لم يجب هو لكن زينب ما ان طالعت امها بجوار شريف على عتبة الباب حتى اندفعت اليها تحتمي بأحضانها منفجرة فى البكاء بشكل أدمى قلبه وجعل ماجدة تهتف في ذعر:- ايه اللي جرى يا زينب!؟.. ما حد يفهمني فيه ايه !؟..
هتف شريف باقتضاب:- حاتم بن عمها ..
شهقت ماجدة هاتفة:- وده ايه اللي جابه وفكره بينا بعد المدة دي كلها !؟.. مش كفاية اللي حصل لنا من تحت راسه هو وابوه !؟..
هتف شريف بفضول:- معلش يا طنط .. بس انا ممكن افهم ايه الحكاية !؟..ولا ده هيبقى تدخل مني!؟..
اشارت ماجدة لشريف هاتفة:- اتفضل يا بني ادخل.. معلش اتلهيت ف زينب ومقلتلكش اتفضل.. ادخل وانا هفهمك على كل حاجة ..
رفعت زينب رأسها هاتفة في رفض:- مااامااا.
هتفت ماجدة معارضة رفضها:- شريف بقى مننا وعلينا ولازم يعرف .. مفيش حاجة هتستخبى طول العمر ..
جلس شريف في هدوء منتظرا ان تحكي ماجدة ما كان يستشعر ان زينب تخبئه بين طيات قلبها الذي كان دوما يحلم بامتلاكه ..والذي كان دوما بعيد المنال ..
ما ان اندفع عفيف ومناع للخارج حتى دفعت باب المطبخ لتدخل لصحن البيت الكبير باحثة عن الخالة وسيلة التي لم تكذب خبرا وظهرت مندفعة من حجرتها التي كانت غافية بها لبعض الوقت قبل ان تتجهز لتشاركها غرفتها كالعادة ..
هتفت دلال متعجبة:- في ايه يا خالة !؟.. عفيف بيه خرج ليه مع مناع ف الوقت ده وبالشكل المذعور ده !؟..
هتفت وسيلة في قلق:- و النبي ما اعرف يا بتي .. ربنا يسترها ..ده حتى النطرة النوبة دي غير.. مبطلتش رخ من بدري..
ما ان همت دلال بالكلام حتى اندفع عفيف لداخل البيت الكبير متجها للأعلى استوقفته الخالة وسيلة هاتفة في ذعر:- ايه في يا عفيف بيه !؟.. مش خير برضك!؟.
توقف عفيف على الدرج هاتفا في عجالة:- لاه مش باينه خير يا خالة وسيلة .. النچع هايغرج.. سيل نازل م الچبل وطال البيوت اللي تحتيه ولازما نلحج الناس هناك ..
صرخت الخالة وسيلة في صدمة مصاحبة لشهقة دلال:- سيل !؟..يا رب سلم ونچى م المهالك .. وچالنا منين دِه !؟..
اكد عفيف وهو يندفع للأعلى من جديد:- النچع على مخر للسيول .. ربنا يسترها ..
تابعته دلال بناظريها مدركة ان مشروع رحيلها الذى كان معد سابقا سيبوء بالفشل بعد تلك الاحداث الجديدة .. اندفعت عائدة لحجرتها و منها للشرفة المطلة على مدخل البيت الكبير وتطلعت للجبل الغربي امامها فرأته ثائر كطفل أجبرته السماء على الإزعان لها كأم قررت ان تغسل وجهه المترب بسيل من دمعها العرم .. كان المشهد مهيب جعلها تفغر فاها مشدوهة لكنها تنبهت لبعض الضجيج بالأسفل فتطلعت لمدخل البيت الكبير لتجد عفيف و قد اعتلى صهوة فرسه واندفع في طريقه وقد أغرقته الأمطار كليا فبات منظره وهو يندفع بجواده اسفل الغيث كأحد فرسان العصور الوسطى وهو في طريقه لإنقاذ شعبه كمبعوث للعناية الألهية..
وضعت ماجدة كوب العصير امام شريف هاتفة:- اتفضل يا بني اشرب ..
مد شريف كفه للكأس وعيناه تتجه رغما عنها لتلك التي تجلس بعيدا في احد الأركان شاردة لا ترفع نظراتها عن الارض.. ارتشف القليل لتهتف ماجدة في شجن:- بص يا بني .. حاتم ده يبقى بن عم زينب .. و كان كمان ..وصمتت قليلا لتستطرد:- وكان جوزها ..
انتفض شريف موضعه هاتفا في صدمة:- جوزها !؟..
اكدت امها بلهجة موجوعة:- اه .. كان جوزها .. كتبوا الكتاب .. وكل حاجة كانت ماشية تمام .. لكن يوم الفرح ..
ساد الصمت قليلا ماجدة تلتقط انفاسها في وجيعة هاتفة:- يوم الفرح جه حاتم وابوه وقالوا لأبو زينب .. يا تتنازل عن البيت ده لينا حالا بيع وشرا.. يا اما بنتك هتتفضح النهاردة ومفيش فرح.. لأن بن عمها سمع عنها اللي يخليه ميفكرش يتم جوازه بيها ..
شهق شريف ولم يعقب ونظر لزينب التي كانت تبكي بوجع في موضعها القصي هناك بدموع صامتة تنساب على خديها ..
اكملت ماجدة هاتفة وطعم الذكري الأليم لا يفارقها:-ابوها كان مريض قلب وما استحملش اللي حصل .. كلمة منه على كلمة من اخوه .. وقع من طوله لما حاتم رمى يمين الطلاق على زينب لما عرف هو وابوه ان البيت اصلا مكتوب باسمي ومش هيطولوا منه حاجة لو اتجوزها ..
ساد الصمت من جديد حتى هتفت ماجدة دامعة العينين:- راح فيها عبدالحكيم .. ومن بعدها كل شوية حاتم ده يروح ويجي يرازي فينا .. بس كان بقاله فترة غايب بعد ما اتجوز جوازته الاخرانية دي .. ايه اللي فكره بينا تاني !؟..الله اعلم ..
ساد الصمت من جديد ليتنحنح شريف في احراج هاتفا:- طب استأذن انا بقى يا طنط .. و شكرًا على العصير ..
توجه في سرعة باتجاه الباب وقبل ان يهم بالخروج تذكر خطاب دلال فأخرجه من جيب سترته ووضعه على الطاولة القريبة منه هامسا بصوت متحشرج:- ده جواب من الدكتورة دلال لنديم .. يا ريت توصلوه ..
قال كلماته واندفع خارجا حتى انه لم يلق نظرة على تلك التي كانت تجلس موضعها كتمثال بلا روح.. رافقته امها للباب هاتفة:- سلم لي على ماما يا شريف .. شرفت يا بني ..
ما ان اغلقت ماجدة الباب حتى انتفضت زينب ترتمي باحضان امها صارخة في لوعة:- خلاص .. مش هايجي تاني يا ماما ...
ربتت ماجدة على كتف ابنتها هامسة:- بصي يا حبيبتي انا كان لازم اقوله كل حاجة عشان ميتعشمش ع الفاضي وعشان يقرر هو عايز ايه ..ولو ربنا كاتب لك رزق معاه .. هاييجي يا بنتي .. و انا حاسة انه هاييجي وابقي شوفي ..
رفعت زينب رأسها تنظر لأمها في شك لتهتف
ماجدة من جديد:- عمر امك قالت لك حاجة وخيبت ..!؟..
هزت زينب رأسها نفيا لتؤكد ماجدة:- يبقى تقولي يا رب ..
همست زينب في تضرع:- يا رب ..
لتهمس ماجدة مشاكسة ابنتها تحاول اخراجها من حالتها:- بس يا بختك يا سيادة النقيب .. مكنتش اعرف ان في ناس بتحبك قوي كده !..
نكست زينب رأسها خجلا لتهمس ماجدة:- ربنا يجعله من نصيبك يا بنتي .. بصراحة هو جدع وبن حلال .. ياارب ..
تضرع قلب زينب في وجل صارخا:- ياااارب..
اندفعت دلال لداخل البيت الكبير ما ان رحل عفيف ومناع لإنقاذ ما يمكن انقاذه لتبقى بجوار الخالة وسيلة في انتظار اي جديد وصوت الرعد يجعلهما ينتقضا موضعهما كل دقيقة .. و ما زاد الامر سوءا هو انقطاع التيار الكهربائي فجأة فأصبح ضوء البرق هو ما ينير مكانهما..
همت الخالة وسيلة بالنهوض فتشبثت بها دلال هاتفة في ذعر:- انتِ رايحة فين يا خالة وسيباني!؟..
اكدت وسيلة في هدوء:- هچيب لنض نمرة خمسة عشان ننورالعتمة دي .. هنجعدوا كِده!؟
امسكت بها دلال هاتفة:- طب انا جاية معاكِ .. بس انتوا لسه بتستخدموا اللمض دي يا خالة!؟..
اكدت وسيلة وهى تدلف للمطبخ في يسر كأنها تحفظ الطريق ككف يدها حتى بقلب العتمة:- يا بتي اللنض دي من ايّام النعماني الكبير وعلى طول اني بنضفها وأشيلها لوجت عوزة واهاااا چه وجتها الشمع مينفعش عندينا دِه بيطفي من هبّة ريح ..
أخرجت وسيلة القناديل من موضعها باحد الأدراج هاتفة في سعادة:- اني لسه كنت معمراهم بالچاز .. كن جلبي كان حاسس ..
و بدأت في إشعال فتيل كل قنديل على حدى ..
أضاء المطبخ بنورالقناديل الخمس حتى اصبح وهاجا فهتفت دلال متعجبة:- المطبخ أتحول كأنه بقى الصبح ..
هتفت وسيلة بدورها في فخر:- معلوم .. تعالي نوزعوها على بره ..
امسكت كل منهما بقنديل في كل يد وتركن واحدا بالمطبخ وبدأت كل منهما في وضع قنديل بأحد الأركان حتى عم الضوء المكان طاردا جحافل العتمة التي كانت تحتله منذ لحظات.. همست دلال في وله:- ياااه .. الجو بقى عجيب.. انا حاسة اني رجعت يجي ميت سنة لورا..
قهقهت وسيلة هاتفة:- اني حاسة اني رچعت عيلة صغيرة يدي متبتة فديل چلبية امي اول نوبة ادخل فيها هنا .. بيت النعماني ..
وساد الصمت لحظات لتهتف دلال في قلق:- يا ترى ايه اللي بيحصل بره دلوقتي يا خالة !؟.. المطر كل ما دى ما بيزيد ..
همست وسيلة بقلق مماثل:- ربنا يسترها يا بتي .. عمرها ما حصلت جبل سابج .. اخر مرة شوفت فيها النچع غرجان كان ايّام النعماني الكبير وجت النيل ما كان بيدي الارض خيره ..
هتفت دلال مبهورة:- انتِ قصدك وقت ما فيضان النيل كان بيغرق الارض قبل ما يتبني السد العالي !؟..
اكدت وسيلة:- ايوه يا بتي .. كنه كِده .. كانت النعمانية دي تغرج ما تشوفي ارضها على مدد الشوف كانت المية محوطانا ومكنش بيبجى الا البيت الكبير اللي واجف صالب طوله زي دلوجت..
صمتت دلال ولم تعقب فقد ايقنت انها تعيش فترة من حياتها لن تتكرر وانها ستحتفظ بذكرياتها في النعمانية بمكان عزيزوغال بقلبها .. فقد شعرت هنا بانها اميرة عادت من قلب كتب التاريخ وحكايا الماضي ..
نادت عليه عدة مرات لكن لم يصله نداءها من اساسه فيبدو انه يغط في نوم عميق بعد عودته مرهقا عمله الذي ألتحق به منذ يومين مما جعلها تتحامل على قدمها السليمة حتى تصل للباب .. فتحته لتخرج في تؤدة وتمهل باتجاه الحمام محاولة ان لا تلق بحمل جسدها على قدمها المصابة التى لاتزل تؤلمها ما ان تلامس الارض ..
كانت قد اقتربت من الحمام لينفرج بابه فجأة عن محيا نديم يخرج منه مترنما وهو يغيب رأسه المبتل داخل احدى المناشف بينما يحيط خصره بأخرى ..
شهقت في ذعر لمرأه بهذا الشكل وكاد ان يختل توازنها وتسقط ارضا وخاصة بعد ان تعالت تأوهاتها لانها رغما عنها وهى تحاول التماسك ضغطت على قدمها المصاب مما استرع انتباهه على الفور ليجذب المنشفة عن وجهه ليجدها امامه على وشك السقوط ارضا فاندفع اليها ملتقطا إياها بين ذراعيه ..
حملها عائدا بها الى حجرتها هاتفا بها في غضب لا يعلم مصدره:- ايه اللي خلاكِ تقومي من مكانك !؟ .. انا مش قايل لك تناديني لو احتجتي حاجة.!..
هتفت بصوت مهتز النبرات وهي تلامس صدره بهذا الشكل الحميمي:- انا ناديت والله .. بس انت مسمعتش ..
وضعها علي الفراش برفق يتناقض مع هتافه الغاضب من جديد:- يبقى تستني لما اسمع..
وصل لذروة انفعاله بالفعل.. فذاك الغضب الذي كان يدع انه لا يعرف مصدره هو يعرف بل على يقين انه نابع من قربه منها بهذا الشكل الذي ما عاد قادرًا على السيطرة عليه .. كان قد اخترع موضوع المقعد المدفوع حتى يتحاشى اي تلامس بينهما .. لكن تحركاتها الغير محسوبة تلك يدفع هو ثمنها من أعصابه وقدرته على ضبط النفس ..
هم بالابتعاد عنها مسرعا لكن خفه المنزلي الذي كان لايزل مبللا جعل ساقه تنزلق ليسقط مندفعا تجاهها .. لتصبح في تلك اللحظة اسيرة ذراعيه .. شهقت في صدمة لكن تلك الشهقة الملتاعة الصادرة منها لم تمنعه من الشرود التام بها والتطلع اليها في عشق.. تلاقت عيناهما في صمت راعد وصخب اخرس .. وحوار دار بين كفها الأيمن وباب صدره الذي كان يتوسده طارقا لعل هذا الفؤاد الثائر بالداخل يجيب ذاك الداع ..
اقترب في تيه وشوق .. يدعوه ثغرها الوردي وما عاد قادرًا على تجاهل نداء تمنى تلبيته طويلا ..
لكن وللعجب ظهرت صورة دلال بالأفق لتحول بينهما في لحظة ليسطع خاطره بنور التعقل وقد ادرك مغبة ما كاد ان يقدم عليه .. اخته الغالية بين يديّ شقيقها .. وان لم يتق الله فيها هنا .. فكيف سيكون حال اخته بدورها هناك !؟.. هو يعلم انها زوجه .. حلاله .. لكن شئ ما حاك بصدره جعله ينتفض مبتعدا في ذعر .. نظر الي ناهد في اضطراب واخيرا اندفع مهرولا خارج حجرتها مغلقا بابها خلفه في عنف .. لتنتفض هى بدورها وقد ادركت ان كلاهما لن يعود لسابق عهده مرة اخرى ابدا .. وان الهوى الذي كان ينكر كلاهما المسير في دربه قد جهر باسميهما في قلب ميدان عامر ليُفتضح أمرهما وتتعرى مشاعرهما امام اعين لطالما أنكرتها .. أعينهما..
هتفت ورد داخل خيمتها التي كانت قد نُصبت حديثا منذ ساعات قليلة عند وصول جماعة الحلب لذاك المولد المعروف بتلك البلدة التي كانت تبعد عن النعمانية:- يخيبك يا بت يا لواحظ.. كل ده يطلع منك !؟.. تاريكِ مش هينة يا حزينة !؟..
كانت لواحظ قد حكت لورد صديقتها عما فعلت بصفوت وكيف جعلته كعجين طيع بين كفيها تشكل فكره كيفما شاءت وتوجهه لأفعال تخدم رغباتها في المقام الاول مدعية انها تسدي له الخدمات..
أطلقت لواحظ ضحكة رقيعة ممطوطة هاتفة في دلال ممجوج:- ولسه !؟.. هما شافوا مني حاچة!؟.. اللي ف چراب لواحظ كَتير ..
هتفت ورد صديقتها محذرة إياها:- لواحظ .. انت ناوية على ايه يا بت عم خفاچى !؟..احنا مش كد الناس دول .. انتِ صاحبة عمري و كيف اختي وخايفة عليكِ .. الناس دي لحمها مر وما ليهم عزيز ولاغالي بره بدنتهم ياخية ..
قهقهت لواحظ من جديد هاتفة بلامبالاة:- ولا يهمني .. بكرة لما يبجى ولاد الحلبية اسياد البلد هتعرفي انه كان عندي حج ..
هتفت ورد في ذعر:- ولاد مين !؟.. دوول يدفنوكِ حية انتِ وناسك كلهم .. بلاها اللعبة دي يا حبيبتي .. خلينا ماشيين چنب الحيط ربنا يسترها معانا ..
نظرت لواحظ الى ورد في اشمئزاز هاتفة:- اهو الكلام دِه هو اللي مخلينا محلك سر .. ولو مشيت وراه هعيش وأموت غازية الكل طمعان فيها .. لكن اني هانم .. واتولدت عشان ابجى ست الستات .. هى اي هانم اجل مني ف ايه !؟.
ودارت لواحظ حول نفسها في تيه وخيلاء تستعرض جمالها الفتان القادر على سلب ألباب الرجال مما دفع ورد لتتنهد في إشفاق هاتفة في قلة حيلة:- هجول ايه!؟.. راسك كيف الصوان .. اعملي ما بدالك .. وربنا يسترها ..
تطلعت لواحظ لصديقتها في كبر واندفعت خارج الخيمة تمشى الهوينى حتى الشادر المنصوب لعروضهم الراقصة متجاهلة أنظار الرجال المعلقة بها في كل خطوة ..
انتفضت شريفة من موضعها في اتجاه الباب عندما شعرت بحركة ما خلفه .. اخيرا وصل شريف وانفرج الباب عن محياه لتهتف ما ان طالعها محيا ولدها:- هااا .. عملت ايه يا شريف!؟.. كلمت مامتها !؟..
هتف شريف محاولا تغيير الموضوع بمزاحه الذي حاول اصطناعه هذه المرة:- ايه ده يا حجوج !؟.. انتِ ازاي لسه صاحية لحد دلوقتي!؟.. اللي ف سنك ناموا من بدري يا جميل ..
هتفت امه مبتسمة:- قول بقى يا شريف .. خدت ميعاد نروح لهم فيه !؟..
همس شريف بلهجة غامضة:- لا يا ام شريف .. الموضوع هيتأجل شوية ..
هتفت شريفة في امتعاض:- ليه بس يا بني !؟.. ده انا ما صدقت قلبك مال لواحدة وقلت خلاص هى دي ..
تنهد شريف مؤكدا وهو يقبل هامة امه:- معلش بقى يا ماما .. عندهم ظروف مخلتنيش اقدر افاتحهم ف الموضوع .. ربنا يسهل يمكن ف الاجازة الجاية .. كله بأمر الله ..
همست شريفة رابتة على كتفه:- ونعم بالله يا حبيبي ..
هم شريف بالتحرك في اتجاه غرفته لتستوقفه هاتفة:- طب احضر لك العشا يا حبيبي !؟..
هز رأسه رافضا:- لا مليش نفس يا ماما .. روحي نامي انت بقى اتاخرتي عن ميعاد نومك النهاردة.. و انا لو جعت هعرف اتعامل.. متقلقيش ..
همست وهى تتجه لغرفتها:- طب تصبح على خير يا حبيبي ..
همس مجيبا:- و انتِ من اهل الخير ..
دلف لغرفته مغلقا بابها خلفه واتجه لفراشه ليتمدد عليه بكامل ملابسه .. وتطلع لسقف الغرفة في تيه .. فمعرفتة بذاك السر الذي كان ينأي بها عنه جعله يهتز داخليا .. لا يعلم بحق ما الذي يعتريه .. هل هى صدمة الحقيقة !؟.. ام ما قد يترتب عليها من احداث قد تغير بعض من توجهاته !؟..وهل سيغير ذلك شيئا من حقيقة مشاعره تجاهها !؟..
هو بالفعل لا يدري .. يشعر بتيه وضياع حقيقي .. ولا يعرف كيف السبيل للراحة ..
اندفع عفيف خلف مناع الذي سبقه على ذاك الجسر للجانب الاخر من النهر الذي يمر بالنعمانية لإنقاذ اهل بيته من الغرق المحتم.. مرعفيف تاركا فرسه عبر الجسر القديم المقام بأول النجع والذي كان يربط ضفتي النهر قديما وكان يستعمل في الأنتقال من والى هناك لكن ساكني الضفة الاخري كان من الاسهل عليهم استخدام المعدية بدلا من قطع تلك المسافة الكبيرة حتى الوصول للجسر .. لكن عفيف فعل مضطرا فما من معدية يمكن استخدامها في مثل ذاك الجو وما ان مر للجانب الاخر حتى حمد ربه فالجسر قديم وبالكاد تحمل ثقله للمرور عليه ..
اندفع في اتجاه البيوت التي بدأت المياه تغمر أعتابها بشكل ينبئ بكارثة وتطلع على قدر استطاعته ليرى بيوتا اخرى اخذها اندفاع المياه في طريقه ..
لمع البرق في السماء ليصبح الليل نهارا وتبعه صوت الرعد الذي كان يصرخ كامرأة مذعورة فوق رؤسهم ..
اخذ يتنقل صارخا في كل من يقابله من اهل النجع:- ع الچسر الجديم .. روحوا ناحية الچسر الجديم ..
كان صوته يحاول هزيمة صوت الرعد الذي كان يأبى الانهزام .. لكن عفيف لم يقف مكتوف الأيدي ظل يصرخ ويصرخ ويعانده الرعد صارخا بدوره حائلا بصرخاته لصوت عفيف من الوصول للناس حتى كاد ان ينقطع وهو يأمر الناس بالتوجه للجسر القديم ..
شعر ان الامر لن يفلح بهذه الطريقة .. فالكثير من الأسر لاتزل محصورة داخل بيوتها خوفا من الخروج .. لا يعلمون ان البقاء يشكل خطر اكبر .. وان بقاءهم قد يعني هلاكهم وذويهم ..
كانت الصرخات المذعورة للنساء والأطفال تأتيه من هنا وهناك فيدرك ان عليه التصرف سريعا وإلا فان الامر سيخرج عن السيطرة مع ازدياد سرعة اندفاع المياه واستمرارهطول الأمطار بهذه الغزارة ..
مد كفه نازعا احد العوارض الخشبية واحتمى بجدار يحاول إشعالها .. حاول عدة مرات واخيرا نجح .. اندفع يحاول الخوض في المياه ملوحا بها ليتجه الناس باتجاه الجسر ..
كان يحاول ان يحافظ على الشعلة على قدر استطاعته بعيدا عن سيل المطر فيضع كفه حافظا لها ويبعده ملوحا بها ما ان يستشعر النيران تلهب باطنه .. ظل على هذه الحال عدة مرات حتى تنبه الناس لإشارته فاتجه الجميع باتجاه الجسر الذي كان مناع وأسرته اول المتجهين نحوه ..
هتف عفيف امرا مناع في حزم:- اچمع الرچالة بسرعة ..
نفذ مناع وهو يخوض الماء الذي وصل لمنسوب ركبتيه تقريبا..
اجتمع الرجال في لمح البصر ليهتف عفيف امرا بصوت جهوري ليسمعه الجميع:- كلكم تحت الچسر الجديم ياللاه .. هنا المية يا دوب هتوصل لوسط اجصركم .. هنسندوا الچسر لچل ما تعدي الحريم والعيال الصغيرة .. هموا..
اندفع الرجال في عجالة للتنفيذ وكل منهم بداخله رغبة لإنقاذ أهله للابتعاد من هذا الجانب من النهر والأقرب للجبل والذي تندفع منه المياه بقوة كبيرة تأخذ كل ما تستطيعه بطريقها .. حتى ان بعض البيوت الضعيفة الاساس والمبنية ببعض الطوب اللبن اوالخوص قد جرفها تيار المياه الشديد الاندفاع مهدما إياها ..
نزل عفيف ومن بعده الرجال كل منهما يسند ذاك الجسر العتيق القدم بكتفه في محاولة ليكون المعبرالذي تمر منه النساء والاطفال للطرف الاخر من النهر الصغير الضحل في هذه المنطقة والذي يمر بالنعمانية ..
كان احد الرجال من كبار السن يقف على طرف الجسر الاول مساعدا الاطفال والنساء في المرور ومشجعا إياهن يحاول ان يضبط حمولة المرور حتى لا تتتزاحم النساء ويحدث ما لا يحمد عقباه .. وعلى الجانب الأخر كان رجلا مماثلا يستقبلهن ويحثهن على المضي قدما في اتجاه التلة المقام عليها البيت الكبير ..
كان المطر لايزل يهطل بغزارة وكأن ابواب السماء فُتحت على مصرعيها .. وكان الماء قد وصل لصدور الرجال التي تحفظ توازن الجسر عندما مرت اخر مجموعة من النساء باطفالهن .
امر عفيف الجميع بالصعود في اتجاه الطرف الاخر وكان هو اخر من خرج من الماء مندفعا يمتطي فرسه الذي كان منتظرا بذاك الجانب من الجسر.. انتظر موضعه حتى يتأكد من ابتعاد اخر رجل في اتجاه البيت الكبير واستدار ناظرا مدققا النظر قدراستطاعته ليتأكد ان ما من احد قد خلفه ورائه دون معاونة .. لكن فجأة..
بدأت شرارات عجيبة في التطاير هنا وهناك وكأن السماء ما اكتفت.. كانت تلك الشرارات تضئ كما البرق الذي كان مصاحبا لها في بعض الأحيان ..
لقد كان احد ابراج الكهرباء المقام على الطرف البعيد من ذاك الجسر في اول النجع وقد بدأت أسلاكه في قذف تلك الشرارات جراء البرق الذي يبدو انه ضرب احداها ..لكن يبدو ان الامر كان اكثر سوء مما تخيل البعض فقد اختل توازن برج الكهرباء برمته نتيجة صخرة انهارت معلنة التمرد على ابيها الجبل لتصطدم ببرج الكهرباء ليسقط مندفعا في اتجاه الجسر.
كان المشهد مهولا بل مفزعا والشرارات تزداد تطايرا نتيجة انقطاع باقي اسلاك الكهرباء الرابطة للبرج بالأبراج الاخري ..
سقوط البرج زاد الهرج بين الناجين ليندفعوا مسرعين في ذعر باتجاه التلة وصرخات النساء وعويل الاطفال يثير الاضطراب ..
ألتفت مناع باحثا عن عفيف بين تلك الجموع الهاربة لكنه رأه هناك بين ذاك الزخم الحادث و لم يكن بمقدور مناع الا الصراخ هاتفا في لوعة:- حاسب يا عفيف بيه ..حااااسب ..
وساد الظلام الدامس ارجاء النجع..
↚
نظرت دلال للخالة وسيلة التي اخذتها سنة من نوم وهى بمجلسها فاشفقت عليها وفكرت في إيقاظها ودفعها للنوم بفراشها حتى يجد جديد فها هى الساعة قد قاربت الخامسة فجرا ولازالت العتمة تخيم على الأجواء والمطرلايزل يهطل رغم انه قل غزارة ولا اية اخبار تذكر عما يحدث بالخارج ..
صعدت للطابق الثاني في وجل واتجهت حيث تلك الشرفة المطلة على بوابة البيت الكبير تستطلع ما يمكنها ادراكه من قلب تلك العتمة التي تشمل المكان كأنه مدينة للأشباح..
مدت ناظريها للبعد لحظات حتى تراقص امامهما ضوء مشعل قادم من اسفل التلة يجاهد للبقاء مشتعلا تحت رذاذ المطر الخفيف الذي هدأت حدته منذ فترة بسيطة .. شهقت في حماسة وقد استشعرت ان القادم هو عفيف .. لم يكذب حدسها فقد ظهر الان ممتطيا فرسه رافعا شعلة من نيران يحاول حماية جذوتها من الانطفاء ومن خلفه يسير اهل النعمانية رجال ونساء مهتدين بدربه وبنور شعلته التي يحملها ويحميها في ذاك الظلام الدامس..
اقترب الجمع من بوابة البيت الكبير ليظهر لها مناع خلف فرسة عفيف حاملا طفلتاه وبجواره زوجه سعدية تضم عفيف الصغير لأحضانها وبجانبها تسير ام مناع تستند على ذراعها في وهن .. كان المنظر مهيبا ..ظلت تتطلع اليه للحظات في وجل واخيرا اندفعت تهبط الدرج في عجالة فبالطبع يوجد من القادمين من يحتاج للمساعدة الطبية ..
هتفت رغما عنها بحماسة عندما وصلت للطابق السفلي في اتجاه باب الدار:- وصلوا يا خالة وسيلة .. وصلوا ..
انتفضت الخالة وسيلة تتلفت حولها في تيه و اخيرا ادركت ما يحدث فاندفعت خلف دلال التي كانت تقف الان على عتبات البيت الكبير في انتظار المنقذ وعشرته ..
وصل عفيف امام الباب ليترجل من فرسه وقد كان الماء يقطر من كل موضع به وجلبابه موحلا .. وضع الشعلة التي كادت تخبو نيرانها جانبا غارسا إياها بأحد التجاويف الموجودة بالحائط بعيد عن الأمطار ..
وهتف في البشر المتجمهرين بباحة البيت:- بيتكم ومطرحكم يا رچالة .. الحريم تتفضل على چوه المندرة هما والعيال الصغيرة..
واستدار حيث تقف دلال مبهورة تتعلق نظراتها به هاتفا موقظا إياها من احلام يقظتها بصوت مرهق من كثرة الصراخ:- يا داكتورة .. بستسمحك تفتحي المندرة للحريم عشان يجعدوا فيها ..
اكدت في عجالة:- طبعا يا عفيف بيه ..
واندفعت تلبي في سرعة تفتح باب المندرة الذي تملك مفتاحه لتمر الحريم للداخل كل واحدة منهن تجر قدمها جرا وتحمل أطفالها وهنا على وهن ..
ساعدت من استطاعت منهن واشارت للبقية لتصعدن الي الغرف بالأعلى حتى تحضر لهن ملابس جافة وبعض المشروبات الدافئة ..
توجهت للمطبخ لتجد الخالة وسيلة تعمل على قدم وساق في تحضير الطعام والشاي .. ساعدت قدراستطاعتها .. و خرجت تحمل صينية كبري عليها أطباق الطعام لتتبعها الخالة وسيلة بصينية الشاي ..
هتف عفيف يستدعيها:- يا داكتورة ..
وضعت حملها جانبا ملبية ندائه:- نعم يا عفيف بيه !؟..
هتف مشيرا للرجال:- لو سمحتي شوفي الرچالة .. في منهم اللي يده اتصاب واللي رچله انچرحت .. اعملي اللازم ..
هتفت مؤكدة:- طبعا يا عفيف .. حالا..
واندفع هو للأعلى غاب لبعض الوقت وظهر من جديد ما ان عادت حاملة حقيبتها الطبية وبدأت في مداواة المصابين، كان يحمل بين كفيه ملابس جافة، لا تعلم من اين حصل على كل هذا الكم من الملابس .. و خلفه مناع يحمل مثلها ..
دار يوزعها على الرجال وهى تجلس تتابعه قدر استطاعتها ما بين جريح وجريح ..
انتهى من توزيع حمله وكذا مناع الذي هتف في الرجال المتجمعين بصحن الدار:- ادعوا لراغب بيه بالرحمة .. ولعفيف بيه بطولة العمر ..
نهره عفيف بحزم:- خلاص يا مناع ..
تأكدت انه اخرج ملابس من اثر ابيه الراحل وكذا من ملابسه ليكسو أهله .. تطلعت من جديد تجاهه لتنتفض تاركة ما كانت بصدده عندما سمعت هتاف مناع لعفيف في قلق:- چرحك بينزف يا عفيف بيه.. باينه واعر ..
اندفعت دلال في اتجاهه هاتفة:- جرح ايه !؟
اكد عفيف في اضطراب:- متخديش عليه يا داكتورة دِه مخبل.. لا چرح ولا حاچة ..
اكد مناع في قلق:- لاااه انا واعي انه چرح وكَبير كمان .. ولولا ستر ربنا .. وفرسك اللي رمح بعيد وعمود الكهربا بيوجع مكنش حد عارف ايه اللي كان ممكن يچرا ..
اكدت دلال محاولة التظاهر بالهدوء بعد ما سمعته من تفاصيل:- طب ممكن اشوف الجرح ده وانا اللي اقرر ..
اكد عفيف وهو يحيد بناظريه عنها:- هبجى
ابعت للداكتور طارج يشوفه .. الواحد معرفش هو راح فين وسط اللي بيحصل دِه كله !؟..
اكدت دلال في ثقة:- الدكتور طارق ف اجازة ..
نظر اليها في حنق هاتفا:- و انتِ ايه اللي عرفك انه ف اچازة !؟..
زمت ما بين حاجبيها هاتفة:- عشان قابلته امبارح وانا راجعة من ولادة .. وقالي انه نازل اجازة وكان بيسلم عليك ..
تنهد في ضيق ولم يعقب لتهتف هى ما ان استدار محاولا الهرب من حصار نظراتها لتقع نظراتها على موضع جرحه النازف الذي يصنع بقعة كبيرة من الدماء باتساع كتفه والتي لم تلحظها سابقا بسبب اللون الغامق لعباءته والتي خلعها قبل صعوده لجلب الملابس:- يا عفيف بيه .. كتفك كله دم .. لازم اشوف فيه ايه ..
حاول التهرب أمرا:- شوفي انتِ بجية الناس والحريم اخبارهم ايه وانا هبجى تمام..
اكدت هاتفة في حزم:- عفيف بيه .. الناس دي هاتبقى تمام لما انت تبقى تمام مش العكس .. الناس دي معتمدة عليك .. وملهاش غيرك بعد ربنا .. لما تقع .. مين هيسندهم !؟.. لو سمحت.. لازم اشوف الجرح ده ..كل ما اتاخرنا هيبقى فيه خطر لو كان فعلا جرح عايز علاج سريع ..
مرت لحظات صمت تنهدت بعدها في راحة عندما هز رأسه موافقا اخيرا وقد شعر ان الالم الذي كان يحاول ان يتجاهله قد بدأت وتيرته في الازدياد وعليه ان يعترف انه بدأ يستشعر نيران بكتفه المصاب .. توجه للأعلى حيث غرفته لتستأذنه هى لثوان لتحضر أدوات طبية نظيفة من غرفة الكشف ..
احضرت ما استشعرت انها قد تحتاج اليه وعادت لغرفته تطرق بابها المغلق حاملة حقيبتها الطبية .. سمعت امره بالدخول.. فتحت الباب بكف مرتعش وما ان طالعها جالسا موليا ظهره النصف عار للباب حتى كادت ان تعود القهقري .. تسمرت موضعها تحاول غض الطرف عنه .. ليهتف وهولايزل موليا لها ظهره جالسا على احد المقاعد مرتديا بنطالا وقميصا يرتدي ذراعه السليمة ويكشف عن نصف ظهره بكتفه المصاب:- اتفضلي يا داكتورة ..
تحركت خطوات مهزوزة بأرجل من هلام حتى وقفت قباله موضع اصابته .. كان الجرح عميقا بحق وتعجبت من قدرته على احتمال ألمه الذي هى على يقين من شدته ..
تلهت بفتح حقيبتها والعبث بأدواتها وما ان استجمعت حروف أبجديتها حتى هتفت بصوت متحشرج تكاد تقسم انه ليس لها:- الجرح غائر فعلا يا عفيف بيه .. ازاي قدرت تستحمل الالم ده..!؟..
اكد في هدوء:- انا مكنتش حاسس اني اتصبت من اساسه .. لولا مناع .. كان كل همي ارچع بالناس كلها ومفيش حد أضر.. بدأت في تنظيف الجرح ورغم انه لم يصدر صوتا اوحتى همهمة تدلل على تألمه الا ان تصلب عضلات كتفيه كان كفيلا بجعلها تشعر بذاك الالم الذي يكابده دون ان يجهر .. رشت مخدر موضعي على الجرح هاتفة:- الجرح محتاج خياطة ..
همس بصوت متحشرج:- اعملي اللازم يا داكتورة..
بدأت في تقطيب الجرح في مهارة وسرعة .. لحظات من الصمت مرت بينهما لم يقطعها الا صوت أدواتها .. أنهت مهمتها واخيرا وضعت غطاء على الجرح مؤكدة:- كِده تمام يا عفيف بيه .. بالشفا ان شاء الله ..
هز رأسه بلا تعقيب ومد كفه يجذب طرف قميصه الاخر ليستر به جسده فمدت كفها بالمقابل لمساعدته فتنبهت لكفه المحترق فشهقت في صدمة:-ايه اللي حصل لأيدك !؟..
وبدون وعي استدارت وهى ممسكة بكفه بين كفيها فى ذعر هامسة:- ايه اللي حرق ايدك بالشكل ده !؟..
لم يعقب والعجيب ايضا انه لم يجذب كفه المحترق من بين يديها فقد شعر براحة غريبة وكفه قابع هناك وكأن بلسما ما قد وضع مهدئا من نيران حريقه ..
جلست اسفل قدميه ولازال كفه نائما بوداعة على باطن كفها .. مدت يدها تتناول أنبوب دهان ملطف كانت دوما ما تحتفظ به في حقيبتها للطوارئ وبدأت في فرده على باطن كفه الذي كان مفرودا قبالة ناظريها وكأنما هى عرافة تقرأ له طالعه الذي تمنى لو كانت هى جزء منه ..
انتهت من توزيع الدهان على باطن الكف وتغطيتها بغطاء طبي معقم ..
تنهدت في راحة وابتسامة حانية على شفتيها رافعة ناظريها اليه هامسة:- كله تمام ..
تقابلت النظرات .. وساد الصمت وكأنما العالم قد خلا من قاطنيه .. تيه اخرق ومشاعر بكر تعربد بجنبات الروح .. وحشة غابت وانس هل كهلال عيد ما أتى منذ عصور الوثنية .. عيون تتأرجح بمآقيها الدموع وأخرى يهزها الشوق ..أنات انين وحنين مكبوتة بالصدرومؤدة بالفؤاد يحرسها الوجع وتأسرها الوجيعة ..وحديث دار بين المقل لو خُط بكتب العشق لفاضت..
لا علم لأحدهما كم مر من عمر الزمان وهما بهذه الحالة من اللا .. اللاماذا !؟..
عند هذه اللحظة ..انتفض عفيف مذعورا جاذبا نفسه من أتون يستعر بجنباته هاتفا في صوت متحشرج النبرة:- متشكر يا داكتورة .. تعبتك..
طُردت بدورها من جحيمها وكادت ان تهم بالرد عندما عاد لها القدرة على النطق الا انها ظلت موضعها مبهوتة امامه تتطلع اليه.. كم وجه لذاك الرجل !؟.. تراه الان بطوله الفارغ وببنطاله الجينز وذاك القميص الرياضي الذي كان يجاهد لارتدائه منذ لحظات كأنما بدل جلده .. رأته في السابق بتلك الحلة الرسمية التي كانت تليق به وكانما خلقت له والان ذاك الرداء الغير رسمي بالمرة الذي يعكس روحه الشبابية التي لم تنطفئ جذوتها رغما ما يحمل من تبعات ثقال..
تنبهت لشرودها الغير واع فهتفت بدورها:- لا مفيش تعب ولا حاجة .. متحاولش بس تحرك دراعك دي كتير عشان الجرح ميتفتحش ويلم بسرعة ..
هز رأسه بالموافقة وهو ينأي بنظراته عنها لتجمع هى حاجياتها على عجالة لتنهض مندفعة خارج الغرفة .. اغلقت الباب خلفها وزفرت في راحة وهى تضع كفها موضع قلبها الذي كان يطرق باب صدرها في عنف ولم تكن تدري ان احدهم داخل الغرفة يزفر في راحة اكبر وهو يرفع كفه المحترقة امام ناظريه شاعرا ان قلبه كان اولى منها بعلاج الحروق فقد كان بقاءها بالقرب منه اكثر تاثيرا ووجعا من تقطيب جرح بلا مخدر..وقلبه كان اشد اهتراءً من كفه المحترق ذاك..
دلفت شريفة لغرفة ولدها لتجده قد غفا بملابسه مما دفعها لتوقظه هاتفة في تعجب:- معقولة يا شريف نمت بهدومك !؟.. للدرجة دي كنت تعبان يا حبيبي !؟..
همهم شريف وهو يفرك عينيه هامسا:- اه يا ماما الواحد فعلا كان تعبان ومكنش حاسس ..
هتفت امه بمحبة:- طب قوم يا حبيبي افطر ده انت نمت من غير عشا .. تلاقيك جعان ..
اكد رغم انه يشعر العكس:- اه فعلا يا ماما هموت م الجوع ..
هتفت امه باشفاق:- يا حبيبي .. طب ياللاه الفطار جاهز ع السفرة اهو ..
هتف مؤكدا:- طب اسبقيني يا ست الكل .. هدخل الحمام واحصلك ..
سبقته بالفعل تنتظر خروجه .. لحظات وتبعها بعد ان غير ملابسه بملابس مريحة تناسب المكوث ف المنزل .. مد كفه يفتح التلفاز بطريقه لطاولة الافطار .. جلس وبدأ في تناول طعاما كان كطعم الحنظل بفيه فقد كان يجلس للطعام حتى تتناول امه إفطارها وكى لا يشعرها بأي تغير من شأنه تعريضها للتوتر .. فالعجيب انه منذ دخول زينب حياتهما تحسنت حالة قلب امه بينما ساءت حالة قلبه هو والذي يئن وجعا بتلك اللحظة ..
كان غارقا بأفكاره الا انه انتفض متطلعا لشاشة التلفاز عندما هتفت امه في صدمة:- يا ساتر يا رب.. مش دي البلد اللي انت شغال فيها يا بني!؟..
تنبه شريف وما ان طالعه منظر النعمانية امامه على الشاشة حتى انتفض من موضعه هاتفا في ذعر:- يا ساتر .. ايه اللي حصل هناك ده !؟..
رفع صوت التلفاز حتى تأتيه الاخبار عن تلك الكارثة.. لحظات واندفع لحجرته لتكون امه بأسره هاتفة:- على فين يا شريف !؟..
هتف متعجلا وهو يرتدي بدلته الميري:- ع النعمانية يا ماما ..
شهقت في ذعر:- تروح لهناك برجلك !؟.. انت مش شايف الدنيا عاملة ازاي هناك !؟.. ده انا حمدت ربنا ان اللي شيفينه ده حصل وانت ف إجازتك ومش هناك..
اكد وهو يكمل ارتداء ملابسه:- مينفعش اقعد هنا والدنيا هناك بالشكل ده .. لازم اروح ..
انهى ارتداءه ملابسه وطبع قبلة سريعة على جبينها ورحل سريعا في اتجاه النعمانية لا يعلم هل توجه اليها واجبا ام هربا !؟..
هتف عفيف مناديا:- يا مناع ..
ظهر مناع كعادته بلمح البصر ملبيا:- أوامرك يا عفيف بيه !؟..
اكد عفيف:- بجولك يا مناع .. الرچالة مرتاحين تمام ف الشونة .. مش ناجصهم حاچة يعني !؟..
اكد مناع بدوره:- لاااه .. كله تمام يا عفيف بيه..
همس عفيف مازحا:- طب وانت منجصاكش حاچة !؟
همس مناع في حياء:- لااه يا عفيف بيه .. الحمد لله .. كفاية عليا سلامة چنابك ..
قهقه عفيف هاتفا:- سلامتي برضك !؟..
واستطرد مؤكدا والابتسامة لم تفارق محياه:- ع العموم .. انا استأذنت الخالة وسيلة ف اوضتها عشان تجعد فيها انت ومرتك ..هى الخالة وسيلة بتنام ف الاساس مع الداكتورة ..
لم يعقب مناع ولكن تلك الابتسامة الواسعة التي ارتسمت على محياه كانت كفيلة لتكون اشد إيضاحا من اي اجابة ..
استطرد عفيف باسما:- والأوضة التانية اللي چنبها دي هتكون لامك والبنات خرچوا اللي فيها ورتبوها يجعدوا فيها.. اهو يوسعوا المكان للحريم هناك ويكونوا چارك ..
هتف مناع مسربلا بامتنان عميق لذاك الذي جمعه بأسرته من جديد:- والله ما عارف اجولك ايه يا عفيف بيه !؟.. ربنا يچمعك بشج روحك وما يفرجكم ابدا يا رب ..
هز دعاء مناع عفيف داخليا وتضرعت روحه في ابتهال بدعاء هز أركانها .. ياااارب ...
همس عفيف بصوت متحشرج:- ياللاه ابعت لمرتك وعيالك من عند الحريم .. وباذن الله اول ما الدنيا تظبط هنرچع نبنوا بيتك والبيوت اللي خدها السيل احسن م الاول .. و ربنا ما يغرب حد عن داره ..
هتف مناع بتضرع:- امين يا عفيف بيه .. امين ويريح جلبك ويرزجك محبة خلجه كمان وكمان..
ربت عفيف على كتف مناع ممتنا واندفع خارج البيت الكبير يحاول جاهدا اصلاح ما يمكن اصلاحه بعد تدخل الحكومة ومحاولة اعادة النعمانية لما كانت عليه قبل السيل الذي طمس معالمها كليا ..
طرق نديم باب شقة زينب لتفتح امها هاتفة:- اتفضل يا نديم يا حبيبي ..
هتف نديم في حياء:- شكرًا يا طنط .. بس هي زينب هنا !؟.. كنت عايزها تغير لناهد ع الجرح ..
اكدت ماجدة بلهجة حاولت ان تغلفها بالثبات:- اه زينب هنا يا حبيبي .. بس رجعت تعبانة قوي من المستشفى ونامت حتى من غير ما تاكل يا حبة عين امها ..اصحيهالك!؟
كانت تهتف بكلماتها الاخيرة بلهجة واهنة فهى تعلم علم اليقين ان ابنتها لن تخرج من عزلتها التي فرضتها على نفسها منذ رحيل شريف ..
هتف نديم رافضا:- لااا.. خليها مستريحة يا طنط.. تسلمى ..
اكدت ماجدة:- طيب يا حبيبي .. لما تصحى هخليها تجيلكم ..
هتف نديم:- طيب تمام .. سلام عليكم ..
هتفت ماجدة:- وعليكم السلام ..
اغلقت بابها وهى تعلم ان ابنتها لن تستطيع الخروج من غرفتها تلك الليلة وربما لليال عدة قادمة.. فهى تعرفها عز المعرفة وتدرك ان ما حدث في وجود شريف لم يكن هينا عليها .. فتلك الحكاية القديمة تنكأ بداخلها جراحا تحاول مداواتها منذ زمن بجانب انها تستشعر كأم تعلق ابنتها بشريف.. والذي يعد الرجل الاول الذي حرك شيئا بداخلها بعد ذاك الحادث الذي اعتقدت ان ابنتها فقدت من بعده ومع رحيل ابيها رغبتها في الحياة ..
مسحت دمع انساب على خديها وهمست بتضرع:- يااارب ..
هم نديم بنزول الدرج هاربا من بقائه مع ناهد بعد اخر موقف بينهما الا انه عاد ليفتح باب شقته ويدلف للداخل من جديد وقد ادرك ان عليه تجاهها واجبا وعليه تحمله مهما كان ذاك الواجب ثقيلا على كاهله.. توجه لغرفة ناهد وطرق بابها في ثبات .. فتح الباب في لامبالاة حاول ادعاءها عندما استمع لصوتها يدعوه للدخول.. كانت عيناه تدور بمحجرها بكل الاتجاهات عدا الوقوع على محياها وهو يهتف مؤكدا بنبرة ثلجية حاول ان يعريها من كل المشاعر:- وقت التغيير على جرح راسك ودهان رجلك ..
همست وهى لا تقل عنه اضطرابا لكنها لم تكن بمهارته لتستطيع مداراته:- مش مهم .. انا بجيت كويسة .. و زينب تبقى تغيرهولي..
اكد هاتفا بنفس النبرة:- زينب نايمة وتعبانة .. جت متأخر من المستشفى .. ومعرفش اذا كان هتقدر تعدى علينا النهاردة و لا لأ ..
اكدت من جديد:- مش مهم .. انا اصلا بجيت احسن .. ومش محتاچاهم ..
تقدم يفتح كيس الأدوية على الطاولة الملاصقة للفراش مؤكدا بنفس النبرة الثلجية:- مش بمزاجك على فكرة .. علاجك هتخديه عشان تقومي وتقدري تعتمدي على نفسك .. محدش بقى فاضي يقعد يخدمك الأربعة وعشرين ساعة كأن موريهوش غيرك ..
تطلعت اليه وعيناها تتأرجح بهما الدموع ولم تعقب بكلمة.. كانت تعلم انه يتحاشاها منذ المرة الاخيرة التي ظهرت فيها مشاعرهما للعلن .. كان يستيقظ صباحا قبلها بساعات ويخرج لا تعرف الي اين .. لكنها كانت تجد إفطارها معدا على صينية مغطاه بالقرب من فراشها ويعود بأخر النهار منهكا يتناول ما تعده ام زينب من طعام بصحبتها لكنه ابدا لم يتطلع اليها ولو لمرة واحدة كأنما يعاقب نفسه ويعاقبها على لحظة ضعف أفشت دواخله واظهرت اكثر مما كان مفترض ..
تناول هو المطهر ودار حول الفراش صاعدا اياه ودنا منها حتى اصبح قبالتها تقريبا .. رفع رأسها المنكس لتواجهه فطالعته نظرات عينيها الدامعة.. انتفض داخليا لمرأها وظل متخشبا لا يقو على اتيان اي رد فعل امام تلك النظرات الموجعة اللائمة .. لكنه اخيرا ادار رأسها حيث اتجاه اصابتها وبدأ في إزالة الغيار القديم وتطهير الجرح ووضع غيار اخر رغم ان الامر يعد شاقا على نفسه لعدم قدرته على تحمل منظر الدم اوالجروح ..
انتهى واستدار حول الفراش من جديد ممسكا بأنبوب الدهان الخاص بقدمها الذي خف تورمه لحد كبير عن زي قبل الا انها همست ما ان رأته يهم بفتح الأنبوب:- متتعبش نفسك .. انا اجدر ادهن لنفسي .. تسلم ..
تناولت منه الدهان وهى لا تقو على رفع نظراتها الى محياه مرة اخرى مما دفعه للخروج من الغرفة على عجل كأنما يهرب من احد الوحوش الذي اصبح يتعقبه كظله بصحوه ومنامه ..
ما ان تهل المغارب حتى يسود الظلام الدامس جميع ارجاء النعمانية بعد سقوط برج الكهرباء الذي كان يساعد في تغذيتها بما يلزمها .. اجتمع الرجال بدورهم امام الشونة التي يبيتون فيها ليلهم حول ركوة من نار داخل قصعة حديدية وضعوها أمامهم كوسيلة للتدفئة ولصنع أكواب وأكواب من الشاي لطرد برد الليل الأحد من السيف ..
تجمعت النسوة بدورهم بشرفة البيت الكبير السفلية والمطلة على ارض شاسعة حول الدار يحكمها سُوَر متوسط الطول ينتهي بتلك البوابة الحديدية القصيرة نسبيا ..
جلسن جميعا وبحجرهن أطفالهن الرضع اما الأكبر سنا فلم يعبأوا ببرودة الجو واندفعوا هنا وهناك ينشرون ضوضاءهم وصخبهم الطفولي ..
هتف زيدان والذي كان احد العاملين بأرض النعماني متسائلا:- هنعملوا ايه ف المصيبة اللي حلت علينا دي !؟..
هتف اخر:- يعني هنعملوا ايه !؟.. العمل عمل ربنا ..
هتف زيدان موجوعا:- الدار والزرعة راحوا .. عليه العوض ومنه العوض ..
هتف احد الرجال:- احمد ربك انك وأهل بيتك بخير .. كله يتعوض بعون الله ..
هتف زيدان شاكرا:- الحمد لله .. كله خير..
ليستطرد الرجل الاخرمؤكدا:- وبعدين عفيف بيه جال انه هيعوض الكل من ماله وشونته .. وهايبني البيوت بالطوب للناس كلها بس ع اليمة التانية البعيدة عن الچبل .. ربنا يكرمه يا رب ..
هتف الرجال مؤمنين:- امين ..
ساد الصمت لبرهة ليهتف احد الرجال من جديد موجها حديثه لرجل كبيربالعمر:- ليه ناسينا يا عم متجال .. ما تسمعنا حاچة ربنا يرضى عنِك ..بدل جعدتنا دي..
هتف عبدالمحسن الشهير بمتقال وهو رجل ناهز الستين من عمره يحمل ربابته اينما ذهب:- عناي.. هو انا حيلتي الا الجول ..
هتف رجل اخر:- طب ياللاه .. و لا ربابتك راحت ف السيل يا عم متجال !؟..
هتف عبدالمحسن مؤكدا وهو يحتضن ربابته لصدره كمعشوقته:- لاااه .. أهي .. دِه اني اموت وهى تبجى .. مطلعتش م السيل الا بيها .. ومن جبل سابج .. هى اللي طلعت بيها م الدنيا بعد ما العيال راحت والعيال طفشوا على بره ورا اكل عيشهم .. اهااا ..بتصبرني على حالي ..
هتف احد الرجال مشجعا:- طب ما تصبرنا معاك على حالنا يا راچل يا طيب ..
دارت أكواب الشاي الساخن التي أعدت على نار الركوة مرة اخرى وعدل عبدالمحسن من وضع ربابته واحتضنها في هيام و بدأ عذفه وشدوه لينقل الجميع لعالم اخر وهو يترنم بأبيات السيرة الهلالية هاتفا:-
بعد المديح ف المكمل ..
احمد ابو درب سالك..
احكى ف سيرة واكمل ..
عرب يذكروا جبل ذلك ..
ويا آه .. يا عيني على آه ..
يابا آه .. يا عيني على آه ..
ويا آه .. يا عيني على آه ..
يابا آه .. يا عيني على آه ..
كان الرجال منتشين مرددين خلف عبدالمحسن وكانت دلال تجلس بالقرب من ذاك الحدث على احد المقاعد وسط مجلس النساء تتلحف بشال امها تضمه اليها ليبعث بها الدفء وهى تتطلع لذاك الجو الساحر حولها ..
اخذها الغناء كليا وبدأت تندمج مع الملحمة الملقاة بصوت عبدالمحسن القوي .. وفجأة سقطت عيناها على محياه .. كان يقف بالقرب مستندا على شجرة ضخمة بأحد الأركان يلتحف عباءته السوداء ويضم الى كفيه كوبا من الشاي.. وتساءلت منذ متى كان هنا !؟.. لقد شارك الرجال في مشروبهم منذ البداية وهى التي كانت غافلة عن وجوده..
عادت بمخيلتها للحكاية التي تسرد على مسامعها لكنها حولت ناظريها لموضعه عندما هتف عبدالمحسن في سلطنة:-
سيرة عرب أجدمين ...
كانوا ناس يخشوا الملامة…
رئيسهم بطل سبع ومتين ..
يسمى الهلالي سلامة ..
وجسدته بعين خيالها .. ابوزيد الهلالي ذاك البطل الأسمر الذي قاد قومه بني هلال في تغريبتهم حتى ارض تونس الخضراء بحثا عن ارض تقلهم ومأوى يضمهم وتذكرته وهو يحمل شعلته قائدا أهله يوم السيل الي حيث الأمان في كنف بيت النعماني .. ابتسمت في وله وهى تعقد هذه المقارنة وظلت عيناها معلقة به .. ببطلها .. الذي كانت تعتقد انها ستحمل ذكراه وصور تلك الليالي معها بذاكرتها ما ان ترحل تاركة النعمانية خلفها لكنها ادركت انها كانت مخطئة .. فهناك ذكريات كتلك لا محل لها الا سكن الروح .. وللأبد ..
حمد الله انه عاد مسرعا ما ان سمع ما حدث فما ان وصل النعمانية اوبالأدق حدودها حتى بدأت القيادات والصحافة في الوفود للوقوف على اخر اخبار تلك البلدة الصغيرة التي عزلها السيل عما حولها من البلاد ولا طريق لمعرفة ما يجري بالداخل نتيجة لانقطاع الكهرباء والاتصالات بوجه عام .. حتى انه لا اخبار مؤكدة عن وجود ضحايا اوحتى معرفة عددهم ..
كان كل شئ مبهم ولا تقدير حقيقي لحجم التلفيات والخسائر.. كلها تقديرات جذافية فما كان احد بقادرعلى الدخول للبلدة .. الا بعض المروحيات التي حلقت لبعض الوقت فوق النجع لحصر ما يمكن حصره ..
لم ينم لساعة كاملة لمدة يومين كاملين .. فالوضع كان جد خطير.. حتى مبني النقطة الذي كان من طابقين والذي كان مقام على اطراف النجع قد لحق به الاذي وما كان باستطاعته دخول طابقه الاول الذي كانت المياه تصل لما فوق ركبتيه اذا ما فكر ان يدخل من الاساس .. كان يبيت ليله بالصندوق الخلفي لعربة الشرطة حتى اشعار اخر ..
ورغم كل ما يحدث .. و رغم كل ما يعان .. الا انها لم تغب عن باله لحظة واحدة .. كانت تطالعه ابتسامتها النادرة التي ما كانت تظهرها الا في مناسبات خاصة فهو يعلم انها كانت تتصنع الجدية في حضرته .. هى ابدا لم تدفعه لحبها .. بل انه يشهد انها كانت في كثير من الأحيان تدفعه بعيدا عنها .. تقصيه عن دربها لكن هو من أبى الابتعاد .. هو من تبعها كعباد شمس يتبع ضوء نهار ..
انه يعترف الان ان لا قبل له على اخراجها من قلبه الذي تشبث بها منذ اللحظة الاولى التي نظر فيها لعينيها ..هو لا ينكر ان ما سمعه من امها من حقائق قد هزه قليلا .. لكنه كان اهتزاز للصدمة ليس اكثروان ما علمه لم يغير من مكانتها بقلبه ابدا .. كل ما كان بحاجة اليه هو خلوة كهذه التي يعيشها قسرا حتى يستطيع ترتيب افكاره واتخاذ قراره وها هو يتخذ قرارا لا رجعة فيه..
قرار صادر من اعماق روح تدرك تماما انها لن تهنأ الا بقربها .. قرار لن يتنازل عن تنفيذه في اقرب فرصة .. و سيفعل المستحيل لجعلها توافق ..
انتفض خارجا من شروده عندما هتف به احد عساكره مؤديا التحية العسكرية:- اشارة يافندم ..
انتشلها شريف من بين يديه هاتفا به:- هات يا اخرة صبري ..
توقف للحظة مدركا امر ما وتطلع للعسكري في صدمة واخيرا همس رافعا كفيه للسماء داعيا لله في تضرع:- بقى دي اخرتها يا رب !؟.. يبقى ده اخرة صبري !؟ و اشار للعسكري الذي كان يقف متعجبا لأفعال ضابطه الذي استطرد هامسا:- لا والنبي يا رب .. انا عايزها هى تبقى اخرة صبري .. وحشتيني يا زينبو .. أمتى الاجازة تيجى بقى..!؟..
اندفع مبتعدا ينفذ أوامر الإشارة والعسكري من خلفه يضرب كفا بكف متعجبا لافعال شريف باشا الذي ما عادت قواه العقلية تنبئ بالخير..
شعرت انها تكاد تختنق من البقاء فى الداخل اكثر من هذا .. اربع ليال كافية لتظل حبيسة مندرة البيت الكبير مع كل هذا العدد من النسوة .. انها تشعر برغبة قوية فى استنشاق الهواء الطلق وان تكون وحيدة لبعض الوقت تسترجع الاحداث و ترتبها فى مخيلتها ..
هبطت الدرج ذي الثلاث درجات واتجهت مبتعدة لا تلو على شئ.. تشعر بخواء عجيب داخلها وإحساس برهبة تتملكها لا تدرك لها سببا ..
لم تع لشرودها انها تخطت حدود البيت الكبير وبدأت فى الهبوط تدريجيا لتتوقف قبل ان تصل لتلك الطرق الضيقة الموحلة بعض الشئ عن تلك التى بأعلى التبة المقام عليها بيت النعماني ..
تطلعت للمشهد الخلاب قبالتها وهى تستند على شجرة سدر ضخمة .. كان الجبل مهيبا يعكس عظمة وشموخ لا يستهان به وبين ذراعيه تقبع النعمانية التى غطاها السيل بذاك الشكل حتى غمرها كليا فطمس معالمها الخضراء وحولها لقطعة منه تحمل نفس لون الثرى الغني والذى اصبح اكثر قتامة بسبب مياه السيول التي اختلطت به وازالت عن كاهليه أتربة عصور مضت ليشع بهاء من جديد ليصير بهذا الحسن الذى ما رأته عليه سابقا ..
تنهدت وما ان همت بالاستدارة لتعود من حيث أتت حتى تناهى لمسامعها صوت خيل قادمة من البعد .. تطلعت الى الطريق تستطلع القادم على الرغم من ان قلبها قد اخبرها كنهه قبل عينيها الا ان عيونها ظلت معلقة بالطريق المتعرج حتى ظهر بالفعل امام ناظريها وما هى الا لحظة حتى كان يشرف عليها من على صهوة فرسه متطلعا اليها فى تعجب ..
كانت تتوقع ان يعاتبها على خروجها من البيت الكبير بعد ان اكد عدة مرات ان السيل قد جرف معه هوام الارض وان الحيات و العقارب خرجت من جحورها وعلى الجميع الحذر فالنعمانية لاتزل على عزلتها وما من سبيل لإنقاذ احدهم اذا ما اصابته لدغة ما ..
لكن ما حدث كان اشد وعورة ولم يقتصر على العتاب .. فلقد اندفع مترجلا من على فرسه وبلا اى مقدمات وجدت نفسها مصطدمة بصدره .. مزروعة بأحضانه .. كف يحيطها ضاما إياها وكف اخر يخرج شئ ما تبينته في التو .. كان سلاحه .. صوبه على شئ ما كان بالقرب من موضع وقوفها السابق قبل ان يجذبها اليه بهذا الشكل الصادم..
انتفضت عندما اطلق النار عدة مرات و تشبثت به كطوق نجاة .. ساد الصمت ..
كاد ان يبعدها عن صدره المتعلقة به كانها غرست جذور كفيها بأرضه .. لكن كيف له ان يفعل وهى ترتجف بهذا الشكل بين احضانه فى ذعر تام ما ان ادركت انه لولا ظهوره وقتله تلك الحية التى كادت تودى بحياتها لكانت في عداد الأموات فى تلك اللحظة !؟.. كيف له ان يرسلها بعيدا وهو المتأمل فى قربها تلك المتشبثة بتلابيب روحه والمسربل فؤاده بهواها !؟ كيف له ان يفعل وهوالذى يود لو يضمها اكثر فاكثر حتى تضحى جزء اوبعضا من روحه لا يمكن لأى من كان ان ينزعها عنه مبعدا حتى الموت!؟..
جاهد جهاد الابطال حتى استطاع اتخاذ قراره الموجع وامسك بكتفيها مبعدها عن صدره الذى بدأ يئن من وجيعة بعادها القسري .. ولم يشعر الا وهو يهزها فى قوة هاتفا فى لهجة عاتبة:- انتِ ايه اللى خرچك م البيت الكبير ونزلك هنا !؟.. كنتِ هتروحى فيها وانى منبه عليكِ من الاساس..
توقف عن هزها بهذا الشكل عندما ادرك انه رغما عنه قد افرغ ذعره لمجرد تخيل فقدها عليها هى التي يوجب عليه ان يبثها الطمأنينة…
ابعد كفيه عنها فكادت ان تسقط.. اندفع يهم باللحاق بها لولا انها استجمعت قوتها واستدعت ثباتها ووقفت متسمرة للحظة لا تدرى ما عليها فعله ..واخيرا رفعت ناظريها اليه ليكاد يشهق فى صدمة عندما رأى دموعها منسابة على صفحة خديها ..
اندفعت باتجاه البيت الكبير ليتنهد هو فى ضيق يتابعها بناظريه تكاد تنهداته تخنقه لولا خروجها بهذا الشكل الذى ينم عن احتراق داخلى مريع حذا حذوها وامسك برسن فرسه واتجه خلفها للبيت الكبير يكاد يموت قهرا على دمعها الذى كان سببا فى هطول زخاته بدلا من ان يكون مانعها ..
دخل بتؤدة لداخل شقته حاملا بعض من الأغراض المنزلية التي تلزمهما وخاصة ما تحب تناوله حتى تستطيع تناول دواءها .. تقدم نحو المطبخ تاركا الأغراض جانبا وما ان مر بحجرتها حتى وجد بابها مواربا .. طرق الباب لعلها بالداخل الا ان الصمت كان المجيب الوحيد .. تطلع لتلك الرسالة بكفه يقلبها في قرف .. هل يقرأها ويلقي بها كما حدث مع مثيلاتها ام ماذا !؟..
ما عاد يعلم ما عليه فعله .. نظر لتلك الكلمات التي تحذره من الظهور بأي شكل اوالاقتراب من النعمانية مهما حدث .. ابتسم بوجع ساخرا من التحذير الذي لم يكن بحاجة اليه دفع بالرسالة سريعا بجيب سترته ثم دفع الباب في رفق وجال ببصره بالغرفة ولم يجدها .. اندفع خارجا مناديا عليها الا انها لم تجب .. تنبه انها بدأت تستعيد قدرتها على السير بشكل سليم فاستنتج انها شعرت بالضجر بمفردها فذهبت لتستأنس بالجلوس مع زينب وامها ..
خرج من شقته وطرق باب شقة زينب لتطالعه ما ان فتحت الباب جالسة في احد الأركان ابتسمت زينب مهللة:- اتفضل يا نديم .. اكيد بتدور على ناهد !؟.. أهى مشرفانا يا سيدي لحد ما ترجع ..
ابتسم نديم في دبلوماسية هاتفا:- هى ليها مين غيركم يا زينب معذورة بتقعد النهار بطوله لوحدها .. ما انا ببقى بره بقى ..
هتفت زينب متسائلة:- طبعا دي مشرفانا وبتونس ماما والله وانا غايبة ف المستشفي .. بس هو انت بتشتغل يا نديم !؟..
اكد نديم مضطربا:- اه يا زينب .. اهو حاجة اقدراسد بيها طلباتنا لحد ما اشوف هتصرف ف شغلي ازاي بعد الاجازة الطويلة اللي انا فيها دي ..
هتفت زينب تستفسرمن جديد:- بتشتغل ايه!؟..
تنحنح نديم محرجا:- يعني يا زينب .. مش فارقة .. اهو كله شغل ..
صمتت زينب وقد ايقنت ان نديم يعمل بعمل لا يليق به رغبة في عدم اشعار ناهد بانه غير قادر على تحمل مسؤليتها .. اشفقت عليه.. لكنها احترمته اعتقادا منها ان الحب لا الواجب هو الدافع .. وتذكرت ذاك الذي اختفى ما ان علم بماضيها الموجع .. فدمعت عيناها ونهضت تستأذن في عجالة لتحضير الطعام ..
انتبهت ناهد لحديث نديم مع زينب فنهضت في هوادة متجهة نحوه ليعودا سويا لشقتهما الا ان ماجدة هتفت تستوقفها:- ايه ده !؟.. انتوا رايحين فين !؟.. والله ما انتوا ماشيين الا لما تتغدوا معانا ..
هتف نديم:- و الله يا طنط جبت غدا معايا و انا جاي .. كفاية تعبناك معانا بجد ..
هتفت ماجدة معاتبة:- ده برضو كلام يا نديم .. ده انت ابني .. ان مكنتش اتعب لابنى هتعب لمين !؟..
هتف نديم في امتنان:- تسلمى يا طنط ..بس والله مافيش داعي .. اعفيني .. انا اصلا مش جعان .. انا تعبان فعلا وعايز انام ..
هتفت ماجدة في تفهم:- طب خلاص على راحتك يا حبيبي ..بس هنستاكم ع العشا ..
هتف نديم متوجها للباب تتبعه ناهد:- باْذن الله يا طنط .. سلام عليكم ..
ألقين التحية خلفه وهو يتجه نحو باب شقته
دخل وهى بعده وأغلقت باب شقتهما في هدوء وهى تراه يندفع في اتجاه الحمام هاتفا بنفس اللهجة الثلجية التي اعتمدها لتعامله معاها منذ ايّام:- هاخد دش ولوجعانة .. كلي متستنيش ..
اكدت ناهد في هدوء:- لااه مش چعانة ..
دخل الحمام ولم يعقب وغاب بالداخل يلق وجع يومه اسفل رذاذ الماء الدافئ يحاول ان يخفف من ألام كتفيه وظهره ..
انتهى اخيرا وما ان خرج من المغطس حتى اخذ يسب نفسه سرا .. ألن يكتفى من هذه العادة ابدا !؟.. فدوما ما ينسى احضار ملابسه النضيفة عند دخوله للحمام .. تطلع حوله ولم يجد الا ملابسه المتربة التي خلعها لتوه ومنشفة ..
اضطرآسفا لفتح باب الحمام وإخراج رأسه منه هاتفا باسمها:- يا ناهد ..
اندفعت ملبية ندائه تقف امام باب الحمام في اضطراب منكسة الرأس هامسة:- نعم !؟..
اكد مشيرا لحجرته:- معلش هتعبك هاتيلي هدوم من اوضتي ..
اومأت برأسها ايجابا وظل هو ينتظر خلف الباب حتى عادت هامسة من جديد وهى تناوله ملابس نضيفة:- اتفضل ..
مد ذراعه لتناولها ورفعت ناظريها لتتأكد انه قد امسك بها لتطالع تلك العلامة العجيبة على كتفه .. شهقت في صدمة:- ايه اللي ف كتفك ده !؟..
اضطرب وجذب ملابسه لداخل الحمام واغلق الباب .. دمعت عيناها وجعا على ما يفعل بنفسه رغبة في ارضائها وإشعارها ان الامور على ما يرام ..
انتظرت خروجه واعدت الطعام بالطاولة في الردهة الخارجية .. خرج مندفعا في اتجاه غرفته لتستوقفه هى هاتفة:- نديم .. مش هتاكل !؟..
اكد وقد توقف تلقائيا يرد عليها دون ان تتلاقى نظراتهما:- لا مش جعان ..
هم باستكمال طريقه لغرفته الا انها اعترضت طريقه هامسة:- انا مش هاكل الا لما تاكل..
اكد بلامبالاة:- براحتك ..
هم بالتحرك مرة اخرى لتعترض طريقه من جديد هامسة:- ليه يا نديم !؟.. العلامة اللي ف كتفك دي ليه !؟..
هتف نديم غاضبا وقد خرج عن طوره:- عشان نلاقي ناكل .. عشان نعرف نعيش .. كنت بشيل الطوب والمونة على كتافي عشان نلاقي حق علاجك وعشان اعرف ادخل على الناس اللي اوينا ف بيتهم بحاجة ف أيدي .. عشان محسش اني قليل ف نظر نفسي وانا متكل على فلوس اختي .. عشان ..
قاطعته وهى تربت على كتفه هامسة والدمع ينساب على خديها:- عشان انت راچل .. وسيد الرچالة كمان ..
تطلع اليها ليفقد دفاعاته مرة واحدة وما عاد قادرًا الا على التفكير فى جذبها لأحضانه..
فلو صنفت كلماتها على انها كلمات حب لكانت أعظمها بالنسبة اليه .. لكن بديلا عن ذلك اندفع باتجاه غرفته هربا من تأثيرها المُهلك على أعصابه ..
جلست لبرهة وحيدة بالردهة الا انها عزمت امرها ونهضت في ثبات تدخل خلفه الغرفة وتوقفت امامه هامسة:- لو ليا عندك خاطر..تعال كُل .. اكيد انت چعان بعد التعب طول النهار .. عشان خاطري جوم ياللاه ..
تطلع اليها وكل ما يجول بخاطره هو اخراجها من الغرفة بأي شكل لذا نهض في سرعة خارجا لتتبعه هى جالسة الى الطاولة وذاك التلفاز القديم يبث اخبار أسبوعية مجمعة ..
مد كفه يتناول اول لقيمات منذ طعام الافطار
وما ان هم بابتلاعها حتى نهض مذعورا وهو يصرخ:- مش دي النعمانية !؟..
انتفضت بدورها متطلعة لشاشة التلفاز هاتفة في ذعر مماثل:- ايوه هى .. ايه اللي حصل ده !؟.. و ميتا !؟.. اخوي ..
همس نديم في ذعر باسم اخته:- دلال ..
اندفع يطرق باب شقة زينب في عجالة لتطالعه زينب هاتفة في ذعر:- خير يا نديم..
اكد مضطربا:- النعمانية السيل غرقها وعزلها عن العالم .. مسمعتيش من شريف بيه اي اخبار !؟..
هتفت زينب مصعوقة للخبر:- سيل !؟.. ازاي !؟.. طب ودلال !؟.. وشريف !؟..
تأكد نديم انها لم تسمع اي اخبار قد تفيده فهتف يهم بالعودة لشقته:- انا مسافر للنعمانية حالا ..
هتفت ناهد صارخة بدورها:- خدني معاك ..
هتفت زينب متضرعة:- عشان خاطري استنوا بس لحد ما نشوف ايه اللي بيحصل ..
هتف نديم بعزم:- لا خلاص معدش فيها قعاد يا زينب.. انا سمعت كلامكم وكلام دلال كتير خاصة بعد ما طمنتني عليها ف جوابها الاخير ..لكن دلوقتي انا رايح اطمن على اختي واللي يحصل يحصل ..
واندفع من باب شقتها في اتجاه شقته تتبعه ناهد وهى اكثر تصميما منه على الذهاب للاطمئنان على اخيها .. وليكن ما يكون…
↚
هتفت ورد ببطنها المنتفخ قليلا محاولة اللحاق بصديقتها لواحظ التي كانت تمد الخطى للوصول لشادر العرض:- يا بت يا لواحظ .. استني خدي يا بت ..
انتظرت لواحظ ما ان وصلها نداء ورد هاتفة في نزق:- عايزة ايه !؟.. مش فاضية لك دلوجت ...
هتفت ورد تلهث لحملها هاتفة ما وصلت لموضع انتظارها:- مسمعتيش اللي حصل ف النعمانية !؟..
هتفت لواحظ في لامبالاة:- هيكون حصل ايه يعني ف البلد الفجرية دي !؟..
هتفت ورد مؤكدة:- يا بت حصل سيل غرج الدنيا ومحدش عارف لا يدخل ولا يخرج منيها ..
هتفت لواحظ صارخة:- كيف يعني !؟.. ميتا حصل الموال دِه !؟..
اكدت ورد:- بيجولوا من كام يوم .. ربنا يستر .. شكل جعدتنا مطولة هنا ..
اكدت لواحظ بعزم:- لاااه مطولة ايه .. والله لانزل النعمانية ولو كان فيها موتي ..
هتفت ورد مذعورة:- يا ساتر يا رب .. ليه يعني !؟.. ليكِ ايه ف النعمانية عشان تجولي كِده !؟.. ما تغور بناسها ..
هتفت لواحظ بنبرة ذات مغزى:- ليا فيها كَتير .. وهايبجى ليا فيها اكتر .. وهروح يعني هروح ..
هتف خفاجي ابو لواحظ يستدعيها متعجلا إياها لتصعد لتؤدي رقصتها فاندفعت ملبية تتبعها نظرات ورد وهي تملس على بطنها البارز بعض الشئ هامسة:- والله شكلك ما هتجبيها البر يا لواحظ … چبها چمايل يا رب ..
واستدارت عائدة في هوادة لخيمتها …
كانت الليلة باردة فما استطاعت النساء الخروج من المندرة بصحبة اطفالهن لسماع عبدالمحسن وحكاوي ربابته التي يتناهى لهن نغماتها من الجانب الاخر من البيت الكبير .. جلسن جميعا في دائرة يجتمعن حول ركوة نار وضعت في منتصف الدائرة لجلب الدفء رغم ان كل واحدة منهن تتلفح ببردتها الثقيلة نوعا ما الا دلال التي هبطت لتوها من غرفتها لتنضم إليهن وقد شدت حول كتفيها كالمعتاد شال امها الذي لا يفارقها والذي يجلب لها نوعا خاص من الدفء تفتقده بشدة..
أفسحت النسوة لها المجال معتقدات انها ستجلس بالأعلى على احدى الأرائك المتوزعة هنا وهناك بالقاعة الا انها جلست بينهن مجاورة لسعدية زوج مناع التي كانت تحمل عفيف الصغير تهدهده لينام.. استأذنتها دلال في حمله هامسة:- هاتيه يا سعدية ..
مدت لها سعدية يدها تضع بين ذراعيها عفيف الصغير .. احتضنته دلال في محبة وبدأت تهدهده بدورها لتهتف واحدة من النسوة بتعجب:-عجبال ما تشيلي عوضك يا داكتورة .. بس متأخذنيش ف السؤال يعني .. هو انتِ ليه متچوزتيش لحد دلوجت !؟.. مع انك زي الجمر..
ابتسمت دلال واجابتها في أريحية:- النصيب مجاش .. ربنا لما يريد .. هيحصل ..
هتفت اخرى:- والله الرچالة ف مصر كنهم عميوا.. دِه انتِ تعچبي الباشا ..
قهقهت دلال هاتفة:- مش للدرجة دي .. بس سبكم مني بقى وخلونا فيكم .. انتوا عاملين ايه !؟..
هتفت امرأة بلهجة تحمل وجع لا يمكن مداراته:- يعني هنكونوا عاملين كيه يا داكتورة !؟..اهااا واعية للي احنا فيه .. لا عاد في دار ولا زرعة .. كله راح ..
هتفت دلال مطمئنة:- بس انا سمعت عفيف بيه بيقول انه هيقوم باللازم وهايبني البيوت اللي اتهدت وهيعوضكم عن خسارة الزرع من شونته..
هتفت امرأة اخرى:- والله لولا عفيف بيه ما كنّا عارفين ايه اللي كان چرالنا .. ما انت مشفتيش كيف خلا الرچالة كلها تنزل تسند الچسر الجديم بكتافها لچل ما تعدي الحريم وعيالهم ..وكان ساعتها هيروح فيها لولا ان ربنا ستر ..
هتفت دلال تستوضح الامر:- ازاي !؟.. ايه اللي حصل !؟..
هتفت اخرى مستكملة:- برچ الكهربا وچع وعفيف بيه كان چريب منيه لولا ستر ربنا وفرسه رمح بعيد مكنش حد عارف اللي كان ممكن يچرى .. بس الفرس اضرعت چريت مشيفاش جدامها راح اتسط ف شچرة چرحت كتفه .. ربنا يعافيه ..
تذكرت دلال لحظات علاجها لجرحه فارتجف شيئا ما داخلها ..
هتفت دلال تغير الحوار الذي تمحور فجأة حول عفيف بشكل يشعرها بالاضطراب على نحو عجيب موجهة حديثها لأحدى النساء المتابعات لحملهن:- هااا يا نجية !؟.. اخبارك ايه !؟..
هتفت نجية بابتسامة:- رضا يا داكتورة .. ماشي الحال وكله بيهون ..
هتفت امرأة عجوز مخضرمة:- شكلك شايل بنية يا نچية .. شكل بطنك بيجول كِده ..
ابتسمت دلال هاتفة:- هو بقى بشكل البطن يا خالة يامنة !؟..
اكدت الخالة يامنة التي تخطت السبعين من عمرها:- معلوم يا بتي .. دي حاچات عرفناها من چدود الچدود وعمرها ما خيبت..
هتفت دلال مازحة:- طب ابقي قوليلي عليها يا خالة عشان استغنى عن الجهاز اللي بيعرف نوع الجنين بقى .. بلا تكاليف بلا وجع قلب ..
قهقت النسوة لتهتف نجية في خيبة:- ليه بس كِده يا خالة يامنة !؟.. دي هتبجى البت التانية..
هتفت دلال متعجبة:- ومالهم بس البنات !؟.. نعمة وفضل .. بس ربوهم كويس ومتفرطوش فيهم بدري ..وحافظوا عليهم ..
نكست ام براءة التي كانت تجلس في احد الأركان البعيدة رأسها قهرا وهي تضم بناتها لأحضانها في وجع بينما مصمصت الجدة شفتها في استهزاء لكلمات تلك الطبيبة التي لم يروا من ورائها الا الهم باعتقادها .. لتستطرد دلال مازحة:- وبعدين ما انا اهو بنت .. لو مكنش اهلي علموني وبقيت دكتورة كنتوا عرفتوا تلاقوا ست تعالجكم صح بدل الدكاترة الرجالة اللي مكنتوش بتروحوا لهم..
هتفت امرأة ساخرة:- وانتِ فين وبناتنا فين يا داكتورة !؟ .. اشچاب لچاب ..
هتفت دلال بحماسة:- وليه يعني !؟.. ليه متبقاش واحدة واتنين وعشرة كمان من بناتكم زيي وأحسن مني !؟.. علموا بناتكم .. وعرفوهم دينهم .. ومتخافوش عليهم .. هيكونوا احسن من مية راجل..
هتفت احداهن:- صدجتي يا داكتورة ..
ابتسمت دلال في سعادة لتلتقط آذانها حديثا جانبيا اثار تعجبها فهتفت متسائلة موجهة حديثها لإحدى النساء:- ايه اخبار الدوا اللي كتبتهولك يا سميحة !؟.. ماشية عليه بانتظام!؟..
تلجلجت سميحة ولم تجب لتهتف حماتها في سخرية:- والله ولو ميت علاچ .. ايه تعمل التجاوي بالأرض البور !؟..
امسكت دلال تعليق لاذع كان على وشك الإفلات منها هاتفة متجاهلة سخرية المرأة الأكبر سنا:- مردتيش يا سميحة !؟..
فركت سميحة كفها هامسة في اضطراب:- اصلك بطلته .. ممنوش عازة يا داكتورة .. اني هچرب حاچات تانية و ربنا يسهل ..
هتفت دلال متسائلة:- حاجات تانية زي ايه!؟.. أدوية تانية يعني !؟..
تهامست النساء فيما بينهن لتهتف دلال بتعجب:-مالكم !؟.. ما حد يفهمني سميحة قصدها ايه بالظبط !؟..
هتفت سعدية في تردد:- هى جصدها على حاچات يعني النسوان مچربينها واهاا .. چابت نتيچة معاهم..
اصرت دلال على المعرفة هاتفة:- ايوه يعني زي ايه الحاجات اللي متجربة دي !؟.. عايزة اعرفها ما يمكن نستفيد.. مش عيب ..
ترددت سعدية من جديد متطلعة للنسوة حولها واخيرا هتفت:- يعني فى نسوان بتروح الأجصر .. في اثارات هناك بيجولوا لو دارت حواليها سبع مرات .. المرة من دول تحمل طوالي ..
صمتت دلال وأمسكت لسانها عن التعقيب لتتطوع امرأة اخرى هاتفة:- او تنام تحت جطر عشان تتضرع .. او تتكحرت من فوج حتة عالية ف الچبل.. او تروح..
هتفت دلال تقاطعها فما عادت قادرة على تحمل ما تسمع من ترهات:- وانتوا بقى مصدقين ده كله مش كده !؟..
هتفت سميحة مؤكدة:- يا داكتورة اللي خلاها نفعت مع غيرنا .. ايه اللي هيخليها تخيب معانا!؟.. اهو الغرجان بيتعلج بجشاية ..
اكدت دلال هاتفة في ثقة:- لا ..الغرقان بيتعلق بربنا..
ساد صمت للحظة استطردت دلال بعدها:- فين ربنا من اللي بتقولوه ده !؟.. ربنا هو الوهاب .. انتوا كِده بتشركوا بيه حد تاني ف عطيته ليكم ..
انتفضت النساء مستغفرات لتهتف دلال مؤكدة:-ايوه .. ما لما مرضاش بابتلاء ربنا وأجري ادور على حاجة تخلصني منه بعيد عن ربنا .. يبقى ده اسمه ايه !؟.. ربنا النافع وهو الضار .. وكون الطرق دي نفعت مع حد يا سميحة ده مش معناها انها ممكن تنفع معاكِ او مع غيرك .. اللي حملوا بعد تجربة الطرق دي ربنا ف الاساس كان رايد لهم الحمل ولو كانوا صبروا كان الحمل هيحصل من غيرها عارفين زي ايه !؟.. زي الحرامي اللي راح يسرق لو كان صبر كان ربنا بعت له اللي سرقه ده بس عن طريق الحلال لانه ف الاساس رزقه بس هو استعجل الحرام .. ارجعي خدي دواكِ يا سميحة .. وتوكلي على الله ..
هزت سميحة رأسها بالإيجاب دون ان تتطلع لحملتها التي رمقتها بنظرة نارية لكنها لم تجرؤ على التعقيب ..
هتفت احدي النساء من الجانب الاخر للدائرة متعجبة:- امال خبر ايه !؟.. احنا هنجعدوا الليل بطوله ع اللي خلف واللي مخلفش .. دوجوا لي خلونا نفرحوا شوية .. بكفايانا هم راكبنا..
لم تكذب النساء خبرا لتدفع احداهن باب المطبخ محضرة احدى صواني الشاي وبدأت في الطرق عليها لتتمايل النسوة في سعادة على ترنيمة الخالة يامنة:-
يالي يالي يالي يالي يالي يالى يالي
يا احمد علي يا احمد علي بيع نخلنا العالي
بيع النخل يا احمد علي و لبسنى خلخالي
لبس يالى يالى يالى يالى لبسنى خلخالي
يا احمد علي يا احمد علي النخل راح ضله
بيع النخل يا احمد علي بيع نخلنا كله
بيع يالى يالى يالى بيع نخلنا كله
يا احمد على اسمك على لساني
بيع النخل يا احمد على ولبسنى كرداني
لبس يالى يالى يالى يالى لبسني كرداني
يالى يالى يالى يالى يالى يالى يالى
كان عفيف قد اندفع للمطبخ ليحضر اداة صلبة يحتاجها الرجال بالشونة فتوقف محرجا على اعتاب الباب معتقدا ان النساء قد استشعرن قدومه لكن لم تلحظ أيهن دخوله للمطبخ من خلال الباب الاخر المفتوح والمطل على بهو المندرة الذي تتجمع فيه النسوة يتمايلن في سعادة .. لم يكن يري النساء اللائى كن بقلب الدائرة .. كان كل ما يبصره اللحظة هو محياها وهى تجلس بينهن في أريحية على وجهها ابتسامة وضاءة تعكسها نيران الركوة لتطفي على ملامحها سحرا خلب لبه..
كانت تصفق في نشوة متفاعلة مع النساء حولها مما جعله يبتسم رغما عنه وما ان جذبتها احدى النساء لتتوسط الحلقة لتشاركهن الرقص على أنغام الخالة يامنة حتى انتفض مبتعدا هاربا من المطبخ بأسره فما عاد قادرًا على رؤيتها تتمايل من جديد على أغصانها فمرة واحدة كانت كافية و زيادة لتجعله يفقد ثباته وللأبد .. تجربة ثانية كتلك تعني عدم الخلاص ما حيّا وهو لم يتخلص بعد من اسر التجربة الاولى ..ويالها من تجربة !؟..
هبط نديم ومن خلفه ناهد على الطريق
الترابي المؤدي للنعمانية سار بضع خطوات لكنهما انتفضا لسماعهما مكابح سيارة تقف بمحازاتهما .
اندفع شريف من عربة الشرطة في اتجاههما هاتفا في ذعر:- انتوا ايه اللي جابكم هنا !؟..
هتف نديم مؤكدا:- مكنش ينفع نسمع اللي سمعناه ومنجيش نطمن على اخواتنا ..
هتف شريف موبخا:- انتوا بعقلكم !؟.. تيجوا فين!؟. الدنيا مقلوبة وانتوا بظهوركم هتزيدوا الطين بلة ..
هتفت ناهد في اصرار:- يحصل اللي يحصل يا حضرة الظابط .. انا هدخل اشوف اخويا ولو كان في ايه ..
هتف شريف يحاول إقناعهما بالعدول عن قرارهما:- انتوا عارفين دخولكم النعمانية معناه ايه !؟.. معناه إنكم داخلين ومش خارجين تاني .. انتوا مستوعبين ده ولا لأ !؟..
هتف نديم بعزم:- احنا خلاص تعبنا م الهروب والجري هنا وهناك ..هندخل واللي ليه نصيب ف حاجة هيشوفها يا شريف بيه ..
تنهد شريف في قلة حيلة وقد رأى إصرارهما على الدخول للنعمانية فما كان منه الا هتف مشيرا للسيارة:- طب اركبوا أوصلكم .. على حظكم مش عارف بقى الحلو ولا الوحش .. لسه الطريق مفتوح والدنيا يا دوب اتعدلت شوية ده انا كنت نازل اجازة اخيرا .. بس هستنى اشوف الدنيا هتخلص معاكم على ايه ..
هتف نديم:- مش عايزين نتعبك يا شريف بيه ونأخرك على اجازتك ..
اكد شريف وهو يسبقهما باتجاه السيارة:- مفيش تأخير ولا حاجة لازم اطمن عليكم .. و بعدين مينفعش تدخلوا النعمانية مع بعض كتف بكتف كده .. انا هوصلكم لقرب التلة اللي عليها البيت الكبير .. تنزل انت الاول يا باشمهندس وبعدين تنزل مدام ناهد قدام بوابة البيت على جوه على طول .. تمام ..
هز كل من نديم وناهد رأسيهما في موافقة لتنطلق بهما العربة الي مجهول قد يكون فيه نهايتهما الحتمية لا محالة ..
وقفت العربة اعلى التلة ليهبط منها نديم متطلعا الي ناهد في وجع وهى دامعة العينين ليندفع شريف بالعربة في اتجاه بوابة البيت الكبير ليوقف سيارته لتهبط منها مندفعة لداخل البيت وقد فغر مناع فيه في صدمة لرؤيتها هاتفا باسمها:- ست ناهد !؟..
واندفع خلفها للداخل ليلحق بهما نديم ليظهر ثلاثتهم امام الخالة وسيلة التي ما ان رأتها ناهد حتى اندفعت باتجاهها هاتفة باسمها:- خالة وسيلة ..
شهقت وسيلة في صدمة:- ناهد !؟.. يا بتي ..
وفتحت ذراعيها لاستقبال ناهد التي ألقت بنفسها باحضان الخالة وسيلة التي كانت تشتاقها حد الوجع .. أبعدتها الخالة وسيلة عن صدرها هاتفة ما ان وعت للأمر:- ايه اللي عملتيه ده يا بتي !؟.. و نظرت الي نديم ثم عاودت النظر اليها مستطردة في ذعر:- وايه اللي رچعكم ..انتوا چايين لجضاكم..ايه بس اللي چابكم !؟..
هتفت بكلماتها الاخيرة في وجع حقيقى وذعر على ما قد يحدث اذا ما اكتشف عفيف وجودهما..
لكنه اكتشف بالفعل عندما اندفع من مكتبه وهو بأعلى الدرج هاتفا:- يا خالة وسيلة .. فين ال..
قطع كلماته متطلعا الي اخته ونديم في غضب عاصف ولم يسعه الا ان اخرج سلاحه موجها اياه في اتجاههما ..
كانت قد قررت وعزمت امرها ونفذت .. اندفعت لداخل النعمانية وخدمها الحظ لتبصر نديم وهو يصعد التلة في اتجاه بيت النعماني وكذا تأكدت ان ناهد قد سبقته للداخل ..
اندفعت في عجالة لبيت صفوت الذي وقفت على أعتابه تؤكد للخدم انها بحاجة لمقابلته بأمر عاجل .. اندفع صفوت اليها في غضب هامسا وهو يجز على اسنانه في غيظ:- ايه اللي چابك هنا !؟.. وانتوا اصلا رچعتوا ميتا !؟..
هتفت في عجالة:- مش وجت حديت فاضي .. هم وشوفلك متوى .. عفيف لو سمع اخته وطالك هيدبحك ..
هتف صفوت صارخا:- اخته !؟.. اخته مين يا مخبلة !؟.. ما احنا عارفين اللي فيها ودفنينه سوى ..
هتفت تتعجله تكاد تلطم خديها:- رچعت .. هى والباشمهندس .. رچعوا ووعيت لهم بعيني وهما داخلين البيت الكَبير..
تطلع صفوت لها في صدمة وظل صامت للحظات واخيرا هتف في راحة لامباليا:- طب وايه اللي فيها !؟.. ما ياجوا .. چم لجضاهم .. هو عفيف لما يوعالهم هيرحب بيهم اياك !؟.. والله ليفرغ طبنچته ف جلوبهم ..
هتفت لواحظ تحاول بث الرعب بقلبه:- طب وايه جولك لو سمعهم !؟.. هااا .. ايه اللي هيحصل ساعتها .. جول !؟..
انتفض مذعورا لمجرد تخيله لرد فعل عفيف واندفع لداخل داره مؤكدا لها:- طب روحي دلوجت واني هحصلك .. روحي ..
ابتسمت في سعادة لاستطاعتها استمالته كالعادة واندفعت مبتعدة حيث تعرف اين يمكنها إيجاده…
كاد ان يضغط عفيف على زناد سلاحه الا ان دلال ظهرت في الوقت المناسب مندفعة من المطبخ لبهو البيت الكبير وقد ادركت الموقف في ثوان لتقف امام نديم الذي كان قد اندفع بدوره يقف امام ناهد يزود عنها والتي كانت تقف متصلبة لم تأت بأي رد فعل..
هتفت دلال صارخة:- لو سمحت يا عفيف بيه .. اسمعهم .. ارجوك ..
اندفع عفيف هابطا الدرج وهو لايزل شاهرا سلاحه هاتفا في صوت كالرعد:- اسمع ايه!؟.. دوول ما يتردش عليهم الا بده ..
ولوح بسلاحه الذي وجهه اليهم من جديد لتتحرك ناهد بعد ان خرجت من خلف جسدىّ نديم ودلال متوجهة اليه تقف امام فوهة سلاحه بثبات هاتفة في وجع حقيقي:- اضرب يا عفيف لو فاكر ان اختك .. تربيتك .. ممكن تعمل حاچة توطي بيها راسك.. ده انا مبعدتش الا عشان احميكِ م الفضايح..
هتف عفيف وهو لايزل موجها سلاحه تجاهها:- تحميني م الفضايح !؟.. لا كتر خيرك يا بت أبوي ..واللي عملتيه ده چاب لي ايه غير الفضايح والعار وانا مش جادر ارد على طلب واد عمتك ليدك عشان حضرتك مش موچودة م الاساس !؟..وأخرة المتمة .. فضحني جصاد النعمانية كلها وجال لي لو راچل روح هات اختك من مطرح ما انت بتجول ..
هتفت بتعجب:- بن عمتي مين !؟.. جصدك صفوت!؟..
اكد عفيف هاتفا في غضب:- ايوه هو ..
هتفت ناهد بتعجب متطلعة لنديم:- ازاي !؟.. ده لولا صفوت كان الناس جطعتنا بسبب اللي حصل !؟..
هتف نديم مؤكدا:- ايوه فعلا ..
صرخ عفيف ثائرا:- وهو ايه اللي حصل م الاساس !؟.
هتفت ناهد منتفضة تحكي لتهدئة ثورته:- ف يوم كنت انت مسافر مصر وانا كنت راچعة من اخر امتحان ليا لجيت الواد زيدان اللي بيشتغل ف ارضنا چاي يچري يجولي ان مهندس الري فاتح المية على الارض وسايبها والأرض هتغرج روحي كلميه لحسن الزرعة اللي ضيعنا عليها الشهور اللي فاتت هتروح ..و فعلا مكدبتش خبر ورحت اخبط عليه ف الاستراحة بتاعته لجيت باب الاستراحة متوارب والباشمهندس نديم واجع ع الارض مغمي عليه..
من غير ما افكر دخلت اشوف فيه ايه .. اول ما دخلت افوجه لجيت رچالة معرفش مين هم داخلين وجعدوا يجولوا بتعملى ايه عند الباشمهندس .. و احنا هنفضحكم .. جعدت ازعق واجولهم انتوا متعرفوش انا مين .. لكن كانوا عارفين وجالوا لي اني هكون سبب في فضيحة اخويا وان انت اللي هتجتلني بيدك لو وصلك الخبر.. ظهر صفوت فچأة من بينهم وجالي انا والباشمهندس اللي كان فاج ساعتها ومكنش عارف ايه اللي بيحصل ملكمش الا حلين..
يا تجعدوا وعفيف هو اللي هيخلص عليكم بيده لما يسمع بالموضوع اللي هيبجى حكاية لأهل النچع كلهم وانك هتتعير بيا العمر كله وممكن تروح السچن فينا كمان .. يا اما يساعدنا نخرچ حلا من النچع ولا من شاف ولا من دري ويبجى انت تتحجج بأي حاچة لو حد سأل عليا ..ان شالله تجول ماتت حتى ..
كان عفيف يقف مشدوها مما يسمع يتطلع الي اصحاب الحكاية وتعبيرات وجهيهما التي تنطق بالصدق مع كل حرف ..
هتف نديم مؤكدا:- ايوه هو ده اللي حصل بالحرف يا عفيف بيه .. و احنا مكناش عارفين نتصرف ازاي.. الوضع اللي كنّا فيه ساعتها والخبطة اللي كنت واخدها على دماغي مكنتش مخلياني ف كامل وعيي .. طلعنا نجري انا و الانسة ناهد بره النجع بمساعدة صفوت اللي ساعدنا بنفسه نركب اول حاجة تبعد بينا ..وأكد لي مرحش بتنا لحد ما يقنعك باللي هو قالهولنا وقال انه هيبلغك انك تنسى اختك وتقول انها ماتت عشان تخلص م العار ده ..ده حتى كان بيبعت لي جوابات وكان عارف كل الأماكن اللي قعدنا فيها ..
ووضع نديم كفه بجيب سترته التي كانت نفسها التي وضع بها جواب صفوت البارحة ليتناوله معطيا اياه لعفيف ..
تناول عفيف الخطاب يقرأه في تيه واخيراهتف في صدمة بعد ان استوعب ما كان يحدث:- يعني كان بيطلبك جدام النعمانية كلها عشان يچرسني واخرتها يوم السيل جال انك مش موچودة مطرح ما انا بجول انك عند بت خالتنا ف المنصورة وهو كان عارف انتِ فين الوجت دِه كله !؟..
بكت ناهد بدموع صامتة عندما اكتشفت المكيدة التي تعرضوا جميعا لها وأومأ نديم برأسه ايجابا وساد الصمت قليلا لهتفت ناهد من بين دموعها:- ده انا حتى مكنتش اعرف موضوع الچوابات اللي كان بيبعتها دي !؟..
اكد نديم:- مكنتش حابب اقلقك .. والجوابات كان بيبعتها مع ناس وبيقولي ان عفيف مقتنعش باللي هو قالهوله وانه ورانا ومش هيسبنا ولازم نختفي لانه حالف انه يقتلنا عشان يغسل عاره وكويس انه كان معايا اخر جواب منه .. لحسن الحظ مرتهوش لانه وصلني يوم ما اكتشفت موضوع السيل ده وقررنا نيجي على هنا ..
صرخ عفيف في قهر كليث جريح دافعا بأحد المزهريات التي كانت بالقرب من موضع وقوفه:- واااه يا واد عمتي .. عرض النعماني بجى رخيص جوي كِده عشان تتاچر فيه !؟.. والله ما يكفيني روحك يا نچس ..
هتف نديم مهدئا عفيف:- اهدى يا عفيف بيه واضح ان كلنا وقعنا ف مصيدة الاستاذ صفوت والله لو كنت موجود ف النجع ساعتها انا مكنتش اضطريت للتصرف بالطريقة دي والهرب بس عدم وجودك والفضيحة اللي كانت هتنتشر لحد ما تيجي مكنتش ممكن تخليك تسكت وكمان جوباته خلتني اقتنع فعلا ان الهرب هو ده حلنا الوحيد وخاصة لما لقيناك جاي ورانا اسكندرية فعلا وان نيتك كان واضح فيها الشر بس للاسف هو كان حاطط الخطة بشكل محكم جدا.. بس على اي حال المهم دلوقت هو ده ..
واخرج نديم من جيب سترته ورقة مطوية منحها عفيف الذي تطلع اليها للحظات متعجبا قبل ان يمسك بها وفضها ليلقي نظرة الي نديم ثم يعاود النظر للورقة مرة اخرى واخيرا همس عفيف بصوت متحشرج:- ايه ده يا باشمهندس!؟..
هتف نديم مضطربا:- دي ورقة جوازي العرفي بأختك يا عفيف بيه .. مكنش ينفع اخرج بيها من قنا وهى مش على زمتي .. مكنش ينفع تفضل معايا الفترة دي كلها وهى مش مراتي ..
هتف عفيف مصدوما:- يعني اتچوزتو !؟..
هتف نديم موضحا طبيعة زواجه بناهد:- ايوه اتجوزنا… بس يعلم ربنا ان طول الفترة دي حافظت عليها أمانة اتردت لك أهي زي ما خدتها .. والورقة دي قطعها ولا كأنها كانت ..
تطلع عفيف الي الورقة مرة اخرى ثم لناهد ليهتف متسائلا وقد تنبه اخيرا:- انتوا چيتوا ازاي !؟.. چيتوا سوى جدام اهل النچع !؟..
اكد نديم مسرعا:- لااا طبعا .. انا جيت ماشي وناهد .. اقصد الانسة ناهد جت راكبة مع سيادة النقيب شريف ..
هتف عفيف مستفسرًا في شك:- وهو حضرة الظابط كان يعرف الحكاية ولا ايه !؟..
هتف بسؤاله وهو يتطلع لدلال التي كانت المرة الاولى التي تتكلم فيها بعد محاولتها اثنائه عن استخدام سلاحه هاتفة مقاطعة نديم الذي كان يهم بالحديث:- محدش يعرف اي حاجة غيرنا احنا الأربعة وطبعا مناع وخالة وسيلة ..
اكد نديم:- احنا مدخلناش النجع مع بعض من اساسه يا عفيف بيه اطمن ..
هتف عفيف متسائلا:- وكنتوا فين طول المدة دي!؟..
اكد نديم بثبات:- كنّا ف إسكندرية ف شقة واحد صاحبي ..
اكد عفيف:- بس انتوا سبتوها .. انا كنت هناك يوم ما روحتوا منِها ..
اكد نديم:- اه ما احنا سبناها ونزلنا القاهرة عند..
وتنبه نديم ان دلال لا ترغب في اقحام شريف وزينب في الامر فاكمل في ثبات:- كنّا عند واحد صاحبي .. قعدنا ف شقته اللي كان مجهزها لجوازه ..
اومأ عفيف برأسه متفهما ثم هتف لمناع امرا:- روح هات لي الواد زيدان م الشونة ..
اندفع مناع ملبيا غاب للحظات ثم عاد لاهثا مؤكدا لعفيف:- الواد زيدان فص ملح وداب.. عم عبدالمحسن بيجول انه توه ما وعي للست ناهد داخلة البيت وكن العفاريت ركبته وطلع يرمح ومحدش عارف هو خفي فين ..
اومأ عفيف برأسه من جديد وقد أيقن انهما كانا على صدق كما نبأه حدسه .. لكن هناك صفوت.. وهو لن يدع الامر يمر مرور الكرام وكأن شيئا لم يكن .. فهذا عرضه .. ولا يمكن له ان يتهاون في امر كهذا ..
هم بالتوجه للخارج الا انه توقف للحظة وتقدم الي اخته التي كانت لاتزل تبكي ليجذبها بين ذراعيه معتصرا إياها لتشهق باكية من جديد متعلقة به .. لحظات مرت لم يُسمع فيها الا شهقات بكاء ناهد والخالة وسيلة التي شطارتها بكائها لتهتف متضرعة لله في قهر:- منك لله يا صفوت .. روح يا بَعيد ياچيكِ ويحط عليك .. دفع عفيف ناهد مبعدا إياها عن صدره مقبلا جبينها واستدار رابتا في فخرعلى كتف نديم واخيرا تقدم الى دلال في تؤدة وهمس هازا رأسه في استحسان:- تسلم تربيتك يا داكتورة ..
واندفع في اتجاه الخارج لتتبعه بعينيها التي كانت الدموع تترقرق بمآقيها وما ان غاب حتى استدارت في اتجاه اخيها لتفتح له ذراعيها تتلقفه في فرحة واشتياق فاق الحد..
اندفع عفيف لبيت صفوت مقتحما اياه بصحبة مناع شاهرا سلاحه ليقتص منه .. الا ان الخدم جميعهم اكدوا انه سافر الي وجهة لا يعلمها اي منهم .. اكد عفيف على مناع وهو يغادر بيت صفوت استدعاء النعمانية جميعهم في التو واللحظة .. لم تمر الساعة حتى امتلاء مجلس النعمانية برجالها عن بكرة ابيه مؤكدا ان الحدث جلل وان عفيف ما جمعهم اللحظة الا لامر بالغ الأهمية لا يحتمل التأجيل..
كان الهرج والمرج على اشده بين الرجال .. كل منهما يحاول استنتاج سبب اجتماعهم في هذه الساعة لكن ما ان طل عفيف عليهم حتى ساد الصمت في انتظار تصريحه..
هتف عفيف محييا في البداية واخيرا هتف بصوت جهوري صارم مخرجا سلاحه واضعا اياه امامه على الطاولة:- انا حلفت لكم من جيمة كام يوم اني هروح اچيب اختي من عند خوالها ف المنصورة وصفوت واد عمي كدب وچودها هناك من اساسه .. ناهد اختي فوج ف البيت الكبير وهى اللي چات لحالها لما سمعت باللي حصل .. چت تطمن علىّ وع النعمانية كلها .. انا كنت شارطها على واد عمتي جبالكم وهو وافج ..
لو چبت ناهد هتكون روحه جصاد الكلام اللي جاله يوميها وادي ناهد جت وروحه هتكون تمن ..عشان اي حد يعرف بعد كِده لما يتكلم على عرض النعماني يجى عارف هو بيجول ايه ويوزن كلامه بميزان الدهب ..هو دلوجت هربان .. بس هيروح فين !؟.. مسيره راچع وساعتها هتكون نهايته على يدي .. ولا حد منيكم عنديه كلام تاني !؟..
ساد الصمت ولم يجرؤ احد من الرجال على أثنائه عن رغبته او حتى مناقشته فيما عزم امره عليه فكل منهم يعرف ثمن الخوض في الأعراض وصفوت هو من اختار عقابه بيده ..
طرقت الباب في تردد ليقابلها على الجانب الاخر اذنا بالدخول ..دفعت باب الحجرة هاتفة في اضطراب:- ممكن ادخل اجعد معاكِ شوية يا دكتورة !؟..
هتفت دلال لناهد وقد شعرت باضطرابها ورغبتها في البوح بشئ ما يثقل كاهلها:- طبعا يا ناهد اتفضلي .. حد هيتعزم ف بيته !..
ابتسمت ناهد هامسة وهى تجلس بأقرب مقعد واجهها:- بصراحة يا دكتورة انا مش عارفة اجولك ايه !؟.. بس انا بچد آسفة على كل التعب اللي تعبتيه بسببنا .. بس ..
قاطعتها دلال هاتفة في ابتسامة ودود:- تعب ايه !؟.. اي تعب مهما كان يهون علشان خاطر نديم وسعادته ..
ابتسمت ناهد بحياء هامسة:- بچد يا دكتورة ..ربنا يخليكم لبعض .. انت متعرفيش نديم ..
اجصد الباشمهندس بيحبك كد ايه .. وكان خايف عليك ازاي .. و دايما چايب ف سيرتك ..
ابتسمت دلال هاتفة:- ده انتوا مكنتوش بتتكلموا الا عليا بقى !؟..
ابتسمت ناهد مؤكدة:- تجريبا كده ..
هتفت دلال:- الحمد لله إنكم رجعتم بالسلامة..هو ده المهم يا ناهد ..اي حاجة تاني مقدور عليها ..
هتفت ناهد بود:- المهم ميكنش الجعاد ف النعمانية تعبك يا دكتورة !؟..
ابتسمت دلال في شجن حاولت مداراته هامسة:- لا ابدا .. بالعكس .. النعمانية هاتفضل ذكرياتها عزيزة عليا .. انا مستنية عفيف بيه بس عشان استأذنه ف السفر ..
هتفت ناهد في لوعة:- سفر ايه !؟.. هو احنا لحجنا نجعد معاكِ !؟.. ولا حتى الباشمهندس لحج يشبع منك !؟..
اكدت دلال:- لازم ارجع بقى .. في حاجات كتير وقفت بسبب موضعكم .. والحمد لله انا اهو اطمنت عليكم ..ارجع اشوف حالي ..هروح النهاردة ابات مع نديم ف الاستراحة عشان أتوكل على الله من بكرة بدري ..
تنهدت ناهد هاتفة:- اللي يريحك يا دكتورة .. بس كان نفسنا تشرفينا شوية ..
هتفت دلال:- تسلمي يا ناهد ..
تناهى لمسامعهن صوت موسيقى شجية قادمة من غرفة المكتب فهمست دلال:- عفيف بيه ف المكتب .. عن اذنك هروح استأذنه ..
طرقت الباب ودفعته للدخول عندما اذن لها وهو يغلق الموسيقى .. تطلع اليها محاولا صبر أغوارها وشعر بانقباض عجيب بنفسه كأنما استشعر ان ساعة الفراق قد حانت ..
هتفت دلال في ثبات حاولت ادعائه:- السلام عليكم يا عفيف بيه .. انا بس حابة اشكرك على كرم الضيافة طول الفترة اللي فاتت دي .. وحابة اروح ابات مع اخويا ف الاستراحة بتاعته لحد موعد قطر بكرة اللي طالع على مصر باذن الله ..
لجمته حقيقة الرحيل التي مثلت امامه متجسدة في كلماتها عن النطق بحرف للحظات واخيرا هتف بصوت متحشرج يحاول استجماع احرف بيانه:- وماله يا داكتورة .. حجك .. بس اسمحيلنا نبعت مناع معاكِ يوصلك بالعربية لحد بيتك.. ليه الجطر !؟..
اكدت دلال:- ملوش لزوم يا عفيف بيه .. مش عايزة اتعبكم معايا ..
اكد عفيف معاتبا:- وااه يا داكتورة .. تعب ايه بس !؟.. جولي انتِ ناوية ميتا بالمشيئة وهيكون مناع والعربية تحت امرك ..
هتفت دلال ممتنة:- تسلم يا عفيف بيه .. انا رايحة عند نديم هبات الليلة دي وبكرة الصبح هطلع ع القاهرة .. ومرة تانية بشكرك على كل حاجة ..
ومدت كفها بلاوعي ملقية السلام فمد كفه بالمقابل مودعا لتتلاقى الأكف ربما للمرة الاخيرة في حديث شجي دامع .. فقد كان كلاهما اشجع من أصحابهما وقد باح كل لخله بما يعتمل في جوفه .. ابتعدت الأكف في وداع موجع كل منهما يحاول التشبث .. لكن الفراق كان مقدر لا محالة ..
هتفت دلال في لهجة حاولت ان تضفي عليها رسمية لم تجد تصنعها:- عن اذنك ..
ليهمس هو بنفس اللهجة الرسمية:- اتفضلي ..
خرجت مسرعة باتجاه الباب لتولي بلا رجعة ليظل ناظره معلقا بالباب لعلها تعود ..فهل تفعل!؟..
كان من المفترض ان يذهب لامها يطلب منها موعدا لزيادة رسمية لكنه لم يستطع الا ان يندفع بلا تعقل باتجاه المشفى الذي تعمل به باحثا عنها..
بحث بغرفة الأطباء وبكل الغرف تقريبا بقسم الباطني والقلب واخيرا لمح طيفها فاندفع يقف امامها يلهث في سعادة هاتفا:- دكتورة زينب ..
تطلعت اليه وقد انتفضت داخليا ما ان وصل لمسامعها صوته المميز .. اندفعت اليه تسأله في لهفة:- اخبار نديم وناهد ايه !؟.. حصل لهم حاجة !؟..
اكد شريف وهو يتطلع الي ملامح وجهها التي افتقدها حد العذاب:- لا الحمد لله مفيش حاجة.. اللي عرفته من نديم ان عفيف بيه سامحهم .. واضح ان الموضوع فيه حكاية كبيرة كانوا ضحايا فيها .. بس سيبك من ده كله !؟.. زينب.. تتجوزيني !؟..
طلبها في ابتسامة واسعة اشبه بإعلان لاحد معاجين الاسنان .. شهقت وهى تنظر اليه في صدمة وما ان استعادت اتزانها حتى اندفعت مسرعة مبتعدة عنه الا انه لحق بها هاتفا في اصرار:- ايه !؟.. مسمعتش ردّك!؟..
هتفت مضطربة تحاول الفرار منه:- الحاجات دي متجيش كِده ومتتناقش هنا يا سيادة النقيب ..
اكد وهو يغلق عليها السبيل حتى لا ترحل مبتعدة:- طب قولي لامك احنا جايين النهاردة الساعة ٧ .. لا سبعة متأخر .. الساعة ٣ .. لا ده معاد غدا .. بصي.. قوليلها جايين الساعة ٦ وامري لله ..
اندفعت مبتعدة تدخل غرفة الأطباء التي كانت فارغة لحسن الحظ لتنفجر مقهقهة على افعاله وقد وضعت كفها على قلبها الذي كان يشاطرها قهقهاتها في سعادة .. واخيرا انفجرت باكية رغما عنها .. وقد شعرت ان ذاك الرجل سيكون بلا شك سبيلها الأسرع للجنون وهى تمسح دمعات سالت من عينيها مختلطة بسعادة بلهاء ..
اما هو فقد ظل متسمرا موضعه حتى غابت لداخل الغرفة ليهتف زافرا في حنق:- يا رب صبرني لحد الساعة ٦ .. لا ٦ ايه !؟.. يا رب صبرني ليوم الفرح ..
واندفع في اتجاه شقته وطرق الباب في سرعة لتفتح امه مرحبة ليندفع مقبلا إياها هاتفا في لهفة:- بقولك ايه يا حجوج !؟.. يا تجوزيني يا اما هصورلكم قتيل هنا ..
هتفت شريفة مقهقهة:- ما انا قلت كده من زمان!؟..
هتف شريف معترضا:- زمان ايه بقولك دلوقتى.. انا عايز اتجوز مع سبق الإصرار والترصد ..
قهقهت شريفة من جديد هاتفة:- يخيبك يا شريف وجعت قلبي م الضحك ..
هتف شريف محذرا:- لا قلبك ايه اللي يوجعك دلوقتي يا شوشو !؟... ركزي معايا كله لمصلحتك .. ده انا هجيب لك قسم القلب كله هنا..
هتفت شريفة تشاكسه:- هتجيبهولي انا !؟.. و الله ما حد عايز يتعالج الا انت ..
اكد شريف مقهقها:- طب وانا قلت حاجة غير كده!؟.. ما انا بقولكم اهو عالجوني .. و انا علاجي تجوزوني.. غلطش انا ..!؟..
هتفت شريفة ضاحكة:- لا ..هو انت تغلط ابدا .. الله يكون ف عونك يا بنتي ع المرستان اللي هتعيشي فيه ..
قهقه شريف مؤكدا:- احلى مرستان والنعمة.. ده انا هلاعبها كل الألعاب.. وهتضمن الجنة من وسع..
قهقهت شريفة من جديد ليبادرها شريف مؤكدا:- بقولك يا حجوج !؟.. احنا هنروح لهم نخطبها النهاردة الساعة ٦ باْذن الله ..
هتفت شريفة في دهشة:- النهاردة !؟.. طب ده الواحد مستعدش !؟..
هتف شريف محتجا:- تستعدي ايه !؟.. هو انت فاكرة نفسك العروسة يا حجوج!؟..و بعدين في ايه بقي!؟.. اقولها جوزيني بسرعة !؟.. تقولي مستعدتش .. انا عايز جواز ف الإنجاز ..
ابتسمت شريفة هاتفة:- طب خلاص نروح ونقابل مامتها وربنا يقدم اللي فيه الخير ..
هتف شريف متضرعا:- ياارب ..
لتتسع ابتسامة شريفة في سعادة فهذه هى المرة الأولي التي ترى فيها شريف بهذه السعادة الحقيقية خاصة بعد وفاة والده والذي كان شَديد التعلق به ..فعلى الرغم من كوّن شريف خفيف الظل يميل للمزاح لكنه يخفي داخله وجعا بسبب وفاة والده التي جاءت مفاجئة للجميع .. تمنت ان تدخل الفرحة من جديد لقلبه بدخول زينب لحياته .. تضرعت لحدوث ذلك في خشوع قلب ام لا يأمل الا في سعادة وليدها الوحيد ..
↚
كان عفيف يداعب فرسه في ود يقف رابتا على عنقه ليصهل الفرس في امتنان لقطع السكر التي يمطره عفيف بها .. تنحنح مناع الذي كان يقف على مقربة ليستدير عفيف متطلعا اليه ثم يعاود مداعبة فرسه من جديد هاتفا:- ايه في يا مناع !؟.. شكلك عايز تجول حاچة !؟..
هتف مناع متنحنحا:- أديني الأمان الاول !؟.
هتف عفيف بنفاذ صبر:- خبر ايه يا مناع !؟.. من ميتا بتخاف لما تتكلم معاي !؟..
هتف مناع ملقيا كلماته دفعة واحدة:- الداكتورة دلال !؟..
تنبه عفيف مستديرا اليه متسائلا:- مالها الداكتورة!؟..
هم مناع بالتحدث الا ان عفيف ألقى بنظراته للبعد حيث وجدها تخرج مع نديم من الباب الخلفي للبيت الكبير في اتجاه استراحته تطلع اليها مبتعدة دون ان يطرف له جفن لكن داخله يصرخ قلبه معربدا في رفض .. تطلع اليه مناع ليوجه نظراته حيث تصلبت نظرات سيده ..
غابت دلال ونديم عن عيونهما اخيرا ليستدير عفيف موليا ظهره موجها اهتمامه لفرسه يحاول تجاهل تلك الغصات التي تسكن قلبه وروحه ..
هتف مناع:- اهاا .. هو ده اللي اجصده يا عفيف بيه .. الداكتورة خَسارة يا بيه .. والله الف خَسارة ..
تنهد عفيف في حسرة:- ما هى عشان خسارة يا مناع بعمل اللي انت واعيله دِه ..
هتف مناع متعجبا:- كيف يعني !؟..
هتف عفيف بنبرة موجوعة:- يا مناع حياتها غيرنا ومش هتجدر تعيش هنا وسط ناس النعمانية ..انت وعيت لمرضها ووچعها واللي شافته هنا من ساعة ما چت .. هنا مش مكانها يا مناع .. وهبجى بظلمها لو فكرت اخليها تبجى هنا وهظلم ناسي وأهلي وورث ابويا وشيلته لو فكرت اروح انا معاها .. عرفت ليه خسارة يا مناع ..!؟..
هتف مناع محتجا:- بس يا بيه يمكن ...
قاطعه عفيف بنبرة متعبة:- خلاص يا مناع مفيهاشي بس ويمكن .. ربنا يسعدها ..
تنهد مناع في وجع مشاطرا سيده مشاعره التي تئن في صمت لكبتها خلف قضبان
روحه ..
قبل ان تقف عقارب الساعة انتباه مشيرة للسادسة بالضبط كان جرس الباب يدق في لهفة .. انتفضت زينب هاتفة لامها في اضطراب:- شكلهم جم يا ماما !؟..
ابتسمت امها في سعادة رابتة على كتفها:- لا وجاي بدري عن معاده كمان .. ربنا يتمم لكم بخير يا بنتي ..
رن جرس الباب من جديد لتهتف امها مندفعة تفتح الباب مازحة:- انا هروح افتح الباب لحسن يقتحم البيت وانت ادخلي بالعصير بعدي بشوية ..
اندفعت ماجدة لفتح الباب ليطالعها وجه شريف المبتسم يحمل بعض الحلوى وبجواره امه تبتسم في وداعة.. دعتهما للدخول مرحبة .. لحظات وهلت زينب تتخبط في اضطرابها و هى تحمل صينية العصائر وما ان همت بوضعها على الطاولة حتى تعثرت لتسقط صينية العصائر مندفعة الكؤوس هنا وهناك لينل شريف الجزء الأكبر من رذاذها ويسقط احد الكؤوس على حجره ..
شهقت كل من ماجدة وشريفة في صدمة وحاولت زينب على قدر استطاعتها التماسك حتى لا تسقط بدورها..
سادت فترة من الصمت حتى هتف شريف مازحا يحاول تلطيف الأجواء وهو يمسك الكأس الذي كان بحجره ولايزل به رشفة من العصير رافعا اياه لفمه ومن ثم واضعا اياه على الطاولة امامه:- والنعمة العصير كان حلو قووي يا طنط بس ياللاه بيقولوا دلق العصير خير .. نقرا الفاتحة بقى قبل ما الدكتورة تيجى بحاجة سخنة المرة الجاية .. انا جاي اتجوز مش اتسلخ حي ..
قهقت كل من ماجدة وشريفة على تعليقه وتطلعت زينب اليه في خجل وهى لاتزل تقف غير قادرة على التصرف لتناوله امها بعض المحارم وهتفت مشيرة لموضع اخر للجلوس:- تعالوا اتفضلوا هنا بعيد عن العصير اللي انكب ده..
انتقلوا بالفعل لداخل الصالون ليهتف شريف مازحا كعادته:- بصي يا طنط .. هناك انا خطبت بنتك اللي حمتني بالعصير دي ..
قهقهت الأمهات ليستطرد وهو ينظر لزينب الذي هتفت تشاكسه بعد ان تغلبت على خجلها بفضل مزاحه:- ايه وهنا هتصلح غلطتك وهترجع ف كلامك !؟..
هتف متطلعا اليها في عشق مؤكدا:- لااا بعينك .. انا هنا هكتب الكتاب ..
هتفت ماجدة ام زينب:- لا احنا كده دخلنا ف الجد .. يبقى نقعد عاقلين كده ونتفاهم ..
جلس شريف وزينب ليهتف في جدية:- انا يا طنط جاي اطلب أيد زينب واللي هى تطلبه كله مجاب وطبعا زي ما انت عارفة ماما لوحدها ف الشقة فهنعيش معاها على الاقل تفضل معاها وانا غايب فترة شغلي ..
تغيرت تعبيرات ماجدة لكنها هتفت:- على خيرة الله يا حبيبي انا مش هلاقي لزينب عريس ف أخلاقك .. ربنا يهنيكم ..
ابتسم شريف في سعادة وتهلل وجه امه الا ان زينب هتفت:- بس انا مقدرش اسيب ماما يا شريف ..
تغيرت تعبيرات وجه شريف وتطلع لامه التي صمتت ولم تعقب لتهتف ماجدة تنهي الجدل:- البنت بتكون مطرح ما يكون جوزها يا زينب..
هتفت زينب معترضة:- بس انا لا يمكن اسيبك يا ماما ف البيت الطويل العريض ده لوحدك وخاصة مع تهديدات حاتم بن عمي واللي شريف نفسه عارفها ..
هتف شريف بحنق:- طب خليه يقرب م الشارع ده وانا اقطع رجله .. هى سايبة ..
هتفت شريفة مضطربة:- طب وبعدين !؟..
هتفت ماجدة مقترحة:- طب بقولكم ايه !؟.. زي ما انتوا شايفين البيت ده كله بتاعنا من بابه والدور اللي فوق ده كله كان ابو زينب الله يرحمه مجهزه لزينب ومظبطه على حطة العفش .. لو تتجوزوا فيه يا شريف يا بني .. والست شريفة تبقي معايا هنا على عيني وراسي او لو حابة تبقى لوحدها عندنا الشقة التانية اللي جنب دي اللي كان فيها ناهد ونديم .. تقدر تقعد فيها وتشرفنا ..
تطلع شريف لامه التي صمتت ولم تعقب للحظة وما ان هم شريف بالتحدث الا وقاطعته امه هاتفة في مودة:- وماله .. هنا وهناك واحد يا ام زينب وانا اللي يهمني ف كل ده راحة الولاد وسعادتهم ..
انفرجت أسارير شريف وقفز يقبل جبين امه وتبعته زينب تقبلها ومن بعدها تقبل وجنة امها التي دمعت عيناها في سعادة هاتفة:- ربنا يسعدكم يا رب ..
وأطلقت عدة زغاريد لينتفض شريف مندفعا نحو الباب لتهتف امه في تعجب:- انت رايح فين يا بني متسربع كده !؟..
هتف شريف مؤكدا:- رايح اجيب مأذون يا ماما .. ما هو الزغاريد دي لازم تبقى على حق ربنا..
هتفت شريفة ضاحكة موجهة كلامها لماجدة ام زينب:- شايفة الجنان ..
انكمشت زينب موضعها خجلا ولم تعقب بينما هتف شريف:- بصي يا طنط انا كلها بكرة وراجع شغلي ومش هرجع الا وزينب مراتي والفرح الاجازة الجاية .. هااا قلتوا ايه !؟..
تطلعن لبعضهن في حيرة واخيرا اطلقت ماجدة عدة دفعات متتالية من الرغاريد معلنة دخول الفرحة اخيرا لهذا البيت ..
جلس ودلال على مائدة العشاء صامتين رغم الصخب الدائر داخل كل منهما الا ان الصمت كان سيد الموقف .. كانت دلال هى المبادرة بالحديث رابتة على كف نديم الممدودة قبالتها على الطاولة هاتفة:- وحشتني يا نديم .. كنت هتجنن عليك بجد ..
خرج نديم من شروده مبتسما لها:- والله وانت كمان .. انت متعرفيش كانت حالتي ايه يوم ما عرفت انك هنا .. كان هاين عليا انزل احرق النعمانية باللي فيها ..
ابتسمت دلال في محبة:- ربنا يخليك ليا .. والله وانت متعرفش كانت حالتي عاملة ازاى كل ما احس ان عفيف قرب يوصلكم .. انا كنت متأكدة انك متهربش مع اخته .. لايمكن .. رغم كل الشواهد اللي بتأكد ده .. لكن انا مصدقتش .. عشان عارفة نديم تربيتي بيفكر ويتصرف ازاي ..
ابتسم نديم رافعا كفها مقبلا اياه:- ربنا يخليكي ليا..
وحول مجري الحديث مازحا:- وبعدين تربيتي دي!؟ .. بقى في ماما قمر كده !؟..
قهقهت ونهض يرفع الاطباق ليعاود تقبيل هامتها متنهدا ثم غادر للمطبخ ..
نظرت اليه وهو يبتعد تستشف ما قد يكون بأخيها.. لقد تغير نديم رغم محاولاته ادعاء العكس.. عاد بأكواب الشاي ليهم بوضع احداها امام دلال التي همست وهى تطل بوجه اخيها:- انت بتحبها يا نديم !؟..
ارتج الكوب بكفه الا انه استطاع السيطرة على ارتجافة يده ووضع الكوب متسائلا في اضطراب:-هى مين دي !؟..
تطلعت اليه دلال تثبر أغواره هامسة:- ناهد يا نديم ..
تحاشى نديم النظرلأخته هاتفا:- احب مين يا دلال !؟.. الحكاية وما فيها .. ان الموضوع ده غيرني .. حسسني ان الدنيا لسه فيها حاجات كتير قووي لازم تتعرف وتتجرب .. ولما اتحملت مسؤلية ناهد .. عرفت يعني ايه راجل بجد ..
ثم غير دفة الحديث كعادته هاتفا بمرح:- أنتِ كنتِ مدلعاني على فكرة .. يا ماما ..
ابتسمت له محاولة إظهار اقتناعها بكلامه لكنها ابدا لم تقتنع فهي تشعران نديم يعشق تلك الفتاة الرقيقة مدللة اخيها .. وانه يكابر ولا يريد الإفصاح عن ما بداخله تجاهها..
استأذن كل منهما للنوم فقد كان اليوم طويلا بحق.. تمددت هى على فراش نديم بالغرفة الوحيدة بالاستراحة بينما تمدد هو على تلك الأريكة الخشبية بالخارج .. لم يزر النوم أجفانهما ..
تقلب يمينا ويسارا كانما يتقلب على فراش من جمر لا يهدأ له جانب وصورتها تطالعه أينما ولى وجهه او حتى عندما يغلق عينيه مدعيا النعاس .. ابتسامتها تؤرقه .. لحظاتهما معا تضج مضجه وتسلب منه راحة باله ..
نفض غطائه واندفع في اتجاه الشرفة الوحيدة بالاستراحة فتحها رغم برودة الطقس ليلا الا انه كان بحاجة لاستنشاق هواء نقي لربما يخمد تلك النيران المستعرة بفؤاده ..
اما دلال فكانت لا تقل حالا عن اخيها فاستشعارها بقرب الرحيل عن النعمانية جعل وجعا ما خفيا بموضع مجهول داخلها يئن في صمت .. لتندفع خارج حجرتها لتطالع اخيها واقفا بالشرفة في هذا الجو البارد .. شدت المئزر على جسدها ووقفت جواره يتطلع كل منهما للبعيد يستشعر ما بدواخل الاخر من فوضي تحتاج لترتيب ..
همست دلال مشجعة:- اطلبها من اخوها يا نديم..
لم يتطلع اليها نديم فقد كان يعلم تماما ان انكاره السابق لم ينطل على دلال وانها تعلم دواخله اكثر من نفسه لذا هتف وهو يضغط على سُوَر الشرفة في وجع:- اطلب ايه يا دلال !؟.. انتِ مش شايفة احنا فين وهم فين!؟...دول اصحاب الارض اللي انت شيفاها دي كلها .. النجع كله تقريبا بتاعهم .. وانا بقى حيلتي ايه !؟..
هتفت دلال بحماس:- انت مهندس قد الدنيا ولك مستقبل .. و بكرة يبقى معاك ..و..
هتف نديم ساخرا:- وايه !؟.. ناهد متعودة ع العز.. عفيف مكنش بيخليها محتاجة حاجة .. انتِ فاكرة انها لما كانت معايا كنت مرتاح! ..ابدااا .. كنت حاسس اني مقصر معاها مهما جبت .. احساس صعب قووي يا دلال انك تحس بالعجز قدام حد عايز تسعده ومنتش قادر .. عايز تديله أقصى ما عندك وحاسس ان ده مش كفاية ..
همست دلال:- بس انا حاسة انها يعني ..
قاطعها نديم بلهفة:- انها ايه !؟..
اكدت دلال:- لما قعدنا مع بعض .. حسّيت من كلامها انها بتحبك فعلا .. كانت كل شوية تجيب سيرتك .. وتشكر فيك .. و ..
قاطعها نديم بخيبة:- حتى ولو كلامك صح .. اخوها هايرضى !؟..
صمتت دلال عند هذه النقطة ولم تعقب .. هى تعرف عفيف وعاشرته في مواقف كثيرة .. لكن عند النسب .. تظن ان الامر سيختلف و سيكون متشددا فيمن يهبه اخته فعادات الصعايدة في هذه النقطة بالذات لا جدال فيها .. والأنساب بالنسبة لهم لها معايير خاصة لا يمكن تجاهلها وخطوط حمراء لا يمكن تخطيها ..
استطرد محاولا تغيير الموضوع مؤكدا:- وبعدين اتجوز ايه وانا لسه مطمنتش عليكِ!؟..كفاية بقى يا دلال .. موقفة حياتك عليا .. انا مبقتش عيل .. انا قادر اسير حياتي وانت بقى ركزي على حياتك شوية.. بجد نفسى اطمن عليكِ مع راجل يستاهلك ويصونك بجد ..
هتفت دلال مازحة تحاول مداراة وجعها:- ايه ده !؟.. انت قلبت كده ليه وبقيت بتتكلم زي ام زينب !؟..
قهقه لتهتف هى:- كل شئ بأوان يا حبيبي ..
ربت على كتفها وهمس مؤكدا:- انا هطلب نقلي من هنا يا دلال ..
لم تعقب للحظات واخيرا همست وهى تجره للداخل بعيدا عن ذاك الصقيع في تلك الساعة المتأخرة:- اللي يريحك اعمله يا حبيبي .. ربنا يقدم لك اللي فيه الخير ..
اومأ برأسه في وداعة واندفع لأريكته لتدلف للحجرة بدورها وقد استشعرت وجعا مضاعفا بداخلها .. وجع اخيها ووجيعة بعادها ..وتأكد لها امر واحد .. ان كلاهما جاء النعمانية في ظروف مختلفة .. لكنهما سيغادراها بذات الوجع تاركا كل منهما قلبه خلفه هاهنا .. بين جدران البيت الكبير ..
هتف خلفها مناديا بصوت أجش يمشي في فخر بعضلاته المفتولة وشاربه الكث:- يا ورد .. يا بت يا ورد ..
توقفت ورد عابسة هاتفة في ضيق:- بت !؟.. ما تحسن ملافظك يا مرعي .. ايه بت دي !؟
هتف مرعي ساخرا:- طب يا ست الستات ..
هتفت ورد:- ايوه معلوم ست الستات .. عايز ايه..!؟
هتف مرعي في اهتمام:- فين البت لواحظ !؟
هتفت تهم بالرحيل مبتعدة:- وانا ايش دراني..
امسك مرعي بذراعها يجذبها مستوقفا إياها في غضب:- يعني ايه متعرفيش !؟.. دِه انتِ وراها كيف دراها ..
نفضت ذراعها من كفه هاتفة في غضب:- اوعى يدك دي ..اني ليا راچل يوجف لك ع اللي بتعمله دِه ..
هتف مرعي مقهقها:- راچل !؟ .. دِه اللي هو زيدان..!؟..كلب صفوت النعماني بجي راااچل..
هتفت ورد في حدة:- كلب سعران ينهشك .. جال كلب !؟..دِه راچل وسيد الرچالة كمان ..
اقترب طايع منهما هاتفا:- خير يا ورد !؟.. ايه في !؟..
هتفت حانقة:- مفيشي يا طايع .. يسلم لي سؤالك ..
هتف مرعي بلامبالاة متجاهلا وجود طايع الذي كان الجميع يعلم كم يعشق ورد التي رفضت الزواج به وتزوجت زيدان العامل بارض عفيف النعماني والذراع اليمني لصفوت النعماني:- خلصنا بطلي رط كَتير وجوليلي فين لواحظ !؟..
هتفت بمكر رغبة في اثارة غضبه ترد له سبته في حق زوجها:- تلاجيها مع واد الاكابر اللي يستاهلها ..مش حتة بلطچي منفوخ ع الفاضي..
زمجر مرعي صارخا:- انتِ جصدك مين!؟..صفوت النعماني !؟..هي محرمتيش من العلجة اللي خدتها جبل سابج .. ماشي يا لواحظ ..
هتفت ورد امعانا في إذلاله:- وانت ليك عنديها ايه !؟..
هتف بغيظ:- اني خاطبها من ابوها ..
هتفت ورد:- بس هي مش ريداك ..
هتف مرعي صارخا من جديد:- مش بكيفها.. هتچوزها بمزاجها او غصب ..
هتف بتهديده وهو يندفع من أمام ورد يكاد ينفجر غيظا لتستدير ورد باتجاه طايع هامسة:- تسلم لي يا طايع .. دايما سداد ..
همس طايع بعشق مفضوح:- معلوم يا ورد .. سداد .. ولو بعمري ..
تطلعت اليه في إشفاق فهي تعلم كم يهواها لكنها ما فكرت ابدا في مبادلته الشعور نفسه وخطف زيدان قلبها وتزوجها ..لتصبح ملك لرجل غيره لكنه ابدا ما نزعها من قلبه ..
تنهدت واستأذنت تتمختر ببطنها المنتفخ لتدخل خيمتها ليقف طايع متطلعا اليها في وجع واخيرا تحرك مبتعدا بدوره ..
طرقت الباب عدة مرات تتطلع حولها في اضطراب وهى تخبئ وجهها بطرف شالها فانفرج الباب اخيرا عن محياه الشاحب وجذبها للداخل في سرعة ثم اغلقه هاتفا بها في حنق:- ايه اللي اخرك كِده يا حزينة !؟..
مد كفه متناولا ما كانت تحمل واضعا اياه على الطاولة وأخذ يتناول الطعام في شراهة..
تطلعت لواحظ اليه في قرف واخيرا بدلت تعبيرات وجهها للنقيض هاتفة ما ان استدار صفوت متطلعا اليها متسائلا:- ايه !؟.. مش ناوية تاچي تاكلي !؟..
اقتربت وصوت خلخالها وكردانها يعزف لحنا يسبق خطواتها وألتصقت به هامسة في إغواء:- كُل انت يا سي صفوت ..
هتف صفوت وفمه ملئ بالطعام:- اتاخرتي عليا جووي .. كنت هموت م الچوع ..
اكدت لواحظ وهى تملس على شعره هامسة:- كنت اعمل ايه بس يا سي صفوت!؟..ما انت واعي .. الطريق واعر من النعمانية لهنا.. واني لحالي ..
ما ان ذكرت النعمانية حتى توقف عن تناول طعامه هاتفا في قلق:- حاچة حصلت بعد ما روحت .!؟..
اكدت لواحظ متنهدة:- يووه ع اللي حصل.. باين واد خالك سمع اخته و الحكاية كلها وطاح ف النچع يدور عليك بمنكاش وأخرة المتمة وجف وسط النعمانية وجال انه لو شافك هيجتلك عشان الكلام اللي جولته على اخته .. ومحدش جدر يرده …
انتفض صفوت صارخا في غضب جاذبا ذراعها يهزها:- كله من تحت شورتك يا عويلة ..
هتفت تهدئه مستعملة اقوى اسلحتها قدرة:- دراعي يا سي صفوت حرام عليك .. وبعدين اصبر بس .. وهو من ميتا لواحظ ميكونش عنديها الحل ..
خف ضغطه على ذراعها هاتفا مستفسرًا:- جصدك ايه..!؟..
اكدت تهمس بالقرب من أذنه:- اسمع بس للواحظ ومش هتندم المرة دي ..
وبدأت في سرد خططها الشيطانية على مسامعه واستمع هو كالعادة ..
كان يعلم انها سترحل بعد قليل .. فقد اعلمه مناع انه يجهز العربة من اجل سفر الدكتورة دلال .. اكد على الخالة وسيلة تحميل العربة بزيارة تليق بها..
ما ان هم بالخروج من باب البيت حتى وجدها تدلف وأخيها نديم من البوابة الخلفية الأقرب لاستراحته .. اقتربا معا ونديم يضم كتفيها بعرض ذراعه مما أشعره بغيرة حمقاء لا مبرر لها فأخفض ناظريه عنهما حتى وصلا موضع وقوفه .. رد على تحيتهما هاتفا:- وعليكم السلام .. خلاص نويتي يا داكتورة !؟.
اكدت في محاولة للثبات:- اه يا عفيف بيه .. ارجع اشوف شغلي وحالي بقى ..
هتف عفيف مودعا دون ان يرفع ناظريه اليها:- بالسلامة يا داكتورة .. ربنا معاكِ ..
واندفع في اتجاه بوابة البيت الكبير حيث كان فرسه مسرجا .. اعتلى ظهره بقفزة واحدة و جذب لجامه واندفع به يسابق الريح .. كان ذاك المشهد الاخير الذي حفرته له بمخيلتها قبل ان تستدير تلقي التحية على نديم ومن بعده الخالة وسيلة واخيرا ناهد التي اندفعت من داخل البيت تعدل من وضع حجابها على رأسها وتوقفت لحظة مضطربة ما ان وقع ناظريها على نديم .. احتضنت دلال في محبة هاتفة:- توصلي بالسلامة باذن الله .. وتشرفينا ف اي وجت يا دكتورة ..
اكدت الخالة وسيلة وهى تمسح دمعها المنساب:- معلوم .. تشرفنا وتأنسنا .. والله اتعودت على وچودك وجعدتك الحلوة يا داكتورة .. هتجطعي بيا.. ربنا ما يغيبك يا بتي..
دمعت عينا دلال لدعوات الخالة وسيلة الصادرة من قلب محب وابتسمت مودعة ولوحت بكفها عندما بدأ مناع في التحرك بالعربة خارج بوابة البيت الكبير ..
استدار نديم راحلا لتهتف ناهد تستوقفه:- ازيك يا باشمهندس !؟..
اكد نديم دون ان يستدير لمواجهتها:- الحمد لله يا آنسة ناهد .. رضا ..
هتفت ناهد:- يا رب دايما .. مش محتاچ حاچة!؟ .. اجصد يعني ... الاستراحة مش ناجصها حاچة !؟..
اكد نديم في لهجة رسمية:- لا .. كله تمام .. متشكر.. عن اذنك ..
واندفع راحلا خلف عربة دلال التي اختفت خلف الغبار الذي اثارته إطاراتها على الدرب الترابي ..
واصل عفيف ركضه بفرسه للجانب المقابل من النجع محاولا الابتعاد عن مسار العربة .. كان يجذب نفسه في الاتجاه المعاكس لخط سيرها .. كان يشعر وان روحه تغادر جسده مما دفعه ليزيد من سرعة انطلاق جواده ربما يخمد بعضا من نيران ذاك الأتون الذي تحترق به روحه .. وعلى الرغم من كل محاولاته في ان ينأى بنفسه عن مرأها تبتعد الا انه وجد فرسه يقف على جرف مرتفع يشرف على النعمانية وما حولها ليبصر بعين قلبه على ذاك الطريق هناك العربة ومناع يبتعد بها ..
ظل واقفا على صهوة فرسه يترقب ابتعاد العربة في صمت احد قسوة من صمت القبور .. عيناه تحجرت نظراتها على الطريق وأصبح اشبه بتمثال من صخر قد من حجارة الجبل الذي يقله ..
سال دمع خفي من عيني مناع داراه سريعا حتى لا يشوش رؤيته للطريق قبالته وهو يعي اين كان يقف سيده مودعا .. لقد أبصره على ذاك الجرف ينظر للعربة الراحلة بقلبه .. هو لم يصرح يوما بعشقه.. لكن مناع يحفظ سيده ويدرك ان قلبه تعلق بها .. ألقى نظرة سريعة على مجلسها خلفه ليجدها ليست باحسن حالا من ذاك الذي كان يقف مسلوب الفؤاد تكاد احجار الجبل تئن وجعا وترتج حزنا لوجيعته..كانت تبكي في صمت عيناها على الطريق وقلبها معلق بأحجاره .. تعد حصاه وتأمل ان يتعرف عليها يوما ما .. اذا ما قُدر لها العودة ..
زاد مناع من سرعة العربة فما كان لديه القدرة على الصبر حتى ينهي ذاك الطريق المستقيم لينحرف مبتعدا عن عينىّ سيده ليقلص مدة عذابه ووقفته التي طالت .. انهى الطريق وانحرف بالفعل ليننهد مناع في شجن وهو يلمح دمعها من خلال مرآة سيارته والذي تحاول ببسالة ان تداريه ..
اندفع عفيف هابطا الجرف ما ان تأكد ان السيارة رحلت وانها ما عادت بالقرب منه .. شعر بنصل حارق ينغرس بصدره .. حتى انه وضع كفه موضع فؤاده و هتف متوجعا:- يااا الله ..
اندفع بفرسه عائدا للبيت الكبير ليقف مسرجا اياه فتناهى لمسامعه شدو عبدالمحسن الذي كان يستند على جذع شجرة قريبة ولم يدرك بقدوم عفيف:-
وايه رماك ع المر ..
جلت اللي امر منيه ..
و ياعينى ع العشج وأحواله ..
ويا وچعي ع اللي ابتلي بيه ..
يجوم ينام حِبه جصاده ..
كنه چن ومخاويه..
لا عارف يعاود خالي الجُليب
ولا داري الچرح كيف يداويه ..
توقفت يده عن إكمال سرج فرسه وقد وقعت كلمات عبدالمحسن على فؤاده وقع مادة حارقة على نيران مستعرة ليندفع دالفاً للبيت لتعاجله الخالة وسيلة باكية وبجوارها ناهد تشاطرها أحزانها لتهتف الخالة وسيلة:- والله جطعت بيا .. كانت روحها حلوة وطبعها موافج .. ربنا ما يغيبها ..
هرول عفيف مندفعا لاعلى الدرج يختبئ من اثرها الباق خلفها .. وقد ارتجت روحه بدعوة الخالة وسيلة .. ربنا ما يغيبها .. وكأنها غابت من الاساس.. انها تسكن هاهنا بين حنايا روحه .. وقد أيقن اللحظة من ذاك العشق الذي كان يكابر للاعتراف به .. تأكد لتوه انه مسربل به .. وان هواها يكبل فؤاده بسلاسل من سحر متفرد لا يمكن لأي من كان ان يفك طلاسمه..
صرخ شريف هاتفا وهو يقف بأسفل درج بيت زينب:- انتِ يا بت يا مراتي !؟.. ياللاه لحسن اتأخرنا !؟..
هتفت زينب من داخل شقتها محدثة امها:- شايفة يا ماما الجنان !؟.. وبعدين اتاخرنا على ايه !؟.. ده انا لسه مكملتش لبسي أساسا ولا فطرت .. وبعدين هو فيه محلات موبيليه تفتح الساعة ٨ الصبح !؟..
كانا قد اتفقا على قضاء اليوم التالي لعقد قرانهما معا لاختيار اثاث منزلهما قبل انتهاء اجازة شريف وسفره مساءً قهقهت ماجدة امها هاتفة:- والنبي مجنون صح بس عسل .. اقعدي افطري وانا هطلع له ...
فتحت ماجدة الباب تطل على شريف هاتفة:- صباح الخير يا شريف يا حبيبي ..
هتف بدوره مبتسما:- صباح الخير يا طنط ..
استطردت ماجدة:- اطلع يا حبيبي افطر مع زينب وبعدين انزلوا .. لسه بدري ع المحلات..
اندفع شريف صاعدا الدرج هاتفا:- وماله يا طنط والله انا كمان مفطرتش ..
أفسحت له ليدخل ملقيا التحية وجلس على المائدة في أريحية .. طلت زينب في حياء تحمل طبق من طعام لتضعه على المائدة .. بدأ شريف في تناول الطعام بشهية وما ان رفع لقمة عامرة الي فمه حتى توقف متسمرا ما ان وقعت عيناه على زينب التي جلست قبالته بلا غطاء رأسها ..
اطال النظر بها و اخيرا أخفض كفه هاتفا بصوت متحشرج:- ايه ده !؟.. ايه الحلاوة دي !؟..
شعرت بالخجل فاخفضت ناظريها مبتسمة في اضطراب .. كانت امها قد جلست بالفعل للمائدة ونظرت لكلاهما تدعوهما للطعام الا انها رأت حملقته في ابنتها فابتسمت في سعادة ونهضت متعللة بجلب الشاي ..
ظل على حملقته البلهاء بها حتى هتفت متسائلة في احرف متلجلجة:- انت مش هتفطر !؟..
هتف بأحرف تائهة:- افطر ايه !؟.. ما انا بفطر احلى فطار اهو!؟..
بدأ يلوك طعامه في بطء وهو يسلط نظراته عليها لا يحيدها حتى استشعر وجود امها فتنحنح محرجا هاتفا:- مش ياللاه يا زينب!؟..
هتفت باضطراب:- اه انا خلصت اهو .. هكمل لبس الترحة وياللاه ..
هتفت ماجدة:- انتوا نازلين من غير ما تشوف الشقة يا شريف !؟.. برضو هتفرق .. ياللاه افرجهالك عقبال ما زينب تكمل لبسها .
نهضوا جميعا وتناولت ماجدة مفتاح الدور العلوي الذي سيكون شقة الزوجية لابنتها وما ان همت بفتح باب الشقة حتى رن هاتف التليفون .. ناولت زينب المفتاح هاتفة:- روحي فرجي لجوزك الشقة وانا هرد ع التليفون واحصلكم ..
تناولت زينب المفتاح ليسبقها هو للأعلي تتبعه هى في وجل .. ما ان اصبحا قبالة باب شقتهما الا ومدت كفها تناوله المفتاح الا انه أبى هامسا في عشق:- لااا.. يوم ما هفتح الباب ده هيكون بمفتاحي وهتكوني انتِ بفستان الفرح..
اضطربت وهى تضع المفتاح موضعه ودفعت الباب ليدخل مسميا الله بعد ان خطت هي للداخل مسمية الله بدورها .. تطلع حوله للبهو الواسع لتهتف هى مندفعة للداخل مشيرة لباب تفتحه:- ده المطبخ ..
هتف متطلعا لداخله يشاكسها:- أحلى اكل من أيد ست الكل باذن الله ..
ابتسمت وفتحت الباب المجاور هاتفة:- وده الحمام..
هتف يغمز بعينه هاتفا:- يا دش الهنا يا ريتني كنت انا ..
امسكت قهقهاتها واندفعت تخطو عبر الردهة الطويلة مشيرة لعدة غرف هاتفة في خجل:- والأوضتين دول يعني .. هيكونوا يعني .. للأولاد باذن الله ..
همس عابثا مقتربا منها:- ربنا يعينا ..
اندفعت مبتعدة في اتجاه اخر غرفة مشيرة لها من الخارج:- ودي اوضة النوم الرئيسية ..
همت بالابتعاد الا انه جذبها لداخل الغرفة هامسا في مرح:- يعني دي ميدان المعركة .
هتفت تدفعه باضطراب:- شريف ..
امسك كفيها ليجدهما ببرودة الثلج فهتف جادا:-ايه ده !؟.. ايدك زي التلج كده ليه !؟..
لم تعقب فتطلع لعينيها هامسا:- زينب !.. انتِ خايفة مني !؟
تطلعت اليه هامسة:- لااا .. انا بس ..
ابتسم جامعا كفيها يضعهما على موضع قلبه هامسا:- تعالي ادفي .. النار هنا قايدة والنعمة..
ابتسمت فمد كفه يخلل إصابعه بين خصلات شعرها الذي اثار جنونه لحظة ان طالعه وانحني في شوق يقبل جبينها ثم انخفض مقبلا أرنبة انفها وما ان هم بتحية ثغرها حتى هتفت ماجدة بباب الشقة التي دلفتها هاتفة:- هااا يا شريف .. عجبتك الشقة!؟..
انتفض يتطلع حوله مضطربا وكان هو أولهما سيطرة على حاله مندفعا من الداخل يتحدث بنبرة يحاول ان تكون طبيعية مزجها بالمرح:- اه يا طنط شقة زي الفل .. دي تعجب الباشا..
هتفت ماجدة مشاكسة:- المهم انها عجبت شريف باشا ..
قهقه شريف مشاكسا:- ربنا يخليكي يا طنط..
تساءلت ماجدة متعجبة:- امال فين زينب !؟..
تطلع شريف حوله متعجبا:- والنعمة انا كنت سايبها هنا ..يا زينب ..
و اندفع موضع ما تركها ليجدها تقف محملقة بمكانه لحظة ما غادرها مد كفه يجذبها خارجا هاتفا في مزاح:- أهي يا طنط .. حتة واحدة اهى..
قهقهت ماجدة هاتفة لزينب:- طب ياللاه كملى لبسك يا زينب عشان تنزلوا تشوفوا وراكم ايه..
اطاعت زينب في ألية وتبعها شريف وامها تغلق خلفهما باب شقتهما ..
وصلت القاهرة قبيل المغرب وتوقفت امام باب بيتها ومناع خلفها يضع ذلك الصندوق الكرتوني بجوار حقائبها هاتفا:- حمدالله بالسلامة يا داكتورة .
ابتسمت في هدوء:- الله يسلمك يا مناع .. اتفضل استريح شوية م الطريق واشرب لك كباية شاي..
ربت مناع على صدره هاتفا في امتنان:- تسلمى يا داكتورة .. انا لازما اركب الطريج عشان متأخرش ف الرچعة ..
وألقى التحية وهبط الدرج راحلا ليتركها تقف امام باب شقتها التي تستشعرانها غابت عنها عصور.. اخرجت مفتاحها وما ان همت بفتح الباب حتى بدلت رأيها وحزمت امرها لتهبط الدرج بحقيبتها وحملها الثمين وغادرت البناية للشارع ..
وقفت باحد الأرصفة تتابع الزحام والزخم الحادث شاعرة انها انتقلت من عالم لأخر .. كانت بعالم من احلام والان هى بعالم الواقع بكل ما به من تفاصيل تشتتها ..
انتبهت على صوت ألة تنبيه احدى سيارات الأجرة تطلعت لموضعها ليهتف سائقها متسائلا:- تاكسي يا آنسة ؟!..
اومأت برأسها دون اجابة وصعدت العربة وهى لاتزل على تيهها ليوقظها صوت السائق متسائلا من جديد:- على فين !؟..
هتفت تدله على عنوان زينب وقد شعرت بأدمع لا سبب لها تترقرق بمآقيها ففتحت حقيبتها تتناول منديلا ورقيا لتطالعها قطعة الجلاب التي احضرتها معها للذكرى .. تناولت المنديل سريعا وأغلقت الحقيبة وقد قررت ألا تتذكر .. فهل ستستطيع !؟..
رغما عنها وجدت نفسها تغير وجهتها والان هى تقف تدق الباب لتفتح زينب مدهوشة واخيرا هتفت فى سعادة:- دلال ..
تلقفتها بين ذراعيها وسحبتها من يدها للداخل.. وضعت دلال حملها جانبا هاتفة:- ازيك يا زينب.. وحشتينى ..
هتفت زينب في لهفة:- وانت كمان يا دولي.. شريف طمني على ناهد ونديم مش الحمد لله كله تمام !؟..
اكدت دلال:- اه الحمد لله عدت على خير..
هتفت زينب تشير لخاتم الخطبة بأصبعها:- تصدقي ..اتخطبنا وكتبنا كتابنا امبارح!؟..
بحلقت دلال غير مصدقة واخيرا هتفت في فرح:- صحيح !؟.. الف مبروك .. انا كنت عارفة انه مستعجل بس مش للدرجة دي!؟.. قهقهت زينب هاتفة:- ده المجنون عايزنا نتجوز الاجازة الجاية !؟..تصدقي !؟..
قهقهت دلال هاتفة:- طب ما انت لسه قيلاها .. مجنون .. وليس على المجنون حرج يا زوزو ..
قهقت زينب بدورها هاتفة:- ربنا يكون ف عوني بقى ..
هتفت دلال مؤكدة:- شريف إنسان محترم و بن حلال .. وصدقيني ربنا بعته م السما لان محدش هيقدر يقف لعمك وابنه زي شريف .. ربنا يسعدكم يا رب ..
هتفت زينب متضرعة:- ياارب .. وعقبالك يا دلال.. بجد دى هاتبقى الفرحة الكبيرة ..
هتفت دلال ساهمة:- كله بأوانه يا زينب ..
هتفت زينب تخرجها من شرودها:- طب انا عايزاكِ تحكيلي كل حاجة حصلت .. ازاي عفيف بيه تقبل موضوع نديم وناهد .. كل حاجة .. متسبيش تفصيلة .. بس الاول تقومي نتعشا ..
اكدت دلال مازحة:- انا مش هتعشا بس لا وهتغدى وأفطر كمان .. انا كنت جاية اقعد معاكِ يومين لحد ما انضف شقتي لكن بعد الاخبار الحلوة اللي سمعتها دي وإنكم ناويين ع الفرح الاجازة الجاية اعسكر معاكي بقى نتسحل سوا ف شرا جهازك وترتيب شقتك .. واجري على الله ..
اندفعت زينب تحتضنها:- حبيبتي يا دلال ربنا يسعد قلبك يا رب باللي يستاهله ..
دمعت عينا دلال وهمست روحها بأحرف اسمه لتتردد بصدى موجع بين جنباتها .. عفيف ..
↚
اندفعت ناهد تصعد الكارتة بجوار اخيها الذي شعر بعزلتها منذ عودتها فقرر ان يدفعها للخروج قليلا خارج أسوار البيت الكبير .. كانت رغبة لها هدف مزدوج بالنسبة اليه .. اولا .. خروجها من تلك العزلة ..وثانياً .. ان يشاهده اهل النجع بجوار اخته التي طالها من كلام صفوت ما يسئ اليها ورؤيته معها سينفي القيل والقال ومن سمع برجوعها ها هو يتأكد برؤيتها معه ..
انطلقا بالكارتة وجالا خلال دروب النجع المختلفة هنا وهناك شعر بتغير حالها للافضل فشعر بالسعادة .. اندفعا في اتجاه ارضهم القبلية وما ان اصبحا على مشارفها حتى ظهر نديم يقف على حدودها هاتفا باحد العمال امرا:- خلاص كده تمام .. اقفل المية ع الارض هنا وحصلني على..
لم يكمل نديم جملته الا وظهر عفيف بالكارتة وبجواره ناهد التي ازدادت ضربات قلبها لمرأه أضعافا مضاعفة لدرجة خشيتها من شعور اخيها باضطراب فؤادها فتطلعت للجانب الاخر وعفيف يوقف العربة بمحازاة موضع نديم هابطا منها هاتفا في استحسان:- الله ينور يا باشمهندس .. تسلم يدك ..
ابتسم نديم ملقيا التحية:- ازيك يا عفيف بيه .
هتف عفيف مرحبا:- بخير يا باشمهندس .. المهم انت بخير ..!؟..
اكد نديم هازا رأسه موافقا ثم هتف:- الحمد لله.. كله تمام ..
هتف عفيف متعجبا:- طب مادام كله تمام .. ايه اللي سمعته عن موضوع طلب نجلك دِه!؟..
انتفضت ناهد ما ان سمعت بخبر نقل نديم واستدارت تتطلع اليه في وجل بينما هتف نديم محرجا:- معلش بقى يا عفيف بيه .. عايز ابقى جنب دلال .. كفاية عليها قعدة لوحدها ..
كان ذكر دلال اكثر اثرا على نفسه من وقع سهم اخترق فؤاده وهو عاجز عن التأوه ألما..
تنحنح يحاول السيطرة على نبرة صوته مدعيا الثبات هاتفا:- ربنا يوفجك يا باشمهندس .. انت تستاهل كل خير ..
مد كفه مودعا تقبلها نديم في تقدير مودعا بدوره وصعد الكارتة واشار بكفه مودعا من جديد اشار نديم بدوره مودعا وكانت إشارته ليست لعفيف وحده بل لتلك الجالسة جواره والتي تولي هاربة بقلبه دونما ارادته ..
اندفع عفيف بالعربة وما ان سار قليلا حتى هتفت ناهد:- عفيف .. ممكن نرچع !؟.. انا تعبت ..
تطلع عفيف لها وقد شعر انقلاب حالها بعد ان كان قد تعدل بشكل كبير منذ خروجهما من البيت الكبير ..
ربت عفيف على كفها المعقودة باحضان حجرها ونفذ في سرعة وقد حاد بالعربة عائدا..
دقائق صامتة مرت حتى توقفت العربة امام البوابة لتنزل ناهد مستأذنة أخيها في سرعة واندفعت للداخل .. تطلع اليها حتى غابت وقد شعر ان ناهد قد تبدلت كليا وما عادت ناهد التي يعرفها وان بها امرا ما لا يدركه .. او ربما أدركه اكثر مما يعتقد.. امرا يعاني هو ويلاته وجعا وسهدا..
تطلع حوله بعد ان دلف من باب الشقة المفتوح فوجد ان الشقة تبدلت بدرجة كبيرة بعد ان تم وضع الأثاث بها و تعليق الستائر .. يبدو ان بُذل مجهود خرافي لتحويل الشقة لهذا الشكل لكن كل ما كان يهمه الان هو رؤيتها فقد أضناه الشوق اليها وما عاد قادرًا على الابتعاد مرة اخرى .. دخل يبحث عنها ليجدها بتلك الحجرة التي ستجمعهما معا تضع بعض الملابس بداخل خزينة الملابس .. تسلل خلفها وهمس في شوق:- وحشتيني والنعمة ..
انتفضت مذعورة وانتشر ما كانت تحمله من ملابس حولهما وسقط بعضهم على رأسه أزاحه متطلعا اليها وقد تلقفها بين ذراعيه هامسا بمزاح:- ايه يا زوزو.. !؟.. انتِ بتركبي الهوا يا جميل .!؟. لا اجمد كده .. ده انت متجوزة سبع ..
همست ما ان تمالكت أعصابها:- شريف .. انت وصلت امتي !؟..وبعدين ابعد بقى .. دلال جوه ..
همس في شوق:- ابعد ايه ده انا هموت عليكِ.. وعملت خطة تسلل من امك وامي تحت عشان اعرف اطلع على هنا من غير ما حد يشفنى وبعد ده كله عايزة تبوظي الخطة الاستراتيجية !؟..ده انا اروح فيها ..
وقربها اليه هامسا:- مفيش وحشتك يا شريف .. بحلم بيك انا بحلم بيك يا شرشر .. والنعمة كده حرااام ..
اقترب منها اكثر في عشق لتندفع دلال داخل الغرفة تسأل زينب عن بعض الامور هاتفة:- يا زو..
شهقت وانتفض كلاهما تلجلجت دلال بينما هتف شريف متمالكا نفسه مدعيا:- تعالي يا دكتورة دلال شوفي زينب .. في حاجة دخلت ف عنيها ..
هتفت دلال تحاول تدارك الموقف بدورها:- ليه كده !؟.. الف سلامة ..
غير شريف الموقف باحترافية وزينب تحاول التشاغل بجمع الملابس المنتشرة هنا وهناك هاتفا:- على فكرة يا دكتورة .. انا عزمت نديم وكمان عفيف بيه وأخته .. وأكدوا لي انهم جايين باْذن الله ..
اضطربت دلال وارتجف شيئا ما داخلها ما ان ذُكر عفيف امامها لكنها هتفت تحاول الثبات مؤكدة:- كلك ذوق يا سيادة النقيب وفعلا نديم كلمنا امبارح وبارك لزينب واكد لي انه هايجي الفرح باذن الله .. ربنا يتمم على خير .. اسيبكم انا بقى ..
وهمت بالاندفاع تاركة كلاهما بمفردهما الا ان زينب اندفعت خلفها هاتفة:- لا يا دلال انت رايحة فين !؟.. احنا لسه ورانا حاجات كتير مخلصتش والوقت زنق ..
هتف شريف متحسرا:- طيب بقى .. انا شكلى بطرد بالأدب .. ماااشي يا زينبو .. ابقى افتكريها..
ضحكت دلال بينما اخرجت له زينب لسانها مغيظة ليندفع راحلا ..
اندفعت الي حجرتها وما ان دلفتها حتى اغلقت بابها خلفها وانفجرت في بكاء دامٍ ..سيرحل نديم بعيدا عنها .. سيرحل بلا رجعة .. على قدر ما كانت عودتها ضرورة على قدر ما تمنت اللحظة ان ليتها ما عادت وظلت بقربه لا يفرقهما ايه ظروف.. لكن هو في سبيله للبعاد مخلفا إياها وقلبها معلق به ..
شعرت بخواء رهيب يعربد بحنايا صدرها واستشعرت برودة تسري بأوصال فؤادها فأتجهت في هوادة حيث حقيبتها وفتحتها وأخرجت منها سترته التي كان قد خلفها دون وعي منه عندما انتفضا للعودة للنعمانية على عجل .. لقد كاد ان ينساها وتنبهت لها هي ووضعتها بحقيبتها وكادت ان تعيدها اليه عدة مرات وفي اللحظة الاخيرة تعدل عن قرارها تاركة شئ ما يحمل عبق عطره بحوذتها ..
احتضنت سترته في عشق وبدأت في ارتداء السترة ضمتها الي جسدها في شوق واستشعرت الدفء يسري بأوصالها كانما هي قريبة من صاحبها تجاور روحه وتهمس لقلبه وتنعم بالامان بين احضانه .. اتجهت في تؤدة الي شرفة غرفتها وفتحتها .. تطلعت الي اتجاه استراحته القابعة على مقربة من الباب الخلفي للبيت الكبير وأبصرت نورها مضاءً .. هل هو مستيقظ !؟.. هل يا ترى يذكرها !؟.. يذكر أيامهما ولحظاتهما معا!؟..
أغمضت عينيها وأحاطت جسدها بذراعيها تضم سترته اليها اكثر وتساقطت دمعاتها وما عاد لديها القدرة على الصمود امام ذاك الطوفان الذي يجتاح روحها غازيا لكن ماذا يمكنها ان تفعل !؟.. لا شئ سوء الوقوف على ناصية الحلم لربما يحدث الله بعد ذلك امرا …
هرج ومرج وعساكر هنا وهناك وباب تلك الشقة بالطابق الأرضي بأحد البنايات العتيقة بتلك الحارة بأحد مراكز قنا منفرج بوضع يدعو للفضول ..
الناظر بالداخل للوهلة الاولى خلف اكتاف عساكر الشرطة المتسمرين امام الباب منعا لدخول احدهم دون اذن يدرك ذلك جيدا ..
هتف وكيل النيابة الذي يعاين الوضع بالشقة محاورا ضابط الشرطة المسؤل عن اكتشاف الحادث:- ايه اللي حصل يا حضرة الظابط!؟..
هتف الضابط بلهجة رسمية:- جاتنا اشارة من صاحب الشفة يا فندم ان فيه جثة ف الشقة لمستأجر جه أجرها حديثا .. والمستأجر كان بيتردد عليه ستات وده اللي خلى الجيران يشتكوه للمالك عشان سمعة المكان .. ولما المالك جه عشان ينهى عقد ايجاره .. لقاه بالحالة دي .. مطعون ..
همهم وكيل النيابة في تفهم:- تمااام ..
هتف الضابط:- حضرتك شاكك ان تكون واحدة من اللي كانوا بيترددوا عليه !؟..
هتف وكيل النيابة:- احتمال .. كلها احتمالات..
هتف الضابط:- ع العموم احنا شغالين ف تحرياتنا لحد ما نوصل للي عملها ..
اكد وكيل النيابة:- بالتوفيق يا حضرة الظابط..
اومأ الضابط راحلا لإكمال عمله بينما هتف احد رافعي الأدلة والبصمات محدثا وكيل النيابة:- ملقيناش حاجة بحوذة القتيل غير دول يا فندم ..
وقدم اليه سلاح ناري وبطاقة شخصية ملطخة بالدماء حاول تبين اسم صاحبها ليهمس به:- صفوت عدنان النعماني ..
دلف للغرفة وجلس خلف مكتبه يقرأ قليلا .. لقد قرر ان يعتذر عن حضور زفاف حضرة النقيب شريف ..كان يعلم انه سيراها هناك .. وربما كان ذاك سبب في عدم ذهابه من الاساس .. لم تغب الا أسبوعين لكنهما كانا بمثابة دهر كامل من المعاناة التي ما ظن ان يعيش عذاباتها يوما ..
لكنه اخذ عهدا على نفسه الا يضعف امام ذاك الاغراء الكبير بالذهاب ورؤيتها فقد عانى الأمرين بعد رحيلها والان بدأ الي حد ما في التعافي من حمى وجودها الذي كان يتنفسه ..
كان يعلم انه لن يشفى منها مطلقا فعشقها اصبح وشما بروحه يحمل اسمها ..
مد كفه لجهاز تشغيل الموسيقى حاول ان يندمج مع احرف الكتاب الذي يطالعه لكن عيناه كانت دوما ما تحيد تجاه الباب المفضي للمندرة والذي كانت تأتيه من خلاله .. ابتسم دون وعي عندما تذكر عدد المرات التي امسكها فيها متلبسة باستعارة رواياته دون علمه ..
كانت وسيلتها لتمضية الوقت هنا وكذا وسيلة فعاله لتنعزل مبتعدة عنه راغبة في عقابه باختفائها بعيدا عن ناظريه .. وكم كانت بارعة في الاختفاء!.. وكم كان ذاك العقاب ثقيلا على نفسه !..لكن الأثقل يعيشه الان .. فقد رحلت ولا أمل لصدفة لقاء تعيد الود ما بينهما كما كان يحدث دوما ..
نهض من موضعه باتجاه باب المندرة فتحه ووقف يتطلع لباب حجرتها او التي كانت منذ اسابيع حجرتها يشعر برجفة عجيبة داخله .. كان يعتقد انه لو مد كفه ليفتح الغرفة فسيجدها قابعة بالداخل ممددة على فراشها كما يوم مرضها .. مد كفه بالفعل ودفع الباب متسمرا بالخارج .. لحظات مرت حتى تحرك ليدلف للحجرة في وجل متطلعا لكل ما فيها وكانما يحمل جزء من عبيرها ..
الان فقط تأكد انها رحلت .. الان فقط يمكنه ان يجابه نفسه بالحقيقة التي كان ينكرها دوما .. الان أيقن انها لن تهل عليه من ذاك الباب .. ولن تتسلل مجددا من اجل بعض الروايات ..
تطلع لتلك الروايات التي كانت موضوعة بجوار المصباح الموضوع على الطاولة قرب الفراش .. ومد كفه يتناولها فى حنين عجيب لقارئتها ..
عاد من جديد لغرفة مكتبه والروايات بين يديه.. وقف يضعهن حيث يجب ان يكن .. لتسقط ارضا من بين ضلفتي احداهن ورقة .. وضع الروايات جانبا وانحنى يمد كفه لألتقاطها .. هل كان ذاك خطها بكل رقته وانسيابه !؟.. جال بناظريه سريعا في لهفة على اسطر الخطاب ..وطالعه اسمه معنونا إياها .. وما ان هم بقراءة اول سطر حتى صرخ داع من الأسفل هاتفا يستنجد به ..
وضع الورقة بجيب جلبابه فشعر بوجود ورقة اخرى تزاحمها .. اخرجها متطلعا اليها فإذا بها ورقة زواج ناهد العرفي أعادهما معا لجيبه واندفع لبهو البيت هاتفا بدوره:- ايه في !؟..
كان مناع يقف بالباب والخالة وسيلة تقف مذعورة وخلفها ناهد تنتفض غير مدركة ما يحدث فاندفع عفيف هابطا الدرج في عجالة ليقف هاتفا بالضابط وعساكره:- خير يا بيه!؟..
هتف الضابط متسائلا:- انت عفيف راغب النعماني !؟..
اكد عفيف في ثبات:- ايوه يا بيه .. خير !؟..
اكد الضابط مشيرا للخارج:- تعال معانا ..
تبعه عفيف في هدوء لتصرخ ناهد في صدمة لرؤية اخيها في ذلك الوضع لتهدأها الخالة وسيلة وهى ليست بأفضل منها حالا بينما اندفع مناع خلف عفيف الذي امره في عجالة:- مناع .. اتصل بالمحامي خليه يحصلني .. حلاً ..
هز مناع رأسه في إيجاب وما ان غابت عربة الشرطة برفقة سيده حتى اندفع منفذا اوامره..
اندفعت ناهد خارج البيت الكبير لتهتف خلفها الخالة وسيلة باكية:- على فين يا بتي !؟.. ارچعي..
لم تستمع ناهد لها بل استمرت تركض باكية بلا وعي واخيرا قادتها قدماها اليه .. وقفت امام استراحته تتطلع الي بابها في شوق واخيرا اندفعت تطرق بابها في وجل ..
لحظات مرت حتى انفرج الباب عن محياه .. تطلع اليها في شوق مخلوط بالتعجب:- ناهد !؟..
شهقت باكية تحاول جاهدة ان تتماسك حتى لا تلق بنفسها بين ذراعيه هاتفة بأحرف مضطربة:- ألحجه يا نديم .. ألحج اخوي ..
هتف نديم مذعورا:- ماله عفيف بيه !؟..
لكنها لم تنطق بل سقطت باكية في لوعة على اعتاب بابه ..
كان الجو صاخب والأضواء تتألق في تتابع والقاعة المخصصة لإقامة فرح زينب و شريف قد امتلأت على بكرة ابيها بالأصدقاء والأقارب من الطرفين ..
كانت عينا دلال معلقة بباب القاعة منتظرة مجئ نديم .. ووجيب قلبها تزداد وتيرته كلما جال بخاطرها رؤية عفيف مرة اخرى .. تراه يأتي!؟..
همس شريف على مسامع زينب:- الواحد قاعد مؤدب عشان الحكومة المبدورة ف القاعة دي بس يمشوا .. والله لهتشوفي العار..
ضحكت زينب لافعاله و انشغلت في تحية بعض المدعوين ..
بينما استمرت دلال على قلقها وقد اقترب الزفاف على نهايته ولم يظهر احد .. شعرت ماجدة بقلقها فاقتربت تسألها في ود:- خير يا دلال مالك !؟.. شكلك قلقان كده ليه!؟..
هتفت دلال مجيبة:- والله يا طنط قلقانة على نديم .. قال انه جاي وأهو الفرح قرب على نهايته ومظهرش ..
ربتت ماجدة على كتفها مهدئة:- الغايب حجته معاه يا دلال .. يمكن حصلت ظروف عطلته .. باذن الله خير ..
اومأت برأسها ايجابا ولايزل القلق يعربد داخلها…
صعدا لشقتهما مصحوبين بالدعوات و الزغاريد حتى دلفا بابها .. اندفعت هى مبتعدة تتحصن منه خلف الطاولة الدائرية بمنتصف الردهة الرئيسية ..
نظر شريف اليها فى مجون هاتفا:- من اولها كده يا زينبو !؟..
و اندفع يحاول الإمساك بها فاخذت تحاور و تناور حتى لا يستطيع الوصول اليها ..
هتف بعد ان بدأ يلتقط انفاسه فى تتابع:- لا .. مش طالبة فرهدة من اولها يا زوزو ..
توقف عن اللف و الدوران و انهار جالسا على احد المقاعد فتوقفت بدورها تنظر اليه بتعجب لاستسلامه بسهولة هكذا فهتفت ساخرة:- و عامل لى فيها ظابط و هااا و هييي .. و انت سلمت نمر من لفتين ..
هتف ساخرا بدوره:- انا شكلى اتخميت ..معرفش انى داخل كشف هيئة..
نظر اليها بطرف عين و هو يسند رأسه على ظهر مقعده مغلقا عينيه و هتف فى حسرة:- بما اننا مش عارفين نعمل عرض لايف يبقى نعمل شوية اكشن .. ده انا لو أطول كنت جبت عماد خيرت يألف المؤثرات الصوتية بذات نفسويته ..
هتفت متعجبة:- عماد خيرت !؟.. مين ده !؟.. ثم تنبهت فجأة فأمسكت ضحكاتها هاتفة:- اسمه عمر خيرت على فكرة .. كنت فكراك مثقف ..و بعدين اكشن ايه و مؤثرات ايه اللى بتتكلم عنها !؟..
نهض مجيبا سؤالها و بدأ فى إسقاط مقاعد طاولة السفرة واحدا تلو الاخر مصدرة صوتا على الارض الرخامية ..
هتفت هى فى تعجب و هى تبتعد عن موضع سقوط المقاعد:- انت بتعمل ايه !؟.. شكل الجنان اشتغل .. انا كنت عارفة انى اتجوزت واحد مجنون ..
هتف مقهقها:- مجنون !؟.. هو انا لسه وريتك جنان .. دى حاجة كده ع الماشى يا زوزو .. و بعدين امى و امك زمانهم مطرطقين ودانهم و مستنيين اى حاجة تبل ريقهم قلت ابعت لهم شوية سسبنس ..
امسكت ضحكاتها رغما عنها فهتف هو مستغلا ابتسامتها التى لم تستطع اخفاءها مقتربا:- ايه بقى !؟. و النعمة يا اخت زينب القلب اشتكى من قلة الهشتكة .. و انت دكتورة قلب و عارفة موضوع قلة الهشتكة ازاى بيأثر ع القلب بالقوى .. يرضيكى !؟.
قهقهت و ارتفع صوت ضحكاتها مجلجلا رغما عنها ليهتف هو و قد استغل الموقف ابرع استغلال و استطاع اخيرا ان يطوقها بين ذراعيه لتشهق هى فى صدمة هاتفة:- شريف !؟.. سبنى لو سمحت ..
هتف و هو يقربها اليه اكثر:- اسيبك !؟.. قال أسيبك .. على جثتى ..ده انا ما صدقت يا ماما .. ده انا همسك و اتبت بايدى و سنانى و مناخيرى و كل اعضاءى .. و على فكرة .. انا مثقف قوى لمؤاخذة .. بس ثقافتى متخصصة شوية ..
هتفت ساخرة و هى تحاول التملص من بين ذراعيه:- مثقف ف ايه حضرتك !؟..
هتف و هو يحملها مندفعا لحجرتهما:- مثقف ف قلة الادب .. ثقافة عالية عالية عالية قوووى سعادتك ..
قهقهت رغما عنها ليهتف و هو يفتح باب الحجرة دافعا اياه بقدمه و هو لايزل يحملها بين ذراعيه:- اجدع مؤثرات صوتية يا جدعان .. قال عمر خيرت قال ..
قهقهت زينب من جديد قهقهاتها الرنانة تلك فصرخ مازحا:- قلبى يا ناس .. اموت انا ف سرينة الإسعاف ..
لترتفع قهقهاتها من جديد وهو يدفع الباب مغلقا اياه بقدمه ..
جذب ذراعها في عنف هاتفا:- كنتِ فين يا بت !؟..
نفضت ذراعها في شدة من كفه هاتفة في غضب هادر:- ملكش تسألني كنتِ فين ولا چاية منين !؟..
هتف بغضب مماثل:- لااااه أسالك وهتچاوبي غصب عن اللي چابوكِ ..
جذبها مرعي من جديد مؤكدا:- انتِ ف حكم مرتي.. كلمتي تمشي على رجبتك .. واعية لحديتي ولا لااااه !؟..
لم تحتمل قوة كفه الممسكة بذراعها اللين فهتفت لواحظ مهادنة:- ايوه فاهمة .. سيبني بجى .. يدي هتتخلع ..
تركها وهو يهمس مقتربا:- اهااا سيبتك ما اني ميخلصنيش وچعك وانتِ عارفة معزتك يا لواحظ ..
همت بالإجابة عليه الا ان خفاجي ابيها اندفع هاتفا في ذعر:- وعيتوا للي حصل !؟..
هتف مرعي متسائلا في لامبالاة:- ايه في !؟.
ليهتف خفاجي صارخا:- صفوت النعماني أتجتل !؟..
صرخت لواحظ:- وااااه .. كيف دِه !؟..
بينما هتف مرعي بلامبالاة من جديد:- ما يغور .. هو كان من بجية ناسنا ..!؟..
استطرد خفاجي كأنه لم يستمع لاعتراض مرعي:- لجوه مجتول ف شجة ف جنا.. وخدوا عفيف النعماني متهمينه فيها ..
هتف مرعي حاقدا:- غاروا .. يعني خدنا منيهم ايه ..
اندفعت لواحظ في اتجاه خيمتها وما ان دلفتها حتى اخذت تسب وتلعن فقد باءت خطتها بالفشل الذريع .. فقد كانت تتوقع ان تسمع خبر مقتل عفيف على يد صفوت كما قررا ..
فقد اتفقا على التخلص من عفيف ليستطيع صفوت العودة مرة اخرى للنجع فذاك كان الحل الوحيد المتاح لحظتها وقد رحب به صفوت للتخلص من غريمه الذي ما استطاع كسره يوما .. ترى ماذا حدث !؟.. وهل استطاع عفيف الوصول لمخبأ صفوت والأخذ بثأره !؟.. لا تعلم .. لكن كل ما كانت تعلمه الان .. ان حلمها في ان تصبح يوما ما سيدة من سيدات ذاك النجع قد انهار ولم يبق منه الا حطام وفضيحة لا يمكن مداراتها لوقت طويل..
تطلع حوله الي جدران زنزانته يشعر انه بحلم سخيف .. الان هو متهم بقتل بن خالته صفوت بعد ان اشارت جميع الأدلة على انه الفاعل .. هو لا ينكر انه كان في سبيله لقتله وانه كان حتما سيفعلها لو وجده أمامه يومها فهو لن يتهاون عن كلمات قيلت في عرض النعمانية ولو كان فيها حتفه لكنه لم يفعلها .. لقد قُتل صفوت وأراح واستراح لكن نهايته لم تكن على يديه ولا بسلاحه الذي وجد بجوار جثته كما اكد المحقق..
تنهد في تعب وشعر باختناق يطبق على صدره ويكبل روحه ..
مد كفه ليخرج منديلا يمسح به حبيبات العرق التي تجمعت على جبينه لتصطدم ببعض الاوراق .. اخرجها سريعا وقد تذكرها لتوه وسط خضم الاحداث الماضية وبعد ذاك الاستجواب المضني الذي تعرض له ..
نهض من موضعه مقتربا من طاقة صغيرة تدخل بعض من ضوء وفض الورقة الاولى على بصيصها ليتأكد انها ورقة زواج ناهد العرفي بالباشمهندس نديم والتي لا يعرف لما احتفظ بها من ساعتها بجيب جلبابه وما مزقها .. أعادها لجيبه وفض الورقة الثانية وبدأ في القراءة ووجيب قلبه يتضاعف لمجرد رؤيته لخطها المنمق وحروف اسمه التي كتبت بكفها تبدأ بها خطابها الذي لا يعرف ما يحويه .. بدأ في القراءة سرا يتخيل انها تقرأه له واقسم انه يكاد يسمع صوتها يتردد بجنبات صدره تهتز له دعائم روحه التي تشتاقها حد لا يمكن الوصول لحده ..
" بِسْم الله الرحمن الرحيم ..
عفيف بيه .. يمكن انا جيت النعمانية في ظروف غريبة وعشت فيها في ظروف اغرب .. قابلت ناس عمري ما كنت أتخيل اني أقابلهم واتعاملت مع نوعيات من البشر عمري ما كان يجي ف بالي انهم عايشين ما بِنَا .. بس برغم كل ده .. وبرغم ان ده اثر عليا كتيييير .. بس لازم اقولك شكرًا .. بجد انا بشكرك على حاجات كتير قوووى يمكن لو حاولت أعددها مش هقدر .. بس اكتر حاجة عايزة اقولهالك انك مش مضطر للاسف..
تتأسف على ايه !؟.. ع الدفا اللي عشته وسطيكم ومحستش بيه الا ف حضن الخالة وسيلة ولا ع الأمان اللي محستش بيه من بعد ما ابويا وامي راحوا واللي حسيته هنا وسطيكم .. ولا ع السعادة اللي كنت ببقى فيها وانا بسمع لموال او اغنية كانت بتوصلنى وانا جنبك ع الكارتة او حتى بتجيني من اوضة مكتبك .. اسف على ايه يا عفيف بيه !؟.. اللي حضرتك جاي تتأسف عليه ده كان وهيفضل اجمل حاجة حصلت لى ف حياتي .. و ايّام النعمانية اللي هتنتهي بعد ساعات وارجع فيها لحياتي..
دي كانت حياة ف حد ذاتها .. حياة اشبه بحلم واقعي اتمنيت مصحاش منه .. لكن للاسف صحيت .. وكان ده على ايدك انت .. انا عارفة انه كان عاجل او اجل كنت همشي بعد ما كانت هتخلص حكاية نديم وناهد .. لكن .. اني امشي دلوقتي وانت تكون السبب ..بعد ما دخلتني الجنة تخرجني منها بإيدك .. انا .. وبعد كل اللي حصل وبعد المواقف الكتير اللي اتعرضت لها .. وبعد كل اهتمامك رغم الخصومة .. واحترامك رغم اللي بينا .. و تقديرك رغم احساسك تجاه اخويا وعملته الا اني مقدرش اقولك الا .. شكرًا ..
انا همشي ..لكن تأكد ان هفتكر كل لحظة ليا كانت هنا وسلم لي على كل شبر ف النعمانية كان ليا فيه ذكري كان نفسي يبقى وداعي ليه افضل .. لكن .. قدر الله وما شاء فعل .. والذكريات دي هاتبقى كل اللي باقيلي وهحتفظ بيها ف ركن عزيز قووي من قلبي وروحي .. سلام يا عفيف بيه .. ومرة تانية .. شكرًا ..
دلال محمود المصري "
تطلع عفيف لأحرف الخطاب مشدوها .. لا يعرف ما عليه فعله ..ايصرخ من الفرحة!؟..ام يبكي وجعا وقهرا !؟.. وما بين هذا الاحساس وذاك ظل يتأرجح .. انها لا تكره النعمانية .. بل انها احبت البقاء بها .. بل عشقت أيامها هنا ..
انها قالت ان النعمانية وأيامها كانت وستظل حلما عاشته ..
همس ساخطا في وجع:- كل حساباتك طلعت غلط يا عفيف ..
صمت للحظة ثم استطرد:- لكن حتى ولو كانت چت صح ساعتها .. ما انت واعي انت فين دلوجت .. ربنا عمل الصالح يا واد النعماني ورجعت لدنيتها وانت اديك اهااا .. موحول ف جصة متعرفش ايه نهايتها ..
ورغم كلامه العقلاني ذاك الا انه تطلع الي خطابها من جديد و طواه في قدسية ووضعه بجيب جلبابه بجوار قلبه لعل كلماته تلك تسكن ذاك الالم الذي يسربل جوانحه .. تطلع من جديد لذاك البصيص الغارب من الضوء وما بين عتمة الظروف وضي تلك الأحرف التي انارتها همس بتضرع:- ياااارب ..
حاولت ام زينب إثنائها عن رأيها وإقناعها بضرورة البقاء معها لكنه أبت وأصرت على العودة لشقتها التي لم تدخلها منذ عودتها من النعمانية ولو لمرة واحدة .. أرسلت من ينظفها ويزيل عنها أتربة شهور مضت .. لكنها لم تطأها الا في تلك اللحظة .. فتحت بابها في وجل وسمت الله ودخلت .. أضاءت نور الردهة الضيقة المفضية لاتساع البهو .. خطت للداخل وتابعت فتح الأضواء متطلعة حولها .. شعرت بخواء عجيب داخلها .. و دمعت عيناها ..
دخلت للممر المفضي لحجرات النوم وبدأت في فتح ضوء كل غرفة تمر بها تتطلع داخلها قليلا ثم تنتقل لغيرها وهكذا حتى وصلت لغرفة نومها ..
أضاءتها ودلفت اليها تقف بمنتصفها تتطلع لتفاصيلها .. وتساءلت .. لما تشعر انها غابت سنين لا شهور !؟.. لما تشعر ان دلال التي رحلت مع عفيف يوم ان طرق عليها بابها تختلف تماما عن تلك التي عادت !؟.. ما الذي تغير يا ترى !؟.. هى لا تدرى .. لكن ما تدركه .. انها رحلت معه وعادت دونه ينقصها شئ ما .. شئ غال .. شئ فقدته هناك بالنعمانية .. وعادت دونه ..
ظلام دامس وجو عاصف وليلة بلا قمر وعواء ذئاب كان يصلها من البعد فيقشعر له بدنها .. كانت الأجواء مقبضة وتطل عليها قمة جرف عال تراها كانها تقف من علي تطالع عالم لا تنتمي اليه واخيرا ظهر هو يقف على مقربة من حرف ذاك الجرف الهائل الانحدار .. كان يقف يتلفت حوله وإذ أضاءت العتمة بنيران متقدة تخرج من اعين تتربص به .. لاح لها المتربص .. انها مجموعة الذئاب التي كانت تسمع عوائها تقترب منه .. حاول ان يبحث عن شئ ما يدفع به أذاها عنه لكنه كان اعزل وما كان بمقدوره الدفاع عن نفسه .. صرخت تنبهه:- عفيييف ..
لكن هتافها المذعور ذاك كان صرخة أيقظتها من منامها منتفضة على فراشها تتلفت حولها في تيه حتى استوعبت انها على سريرها داخل شقتها .. تطلعت للساعة الموضعة على الطاولة المجاورة لتجدها قد شارفت على الخامسة .. نهضت باتجاه الحمام .. توضأت وأسرعت لمصلاها تلحق بالفجر وهى تشعر بانقباض رهيب بروحها .. ما الذي يحدث بالنعمانية يا ترى !؟.. وما الذي جعل نديم لا يأتي لحضور فرح زينب وشربف على الرغم من تأكيده على الحضور !؟.. ألف سؤال جال بخاطرها الا انها اسلمت امرها لله وهى تكبر للصلاة في خشوع ..
↚
رن جرس الباب ليوقظه من حلم رائع .. شتم فى سره حانقا وما ان هم بالنهوض لفتح الباب حتى وجدها ممددة جواره على فراشهما .. لم يكن حلما اذن بل كان عين الحقيقة .. لقد كانت ليلة عرسهما البارحة وهاهى اجمل عروس نائمة كملاك جواره .. تطلع اليها فى محبة وغلبه الشوق اليها حتى كاد ان يتجاهل طرقات الباب المزعجة متمتعا بقربها .. لكنه ايقن ان امه وامها هما من بالباب فى تلك اللحظة فزفر فى ضيق وجذب نفسه جذبا من الفراش مندفعا لفتح الباب ..
انفرج الباب على زغاريد امهاتهما مما جعله يجفل وقد استفاق تماما فى تلك اللحظة وهما يدفعان بصينية طعام ضخمة للإفطار بين ذراعيه .. تلقاها وتسمر موضعه وكلاهما مندفعتان للداخل مما أورثه الحسرة..
اغلق باب الشقة بقدمه واتجه الى طاولة السفرة ووضع الصينية عليها ..
تطلعت كل ام للأخرى و بدأ الغمز واللمز و هما تتابعاه يعيد مقاعد الطاولة الملقاة ارضا لاستقامتها المعتادة..
هتفت ام زينب متسائلة:- هى زينب لسه مصحيتش !؟
جلس فاركا فروة رأسه وهتف فى سخرية:- اكيد صحيت يا طنط بعد عرض الموسيقى العسكرية اللى انتوا عاملينه م الصبح ع الباب..
انفجرت كلتاهما ضاحكتين .. ليستطرد هو فى مزاح كعادته:- و بعدين حتى لو مصحيتش .. هتصحى حالا دلوقت .. هى تقدر ..
وهتف بصوت جهوري وهو يصفق بكفيه:-يا بنت يا زينبو ..
قهقهت كلتاهما من جديد مع ظهور زينب و هى تندفع من باب الحجرة حتى اصبحت بالقرب من مجلسه مطأطئة الرأس هامسة:- أوامرك يا سى شريف ..!؟..
هتف هو مدعيا الشدة:- الفطور يا بنت ..
قهقهت الأمهات لتشيح زينب بكفها وقد قررت إنهاء دورها الى هذا الحد مندفعة لصينية الطعام:- فطور ايه اللى احضره !؟.. هو فى عروسة بتحضر فطار !؟.. انا رايحة اكل .. انا هموت م الجوع .. مش كفاية كلت الأكل كله ومسبتليش حاجة امبارح ..
انتفض شريف معاتبا:- انا يا ظالمة .. و النعمة يا ماما أديتها حتة من زلمكة الحمامة..
هتفت زينب مدعية المسكنة:- مجوعني يا ماما ..
قهقهت الأمهات لتهتف ام زينب:- كلوا براحتكم يا ولاد.. بالراحة .. و نقوم نعملكم تاني..
هتف شريف مازحا:- تعيش حماتى مسؤلة الدعم الغذائي ..
واستطرد مؤكدا:- بس بقولكم ايه .. انتوا تاخدوا بعض كده وتنزلوا تطبخولنا الأكل الجامد ده تحت .. هنا المطبخ مغلق للطوارئ..
لم تستطع ام زينب إمساك ضحكاتها بينما هتفت ام شريف عاتبة:- والنبى انت قليل الادب ..طب بالعند فيك هنقعد على قلبك فطار و غدا وعشا كمان ..
هتف شريف مدعيا البكاء:- ليه كده يا حجوج!؟.. ده انا زي ابنك برضو !؟.. و استعاد روحه المرحة مهددا إياها:-هتقومى تمشى ولا أفضحك واقول كنت بشوفك مع الحج الله يرحمه بتعملى ايه !؟..
شهقت امه بينما انفجرت زينب وامها غير قادرتين على مغالبة ضحكاتهما لتهتف امه بعد ان تمالكت نفسها:- ياللاه بينا يا ماجدة يا اختى لحسن بقينا عزول .. تعالى ننزل نسمع ام كلثوم ونتذكر الذي مضى ..
توجهتا ناحية الباب وهما تقبلان زينب مباركتان ليهتف شريف مازحا خلفهما:- خلي بالك م الذى مضى يا امي .. لحسن بيقولوا ده خطرع القلب .. و الدكتورة مش فاضية اليومين دول..
هتفت زينب عاتبة:- شريف !؟..
قهقهت ماجدة بينما هتفت ام شريف من بين قهقهاتها:- انا قلت معرفتش اربيك محدش صدقني !؟..
هتف شريف خلفهما بعد ان اصبحتا على اول درج الهبوط:- من قال كده ..طول عمرك كفاءة يا ام شريف .. وعلى يدي.. تربيتك يا غالية ..
واغلق الباب حتى يتحاشى عقاب امه التى انفجرت ضاحكة على افعاله وهى تستند على ذراع ماجدة ام زينب فى سبيلهما للأسفل و التى همست فى سعادة ودموع الفرح تترقرق بمآقيها:- ربنا يسعدهم يا رب ..
اندفع شريف ما ان اغلق الباب تجاه طاولة الطعام .. وما ان هم بمد كفه لقطعة الدجاج التى يفضلها والتى كانت مطهوة بشكل اسال لعابه الا ووجد زينب تتناولها تهم بألتهامها فهتف مغتاظا:- انا عايز الورك المحمر ده مليش دعوة ..
هتفت وهى تنهض مبتعدة تلوح به وقد تناولت منه قطعة بالفعل:- بعينك .. لو جدع تعالى خده ..
هتف فى حسرة:- عيني كانت هتطلع عليه من اول ما الأكل وصل وعملت فيها مؤدب عشان امك موجودة .. انا اللي غلطان والنعمة أدي اخرة الادب واللي بناخده منه.. ضاع الورك يا ولدي ..
قهقهت واقتربت منه تقدم له قطعة الدجاج فى سعادة هامسة:- بالهنا والشفا على قلبك يا قلب زينب ..
هتف متطلعا اليها وقد تناول منها قطعة الدجاج ووضعها جانبا وجذبها لتستقر على فخذه:- صحيح انا قلب زينب !؟..
اومأت برأسها فى إيجاب هامسة بعشق:- قلبها وعقلها وروحها كمان .. زينب مكنتش تعرف انها عايشة قبل ما تقابلك يا شريف بيه..
تنحنح شريف متأثرا لكن غلبه طبعه المرح ليهتف وهو يشير لحجرة نومهما:- طب ياللاه يا بت اسبقيني ع الاوضة .. امشي انجري..
نهضت جاذبة يده لينهض من موضعه لتدفع هى اياه باتجاه الغرفة هاتفة:- انت اللي هتمشي قدامي .. انت مقبوض عليك اصلا ..
توقف ينظر اليها مقهقها وهتف:- أموت فيك وانت حمش .. يا زينبو يا عنييييف ..
تصنعت الجدية هاتفة:- ياللاه قدامى .. رجالة عايزة اللي يشكمها ..
سار امامها رافعا ذراعيه مسلملا لها وهتف قبل ان يصل لعتبة الحجرة:- زنوبة ..
هتفت:- هااااا ..
هتف مشتتا انتباهها:- بصي العصفورة
انتبهت بسذاجة لموضع إشارته ليحملها مندفعا للحجرة هاتفا في مزاح:- عليكِ واحد ..
ارتفعت ضحكاتها الرنانة من جديد تورثه نشوة ما عاد راغبا فى الاستفاقة منها ابدااا …
تحركت لواحظ في تؤدة ودلفت الي غرفة التحقيق توقفت لبرهة حتى امرها المحقق بالجلوس ..اقتربت من مكتبه وجلست في هدوء وما ان سألها المحقق:- ايه علاقتك بصفوت النعماني !؟..
ردت في ثبات:- مفيش يا بيه .. راچل زي اي راچل بياچي الشادر يشوفنا بنرجصوا ونغنوا..
هتف المحقق في سخرية:- وهو انت بتروحي مع اي راجل لشقته زي ما كنتِ بتروحي لصفوت !؟..
تلجلجت لواحظ هاتفة:- لاااه يا بيه .. بس اصلك سي صفوت الله يرحمه كانت يده فرطة ف الفلوس .. وهو اللي جالي تعالي نضفي الشجة وخدي اللي فيه النصيب ..
وادعت المسكنة هاتفة وهى تمسح اثر دمع وهمي عن وجنتيها:- بص يا بيه انا هجولك اصل الحكاية ورزجي على الله ..
هتف المحقق مشجعا:- ايوووه .. انا بقى عايز اصل الحكاية ..
اكدت وهى تهز رأسها ايجابا مستطردة:- اصلك سي صفوت كان طالب يد اخت عفيف بيه وكان التاني بيماطل وبيتحچچ كل شوية بحچة شكل وبعدها سي صفوت جاله انه هو اللي ميشرفهوش يناسبه عشان سمع عن اخت عفيف بيه كلام كِده يعني مش ولابد ربنا يستر على ولاينا يا بيه .. عفيف بيه مسكتش وهدد بجتله جدام النعمانية كلها .. واهم كلهم عنديك يا باشا خلي واحد فيهم يكدب كلامي .. راح سي صفوت خارچ م البلد جبل ما عفيف بيه يطوله .. لكن شكله طاله وعرف طريجه وعمل عملته .. الله يرحمك يا سي صفوت ..
وادعت البكاء من جديد ليهتف بها المحقق متسائلا:- عندك اي حاجة تاني عايزة تقوليها يا لواحظ !؟..
نهضت نافية:- لااااه يا بيه .. اللي اعرفه جولته..
وقعت على أقوالها واندفعت خارج الغرفة ..
انتفض نديم من موضعه خارج باب وكيل النيابة مندفعا باتجاه عفيف الذي خرج بصحبة العسكري الموكل بحراسته وكذا محاميه الذي لم يكن يبدو عليه الرضا ..
سأل نديم في لهفة:- هااا .. ايه الاخبار يا متر!؟..
هز المحامٍ رأسه في قلة حيلة هاتفا:- للأسف معظم الأدلة لابسة عفيف بيه وخاصة الدافع للقتل واللي الكل اكد عليه ..
هتف نديم وعفيف صامت لم ينبس بحرف:- بس يا متر القتيل كان مطعون وهم حتى لو لقوا سلاح عفيف بيه جنب الجثة بس مش هو سلاح الجريمة .. صح ولا ايه !؟..
اكد المحامي:- سلاح عفيف بيه اكد انه كان هناك ف مكان الحادث .. وبعدين سلاح الطعن مفقود حتى مفيش إمكانية نطابق بصمات ونثبت ان بصمات السلاح اللي اطعن بيه القتيل مش بصمات عفيف بيه ..
تنهد نديم في حسرة متطلعا الي عفيف .. ساد الصمت ليهمس عفيف مستأذنا:- ممكن بس يا متر دجيجتين مع الباشمهندس !؟..
اومأ المحام بالإيجاب بينما هتف العسكري بصوت أجش:- بس كِده هنتأخروا .. ياللاه..
مال المحام على العسكري ليضع بكفه حفنة من نقود جعلته يبتلع لسانه ويظل ممسكا بكلبشاته التي تقبض احد اساورها على كف عفيف الذي تنحى جانبا بنديم هامسا في سرعة:- اسمعني يا باشمهندس .. انا سبتك تسمع اللي جاله المحامي عشان تعرف ان عندي حج ف اللي هطلبه منِك دلوجت ..
تطلع نديم اليه في تعجب ولم يعقب ليستطرد عفيف مزدردا ريقه:- اني طول عمري كنت اسمع المثل اللي بيجول اخطب لبتك ولا تخطبش لابنك ..وكنت بتعچب .. اللي هو كيف يعني اروح اجول لواحد تعال خد بتي!؟..بس اني بجولها لك دلوجت يا باشمهندس .. خد اختي وابعد يا نديم .. اسمع .. مد كفك لچيبي وخد الورجة اللي فيه ..
مد نديم كفه لجيب جلباب عفيف ملتقطا الورقة المطوية به وهو لايزل مضطربا من جراء ما يسمعه ليكمل عفيف في عجالة عندما شعر بتململ العسكري:- دي ورچة چوازك العرفي بناهد .. خدها مصر يا نديم .. اكتب عليها رسمي .. وحطها بعينك .. ناهد مينفعش تجعد هنا لحالها وأديك وعيت بنفسك لكلام المحامي اللي بيجول ان الليلة لبساني وانا مش هلاجي احسن منِك يصونها ويحفظها ويراعي ربنا فيها ..
قال نديم اخيرا ما ان تمالك نفسه:- بس يا عفيف بيه .. ناهد اختك غالية .. غالية قووي .. ومش هي دي الطريقة اللي كنت ناوي اطلبها بيها ..
تطلع اليه عفيف مبتسما ليستطرد نديم:- ايوه.. انا كنت عايز اتقدم لها .. بس كنت شايف نفسي مش جدير بيها .. لان ظروفي ..
قاطعه عفيف واتسعت ابتسامته قائلا:- عشان كِده كنت طالب نجلك من النعمانية !؟..
اضطرب نديم ولم يعقب عندما اكتشف ان عفيف كان يقرأ داخله اكثر مما تخيل بينما استطرد عفيف مؤكدا:- اتنجل يا باشمهندس بس خدها معاك مطرح ما انت رايح .. ناهد أمانة ف رجبتك ..هي وكل ما املك ..وانا عِملت لك توكيل بإدارة أعمالي كلها .. التوكيل مع المحامي .. خده منيه .. انا بعد اللي عمله صفوت مبجتش أدي الأمان لحد.. بس انت غير يا باشمهندس .. أمانتي ف رجبتك ..
جذبه العسكري معلنا انتهاء الوقت وانه يجب عليه التحرك بسرعة .. سارعفيف خلفه متطلعا الي نديم واخيرا هتف وهو يختفي بين الجموع خارج مبني النيابة:- الامانة يا باشمهندس ..
تطلع نديم للورقة التي بين يديه وقلبه يضطرب بين جنبات صدره وهو غير قادر على تصديق انه عاد يملك زمام امرها من جديد .. وانه ما بين ليلة وضحاها أضحي المستحيل الذي كان يحلم به واقعا اقرب اليه مما كان يتخيل .. طوى الورقة من جديد وأودعها جيب قميصه متنهدا في راحة ..
اندفع شريف في اتجاه غرفة النوم يرتدي بدلته الميري في عجالة لتلحق به زينب هاتفة في حزن:- ايه يا شريف !؟.. انت لازم تروح ..
اقترب منها هامسا في محبة:- والله غصب عني يا زينب .. ما انت عارفة ده شغلي .. ودي جريمة قتل والدنيا مقلوبة .. ده كويس اني منزلتش من يوم فرحنا ..
واستعاد روحه المرحه مستطردا:- اهو خدنا لحسة من شهر العسل .. اخلص شغلي وارجع ألهطه كله ..
لم تستطع الضحك على مزاحه كالعادة وهى تتطلع اليه في شجن.. جذبها الي احضانه متعلقا بها لتشهق في البكاء قبل جبينها هامسا:- وبعدين بقي يا وزة .. انا اخر حاجة أشوفها منك دموعك بدل ضحكتك الحلوة !؟..
ابتسمت رغما عنها ومسحت دموعها متطلعة اليه ليشاكسها هامسا:- فين بقى سرينة إسعاف قلبي !؟..
قهقهت بضحتها المجلجلة التي يعشق والتي ادرك لما كانت تكتمها دوما ليقول مؤكدا:- السرينة تشيل البطاريات وانا مش موجود .. سامعة يا بنت يا زينبو ..
اومأت مبتسمة ليندفع من الغرفة باتجاه باب الشقة وهو باعقابه هم بفتح الباب لتهتف من جديد:- شريف ..
استدار يتطلع اليها وفتح ذراعيه مستقبلا إياها يضمها اليه في عشق غير قادر على إفلاتها لكنه ابعدها عنه مرغما وقبل جبينها في سرعة مندفعا للأسفل ليودع امه وامها تاركا إياها دامعة العينين تشعر ان الأيام لن تمر ببعده ..
هتفت ناهد في حزم:- انا مش منجولة من هنا.. واخويا هيرچع .. و..
اكد احد ابناءعمومتها الذين اكتظ بهم بهو البيت هاتفا مقاطعا إياها:- تجعدي فين لحالك!؟.. لاااه مفيش الكلام دِه عندينا ..هتاچي تجعدي مع بنات عمك .. وأنا هروح اطلب يدك من اخوكِ ..
تمنت الصراخ بوجهه لان كل هؤلاء المجتمعين لا هم لهم الا الوصول لمال اخيها واتخاذها ذريعة للوصول لغرضهم .. لا يختلف اي منهم عن صفوت الذي تاجر بسمعتها لينل انتقامه من عفيف .. هى ناهد بنت راغب النعماني والتي ما كان احد منهم في عز اخيها بقادرعلى ان يرفع طرفا متطلعا اليها تصبح في تلك اللحظة تُباع وتُشترى ويتجرأ عليها ضباع النعمانية واقلهم قدرا وأحطهم شأنا يحاول نهش ما تطاله يده ما ان غاب عنها ليثها ..
هتفت داخلها في حسرة باكية بدموع لم تكن لتظهرها امام أنظارهم:- واااه يا عفيف .. فينك يا اخوي تشوف بت ابوك بيحصل فيها ايه ..
همت بالهتاف بهم وقد قررت طردهم خارج بيت جدها وليكن ما يكون الا ان ظهور نديم قادما من الخارج هاتفا بصوت ثابت النبرة يحمل قدر لا يستهان به من الصرامة:- مين دي اللي تطلب ايدها من اخوها !؟.. وتروح فين وليه !؟.. ناهد لا هتروح ولا هتيجي .. ولو هتتحرك من هنا يبقي معايا انا وبس ..
تطلعت اليه في صدمة بينما هتف احد ابناء عمومتها صارخا:- كيف يعني !؟.. انت واعي للي بتجوله !؟..
ليهتف اخر ونديم لايزل على ثباته يقف خلفه مناع صامتا بدوره يتطلع إليهم في غضب يود لو يخرج سلاحه ليفرغه بأجسادهم لما رأه من خسة ظهرت ما ان غاب سيده:- انت ايه دخلك بيناتنا م الاساس !؟..
اكد نديم في حزم:- انا جوزها ..
شهق الجمع واولهم ناهد ليستطرد نديم بنفس الثبات:- ايوه جوزها ..كنت طلبتها من عفيف اخوها قبل اللي حصل واداني كلمته بالموافقة ولسه كاتبين الكتاب حالا ومناع كان شاهد ..
واشار لمناع الذي هتف بدوره هازا رأسه موافقا:- ايوه حصل ..
تطلع الجمع لبعضهم البعض في ذهول ليستكمل نديم في هدوء من جديد:- ومعايا كمان توكيل بإدارة كافة أعمال عفيف بيه .. يعني م الاخر كده .. متشكرين جداااا لنيتكم الطيبة .. بس خلاص .. لا ناهد محتاجة راجل .. ولا الارض محتاجة اللي يراعيها ..
نهض جميعهم وكل منهم يهتف في غيظ:- مبرووك ..
ويخرج موليا ليبادرهم نديم هاتفا:- الله يبارك فيكم جميعا وطبعا الفرح يوم ما عفيف يخرج بالسلامة عن قريب باذن الله ...
خلا البيت الا منهما فاقترب نديم منها مازحا محاولا تخفيف التوتر:- مفيش مبروك ..
انتفضت متطلعة اليه ولازالت الصدمة تسيطر عليها وهمست باضطراب:- انت اللي جولته لولاد عمي ده صحيح !؟..
همس نديم مازحا:- صحيح ومش صحيح !؟
سألت في نفاذ صبر:- ايه الفوازير دي .. حصل ولا محصلش !؟..
هتف نديم في جدية مخرجا ورقة جوازهما العرفي ناشرا إياها امام ناظريها:- حصل ده .. اخوكِ رجعهالي وقالي اخدك بعيد ونتجوز رسمي ونعيش مطرح ما هينقلوني .. واضح انه حافظ أهله كويس وكان عارف ان اللي شفته بعيني دلوقتي هايحصل فعلا .. وانك مش هاتبقي ف امان هنا ..
تطلعت اليه هامسة بنبرة مهزوزة:- اخويا جالك كده !؟..
هز نديم رأسه موافقا ولم يعقب بكلمة .. ساد الصمت بينهما للحظات وأخيرا هتفت في نبرة موجوعة:- ناهد النعماني يوم ما هتتچوز هيتكتب كتابها والبلد كلها شاهدة واللي هياخدها هيحط يده ف يد اخوها ف جلب بيت ابوها مش ف الزنزانة ولا بورجة عرفي .. انا عارفة ان عفيف عمل كده من خوفه عليا .. بس انا مش ماشية من هنا ولا هروح بره بيت ابويا ..ولوع الچواز !؟.. عمري ما هشوف الفرح واخويا مش چاري ..
واندفعت مبتعدة تصعد الدرج في عجالة مبتعدة عن محياه حتى دخلت غرفتها وأغلقت بابها خلفها واستندت عليه واضعة كفها على قلبها الذي كان يطرق باب صدرها بعنف ..
وتساءلت ودموع فرح تترقرق بمقلتيها:- هل ما حدث بالأسفل حقيقي ام خيال !؟.. هل هي الان زوجته من جديد !؟... وباختيار اخيها هذه المرة!؟ ..
لا تصدق .. شهقت وبكت في اضطراب فما كانت قادرة على تحديد مشاعرها ما بين حزنها على اخيها وبين سعادتها في عودة نديم مرة اخري الي دنياها ..و ما بين هذا وذاك اندفعت ترتدي سترته في سعادة تضمها في عشق ..
بينما تطلع نديم الي موضع صعودها وتنهد مبتسما وقد أسعده ما قالته فقد كان عزم امره على ذلك بالفعل .. فهو قد اقسم ما ان تسلم ورقة زواجهما من عفيف انه لن يبرح النعمانية مرة اخري الا وهى زوجته امام اَهلها جميعا وبأسلوب يليق بها .. لكن حتى حدوث ذلك هو سينتقل الي المندرة ليكون بالقرب منها حاميا لها حتى اشعار اخر ..
هتف نديم متسائلا وهو يجلس امام طاولة البهو في صحن البيت الكبير:- الفطار فين يا خالة وسيلة!؟..
اندفعت الخالة وسيلة من باب المطبخ حاملة بعض الاطباق ليبادرها هو بمنتصف المسافة حاملهم عنها حتى وضعهم على الطاولة وبدأ في تناول إفطاره قائلا في مودة:- تسلم ايدك يا خالة .. الأكل زي الشهد ..
ردت الخالة وسيلة في محبة:- تسلم وتعيش يا ولدي .. والله نفسك ولسانك حلوين متتخيرش عن الداكتورة ربنا يسعدها مطرح ما هي جاعدة..
ابتسم نديم لقولها لتستطرد متسائلة:- ألا بصحيح .. هى الداكتورة دلال وعيت للي حصل.. ولا معندهاش خبر !؟..
اكد نديم وهو يلوك احدى اللقيمات هازا رأسه نافيا:- لااا متعرفش لسه يا خالة .. حاولت اتصل بها كذا مرة بس الظاهر مش موجودة ف البيت .. هتصل تاني واطمن عليها واطمنها عليا لأني مرحتش فرح الدكتورة زينب بسبب اللي جرى يومها ..
همست الخالة وسيلة وهى تهم بالعودة للمطبخ:- معلوم مدريتش.. اني جولت انها متعرفش برضك ..
وهمست في خبث محبب مبتسمة لحالها:- لو دريت والله لترمح السكة رمح وتاچي .. جلبها هيچيبها وروحها المتعلجة هدلها ..
تساءل نديم:- بتقولي حاجة يا خالة !؟..
اكدت الخالة وسيلة:- لاااه يا ولدي ..مبجولش .. سلامتك ..
عادت الخالة وسيلة للمطبخ لتهل ناهد بأعلى الدرج .. تطلع اليها بطرف لحظه محاولا إظهار تجاهله لطلتها التي خطفت قلبه .. هبطت من عليائها وألقت السلام في هدوء وتوجهت للخارج وقبل ان تخطو خطوة خارج الباب لحق بها معترضا طريقها متسائلا:- على فين !؟..
اكدت في هدوء:- هتابع ارضنا وأشوف ايه المطلوب .. انا مش هسيب مال اخويا يضيع ف غيبته ..
جز على أسنانه حانقا:- وهو انا مش مالي عينك ولا ايه !؟..
هتفت تهادنه:- لاااه .. انا مجصدش ..انت مجامك كبير وإلا مكنش اخويا سلمك حاله وماله ومن جبلهم عرضه .. بس انا عارفة ان الشيلة تجيلة .. وانا بعفيك يا باشمهندس منها .. كفاية اخويا شيلك همي .. اشيل انا هم عفيف وماله ..
تطلع اليها وقد استشعر ان تلك الناهد المدللة التي قابلها يوما ما ووضعتهما الظروف معا قد تغيرت لناهد اخري قادرة على التصرف واتخاذ القرارات .. ناهد انضج عقلا وأصلب رأيا ..
ابتسم رغما عنه وقال:- لما ابقى اشتكي ابقى ساعديني ..
تذكرت ان ذاك كان نفس رده عندما عرضت عليه المساعدة بقيمة خاتمها يوم ان كانا بالإسكندرية والصراحة انه لم يقصر يوما ولم يشعرها ابدا بعجزه عن تدبير احتياجاتها فاضطربت وبلا وعي مدت كفها تعبث بالخاتم بأصبعها فاتسعت ابتسامته عندما ادرك انها ألتقطت الرسالة وهمست بأحرف خجلى ودمع يتأرجح بمآقيها:- كد الجول يا باشمهندس .. وعمرك ما هتشتكي ..
اضطرب بدوره وشعر برغبة عارمة في جذبها بين ذراعيه وتغييبها بأحضانه .. قاوم تلك الرغبة ببسالة وقال بصوت متحشرج يحاول المزاح لتخفيف الاضطراب:- طب اطلعي انجري بقى على فوق .. ومسمعش كلمة خارجة دي تاني ..
زمت ما بين حاجبيها وهتفت بغيظ وقد تحولت في لحظة للنقيض:- انت بتجول الكلام ده لمين !؟.. ليا انا .. انا ..
قاطعها مقتربا منها في مشاكسة:- انتِ مراتي .. والمرة دي بموافقة اخوكِ .. وشهّدت على جوازنا عيلتك كلها .. يعني لو مطلعتيش على فوق دلوقتي ..
هتفت تقاطعه في تحدي:- هتعمل ايه يعني !؟
اقترب اكثر مما دعاها للتقهقر لتصطدم بالحائط خلفها ليدنو منها هامسا بالقرب من مسامعها:- هعمل كتير .. اه انا مش صعيدي .. بس لما مراتي متسمعش كلامي .. اعرف كويس ازاي اخليها تسمعه ...
وتطلع الي عمق عينيها ليتوه بهما للحظات هامسا من جديد:-بس مش بالغصب .. بالرضا والمحبة ...
وبلا وعي منه انحنى مقبلا جبينها قبلة طويلة أودعها شوقا فاض ولولا ذاك الوعد الذي قطعه لنفسه بألا يقربها حتى خروج اخيها من محبسه لكانت الان بين احضانه يطفئ بقربها لهيبا من ليال بعاد طالت وما عاد قادرًا على تحملها ..
تملصت من أسره مندفعة للأعلي وما ان وصلت غرفتها حتى توقفت كالبلهاء تتحسس موضع قبلته بجبينها وكانما ترك اثرا مقدسا هناك تتمنى ألا يُمحى مدى الدهر .. بينما ظل هو يتعقبها بناظريه حتى اختفت وتنهد في عشق هامسا:- امتى يا عفيف تطلع براءة !؟ والله ما حد مستني براءتك قدي ..
واندفع بدوره لخارج البيت ليباشر عمله وكذا يتفقد ارض عفيف التي اصبحت تحت مسؤليته..
دخلت شقتها بعد يوم مضن .. فمنذ انتهاء فرح زينب وهى قررت الانغماس في العمل لعلها تنسي النعمانية وأيامها وسيدها الذي أورثها مجرد التفكير بمحياه سهدا ووجعا لم يعد محتمل .. خلعت حذائها ووضعته جانبا وأخذت تدلك قدمها في إرهاق وسارت حافية القدمين باتجاه المطبخ تصنع كوبا من الشاي.. مدت كفها تفتح المذياع ليتردد صوت المطرب يشدو في طرب:-
يامزوق يا ورد في عود...والعود استوي...
والكحل في عنيك السود ...جلاب الهوي..
همست داخلها:- ااااه .. ليه كل حاجة بتتعمد تفكرني بيه .. مش كفاية قلقي على نديم وانا معرفش هو ليه مجاش الفرح .. وبعدها الأحلام اللي مش راضية تسبني دي!؟..
اغلقت المذياع وصبت كوب الشاي وما ان همت بدخول حجرة نومها الا وعادت مرة اخري للردهة حيث الهاتف الذي اخذ يرن بصوت يؤكد انه قادم من محافظة اخري كادت ان تسقط بعض من الشاي على كفها من سرعتها فتركت الكوب جانبا واندفعت تركض رافعة سماعة الهاتف مجيبة بلهفة:- ألوووو..
تأكدت انه نديم عندما شعرت بتحويل المكالمة ليهتف بدوره:- ألووو .. دلال ..!؟..
هتفت بدورها:- ايووه يا نديم .. انت كويس يا حبيبي .. !؟.. مجتش ليه فرح زينب !؟.. قلقتني عليك..
هتف نديم:- بالراحة يا دلال متتخضيش كده انا كويس وعلى فكرة دي تالت مرة اكلمك ومترديش.. انتِ اللي فين !؟..
هتفت مؤكدة:- معلش يا حبيبي شغل متعطل بقى لأني كنت مشغولة مع زينب زي ما انت عارف .. انت مجتش ليه الفرح !؟..
هتف يطلعها على الامر:- اصل الوضع هنا مش تمام .. صفوت النعماني اتقتل ومتهمين عفيف والحكاية باينها كبيرة ..
هتفت ولم تستطع السيطرة على أعصابها صارخة في صدمة:- بتقول قتل !؟..
اكد نديم:- اه يا دلال .. وامور تانية .. الدنيا ملخبطة ..
هتفت مؤكدة:- طب بص انا جاية .. انا جاية..
هتف في سعادة:- يا ريت يا دلال ..لو تقدري تيجي .. تعالي ..
هتفت دلال تحاول الثبات:- طب يا نديم .. انا هركب اول قطر وجايلكم .. خلي بالك على نفسك يا نديم ..وتعال خدني اوابعت مناع بالعربية ع المحطة ..
هتف مؤكدا:- حاضر يا دلال .. مع السلامة..
اغلقت الهاتف وجلست منهارة على اقرب مقعد وانفجرت في بكاء كتمته طوال حديثها مع اخيها .. هذا هو اذن تفسير أحلامها التي كانت توقظها يوميا مذعورة .. انتفضت تمسح دموعها تسرع الخطى باتجاه حجرتها تجمع حاجياتها لتعود من جديد الي تلك الارض التي ظنت منذ عدة اسابيع انها لن تطأها من جديد ..الي النعمانية ..
اندفعت تزاحم ركاب القطار داخل العربة التى حجزت بها مقعدا فى اخر لحظة فما ان هاتفها اخوها مؤكدا على ضرورة حضورها حتى اندفعت ملبية ..
جلست متنفسة الصعداء وبدأت فى التقاط انفاسها اخيرا وسط هذا الضجيج الذى لايزل دائرا حولها من الركاب ومودعى المسافرين أمثالها وما ان بدأ القطار في التحرك حتى بدأت الأجواء في الهدوء نسبيا ..
سرحت بخيالها من نافذة القطار وجالت بناظريها على تلك الارض الممتدة امامها فى شموخ و قطارها يغوص الى اعماق الصعيد.. ابتسمت فى وداعة وهى تطالع ذاك الجبل الغربى الذى ظهر فى الأفق وتذكرته .. و اتسعت ابتسامتها ساخرة من نفسها وهى تتهكم سرا في نفسها:- تذكرته !؟.. و متى نسيته حتى أتذكره !؟..
وكانت تلك مشكلتها من الاساس ..
دمعت عيناها وقد اقترب خط سير القطار للجبل جعلها تتطلع الى شموخه وكبريائه و تذكرت كيف كان عفيف يقف شامخا لا يهاب شيئا تعلو هامته عزة وأنفة من يدرك انه ذو اصل وحسب وان طباعه المأخوذة من عبق تاريخ ارضه واعتزازه بأصله هى ما يرفع من قدره بين الخلائق ..
انتفضت من خواطرها المتمركزة حوله فى الاساس على نداء جعل ضربات قلبها تتضاعف فى سعادة .. كان ذاك البائع يهتف في انشراح:- چلااااب .. يا هدية الاحبة يا چلاب .. چلاااااب .. يا چلاب الهوى يا چلااااب ..
اندفعت تنادي البائع فى لهفة لتبتاع منه قطعتين ملفوفتين فى ورقة بيضاء .. تناولتهما من يده فى فرحة طفلة نالت ما تشتهي .. وضعت قطعة فى حقيبتها وكادت تقهقه فقد بدأت فى الاحتفاظ بالقطع من ذاك الجلاب مثل ما يحتفظ بها عفيف فى جيب جلبابه ..
بدأت فى تناول القطعة الاخرى فى استمتاع عجيب وهى تتطلع من النافذة على ذاك اللون الأخضر المختلط بدرجات لون تلك الارض الطيبة الممتدة حتى الجبل..
تنبهت لتلك الربتة الخفيفة على ركبتها لتتطلع الى ذاك الطفل الذى انفرجت شفتيه عن ابتسامة محبة ما ان وقع نظرها على محياه ليظهر موضع اسنانه الأمامية فارغا منها مما أورثه مظهرا اكثر براءة واشار فى حياء الى قطعة الجلاب التى تحمل .. قهقهت فى فرحة وحملته لتضعه على فخدها هامسة بالقرب من مسامعه:- انت اسمك ايه بقى !؟..
ابتسم الطفل فى حياء هامسا:- أسمى ثعيد ..
همست متسائلة محاولة كتم ضحكاتها:- انت بتحب الجلاب يا سعيد !؟..
هز الطفل رأسه عدة مرات فى حماسة مؤكدا مما دفع الضحكات لثغرها ليستطرد الصبى معاتبا فى ضيق:- لكن امى مش بتچبهولى عشان سنانى باظت م السكر .
اكدت دلال:- ماما خايفة عليك يا سعيد .. لازم تحافظ على أسنانك ..بس انا هديك حتة عشان احنا بقينا صحاب بس بعد ما استأذن ماما .. ماااااشى ..
ابتسمت ام سعيد معلنة موافقتها والتى كانت تجلس فى المقعد الموازى لدلال ودعت لها ممتنة:- تسلمي .. وعجبال ما تشيلي عوضك عن جريب ..
ابتسمت دلال وهى تلوح لسعيد الذى اندفع فى اتجاه مقعد امه منتصرا فى سعادة لحصوله على قطعة الجلاب واخذ يتناولها فى شره محب بنواجزه مستعيضا بها عن اسنانه الأمامية المفقودة ...
تطلعت دلال الى سعيد للحظة وأشاحت بوجهها في أتجاه النافذة وكادت ان تقهقه فى بلاهة وهى تتخيل عفيف عندما كان طفلا لابد وانه كان يشبه سعيد فاقدا لأسنانه الأمامية من كثرة تناوله الجلاب الذى يحب .. لكن رغما عنها دمعت عيناها عندما تذكرت اين يكون عفيف بتلك اللحظة .. كانت تحاول ان لا تفكر في الامر حد الإنكار فليس عفيف ذاك الذي يُحبس بين اربعة جدران تقيد حرية روحه ..
تطلعت للنافذة من جديد وسالت دموعها وتضرعت في وجع طالبة من الله نجاته ..
عادت من ذات الطريق الذي قطعته باكية منذ عدة اسابيع ظنا منها انها لن تعود مجددا ..
احتضنت عيناها كل التفاصيل التي تعجبت كيف أضحت تحفظها عن ظهر قلبها وكأنها تفاصيل موشومة على جدران روحها ..
هتف مناع بصوت متحشرج تأثرا:- وعيتي يا داكتورة للي حصل لعفيف بيه !؟..بس والله تو ما وعيت لحضرتك حسّيت ان ربنا هيفرچها ..
ابتسمت دلال بشجن لمحبة مناع الخالصة لسيده وهمست:- عفيف بيه هيطلع منها يا مناع .. عفيف لو عملها كان وقف قدام الناس كلها وقال انا خدت بتاري مش هيستخبي زي الجبنا ويدارى ..
هتف مناع مصدقا:- والله صدجتي يا داكتورة.. هو دِه عفيف بيه بالمظبوط ..
هزت رأسها مؤيدة وتطلعت للطريق من جديد وقد اصبحوا على مشارف البيت الكبير ..
اندفعت تركض لداخل البيت ما ان صف مناع العربة جانبا وهتفت في شوق:- خالة وسيلة!؟..
ظهرت المرأة العجوز من داخل المطبخ كعادتها وشهقت في فرحة غامرة:- بتي .. يا حبيبتي .. وفتحت ذراعيها تستقبلها في محبة طاغية مستطردة بصوت يتحشرج بكاءً:- اني جولت لحالي انك هتاچي ميتا ما تعرفي اللي چرى ..
اندفعت دلال تتمتع بالحنان الفطري بين ذراعيها في شوق هامسة والدمع يترقرق بعيونها:- طبعا يا خالة لازم أجي .. مقدرش اسيبكم ف الظروف دي ..
اندفعت ناهد تهبط الدرج ما ان ادركت وصول دلال:- دكتورة دلال ..
وبكت وهى تندفع بأحضانها هاتفة:- شفتي اللي چرى .. عفيف يحصل له كده !؟.. انتِ تصدجي ..
ربتت دلال على كتفها مطمئنة:- والله ليطلع منها .. عفيف بيه طول عمره بيعمل الأصول والواجب ومتأخرش على حد احتاجه ف يوم.. وربنا اكيد هيوقفله عمله الطيب..
همست ناهد متضرعة:- يسمع منك ربنا يا دكتورة ..
همست الخالة وسيلة رابتة على كتف دلال في محبة:- تصدجي بأيه يا بتي !؟..
همست دلال:- لا اله الا الله ..
استطردت الخالة وسيلة في صدق:- دخلتك علىّ دلوجت كني وعيت للغالي بالمظبوط ..
ربنا لا يغيبك ولا يغيبه ابداااا ..
كادت ان تفلت من دلال شهقة باكية متأثرة بكلام الخالة وسيلة دارتها بأحضانها وهى تندفع لاجئة بين ذراعيها من جديد .. وابتهلت في قهر ولوعة هامسة:- يااارب ..
جلس بركن زنزانته يذكر الله بسره نائيا بنفسه عن رواد الزنزانة الذين جاء بهم العسكري امس بساعة متأخرة ..
اغمض عينيه وحاول الانفصال عن ذاك الشجار الدائر بين اثنين منهم يحاول تخيل انه لايزل بين جدران بيت جده اوحتى منطلقا بفرسه بلا وجهة محددة .. تذكر يوم رحيلها وهروبه منها ليجد نفسه متطلعا اليها تغيب .. شعر بنفس الغصة بقلبه فعاد يذكر الله مستغفرا من جديد..
انفرج باب الحبس عن احد العساكر ليلزم المتشاجرين اماكنهم كأن شيئا لم يكن وهتف باسم عفيف فانتفض مجيبا:- انا اهااا .. خير!؟..
دخل العسكري حاملا حقيبة بلاستيكية ضخمة تحمل الكثير من الخيرات تسلمها عفيف في هدوء ووضعها جانبا ليخرج العسكري مغلقا باب الحبس خلفه ..تهامس الرجال وهو يتطلع لمحتويات الكيس بلا اهتمام يذكر ورائحة المأكولات الشهية المنبعثة منه يسيل لها لعابهم..تناول الكيس بهدوء ونهض واضعا اياه وسط الزنزانة قائلا:- بِسْم الله يا رچالة..
انتفض الرجال من مواضعهم منقضين على ما بداخل الكيس يتنازعونه فيما بينهم ليعود هو لمجلسه يركن رأسه على الحائط الرطب خلفه يعاود ذكر الله ..
هتف احد الرجال ساخرا وهو يخرج شئ ما من داخل الكيس البلاستيكي:- ايه دِه !؟.. انفجر اخر ضاحكا بسخرية:- چلاااب !؟..
قهقه الرجال بينما انتفض هو من موضعه مندفعا باتجاه الرجل منتزعا الجلاب من كفه.. صمت الجميع ولم يعقب احدهم على ما فعله بل انهم تجاهلوا الامر تماما وصرفوا أنظارهم لما بالكيس بينما عاد عفيف من جديد يحمل الجلاب بين كفيه .. جلس يتطلع اليه في سعادة فاقت الحد..
هل ما يظنه صحيحا !؟.. هل عادت ..!؟.. وهل هذا الجلاب هديتها !؟.. لا احد يعلم مدى عشقه للجلاب واحتفاظه به دوما في جيب جلبابه إلاها !؟.. كان كشفه لها عن ذلك يومها من الامور التي تعجب منها لاحقا .. كانت الوحيدة التي أزاح امامها الستارعن شخص عفيف النعماني الحقيقي الذي يتداري خلف قناع الصرامة والمفروض والواجب ..
تطلع للجلاب من جديد وتناول قطعة منه لينتشر طعم السكر بفيه مشعرا اياه بسعادة لا توصف لا علاقة لها بطعم السكر بل بطعم الفرحة الذي غمر روحه..
↚
كان يقف متوترا يتلفت حوله في اضطراب داخل دائرة من نار تحيط به من كل جانب .. عاجز عن البقاء داخلها وغير قادر على الخروج منها .. واخيرا خبت هذه النيران ليصبح المكان حوله معتم والعجيب انه لايزل غير قادر على ان يبرح موضعه داخل دائرة النيران التي خبت جزوتها تماما .. وفجأة ظهرت تلك الاعين المخيفة المتربصة به.. كانت عيون مشعة لذئاب تحاول الوصول اليه وهو لا حول له ولا قوة .. لا يملك ما يدافع به عن نفسه..
يحاول دفع أذاها عنه لكن لا جدوى .. مزق احدهم طرف جلبابه بأنيابه الا انه سمع صوتا يناديه .. صوت يألفه ويستشعر وحشه لصاحبته .. صوتها هاتفا باسمه.. كان كلما هتفت يضئ المكان حوله فتندفع الذئاب المتربصة مبتعدة ذعرا ..اندفع احد الذئاب ناحيته وأوشك على اصابته لكنها ظهرت بكامل هيئتها تنظر اليه في شوق وكفها يحمل مشعلاً قدمته اليه ما ان تناوله حتى لوح به فولت الذئاب هاربة .. لكن هى اختفت من جديد فظل ينادي عليها حتى استيقظ مذعورا يهتف بإسمها..
تطلع حوله في تيه للحظات ليتأكد انه كان يحلم وحمد الله ان كل من بالحبس نياما ما سمعوا هتافه باسمها .. مسح وجهه بباطن كفه هامسا في وجل:- يا رب خير .. يا رب ..
ليتناهى لمسامعه اذان الفجر فتضرع رافعا كفه من جديد وقلبه يهفو اليها .. يشعر بالسعادة انه لمح طيفها بمنامه فقد فاق شوقه لمرأها الحد..فتلك هى المرة الاولى التي يراها فيها بعد رحيلها عن النعمانية .. يضنيه شوقه لقربها.. فهل يدنيه قدره لها !؟..
ما ان علمت النسوة بعودة دلال الا وتزاحمن على بابها من جديد وعلى الرغم من سعادتها لذلك الا انها استشعرت غصة بحلقها كادت تدفعها للبكاء ما ان لمست استقبالهن لها بحفاوة بالغة ودعواتهن لعفيف بالخروج سالما والنجاة من ضيقته ..
مر النهار طويلا نتيجة لإقبال النساء الذي لم تتوقعه .. وما ان همت بغلق باب غرفة الكشف حتى تناهى لمسامعها نداء باسمها .. تطلعت خارج الباب تحاول ادراك الموضع الذي يصلها منه الصوت واخيرا تنبهت لظل احدهم خلف شجرة بجوار الباب الخلفي .. تحركت في قلق هاتفة:- مين !؟..
خرج من مخبئه هامسا:- اني يا داكتورة .. لجل النبي تاچي معايا دلوجت .. مرتي بتولد وبتموت.. أبوس رچلك انچديها ..
اكدت دلال في محاولة لتهدئة الرجل الذي كان يبدو صادقا في كل حرف ينطقه حتى انها لمحت اثر دمع بعينيه:- حاضر .. بس اهدى وانا هروح ابلغ مناع يخرج لنا الكارتة عشان نروح لمراتك ..
ما ان همت دلال بالحركة حتى هتف يستوقفها:- بلاها مناع يا داكتورة ..
تطلعت اليه دلال متعجبة:- ليه !؟..
اكد الرجل بإصرار:- بلاش تجولي لمناع يا داكتورة .. اصلك لو عرف اني وخدك على فين مش هيرضى يچيبك ..
قالت دلال:- ليه !؟.. هو احنا هنروح على فين !؟
همس الرجل في اضطراب:- شادر الحلب يا داكتورة .. مرتي بتموت هناك .. النسوان معرفوش يعملوا لها حاچة ومحدش غيرك هيغيتها .. أبوس رچلك ..
همست دلال باضطراب محاولة اختلاق الاعذار:- طب وهنروح ازاي من غير ..
قاطعها الرجل مؤكدا:- اني عامل حسابي .. بس همي يا داكتورة جبل ما حد يوعالي ..و اني هاخدك وهرچعك تاني ومحدش هيجدر يتعرض لك .. أفديكِ برجبتي ..
اومأت دلال برأسها ايجابا وتناولت حقيبتها الطبية ووضعت على رأسها شال امها واندفعت مع الرجل الي مضارب الغجر ..
كان الرعب يدب بأوصالها والجميع يتطلع اليها بهذا الشكل مستهجنا تلك الغريبة التي وطأت اقدامها مضاربهم على غير العادة ..
هتف طايع رفيقها الذي كان يحمل عنها حقيبتها الطبية:- اتفضلي يا داكتورة .. من هنا ..
اقتربت دلال من الخيمة المشار اليها وقد تناهى لمسامعها بالفعل امرأة تنازع في وجع واهن يدل على فقدها قوتها ..
دخلت الخيمة وما ان رأتها النسوة الملتفات حول المرأة التي تنازع ألام المخاض حتى انصرفن الواحدة تلو الاخرى معترضات على تواجدها ولم تبق حتى واحدة لمساعدتها.. لم تلق دلال بالا لذلك بل توجهت من فورها للمرأة هامسة في محاولة لطمأنتها:- ارتاحي .. متخافيش .. ربنا فرجه قريب .. كله هايبقى تمام..
توجعت المرأة من جديد ودلال تقوم بفحصها وما ان انتهت من الفحص حتى بدأت في محاولاتها في مساعدة المرأة على ولادة صغيرها الذي يبدو انه ما عاد لديه رغبة في المجئ من الاساس لتهمس المرأة والتي لم تكن الا ورد:- ربنا عمره ما هيفرچها على واحدة زيي يا داكتورة ..
تطلعت دلال لها باشفاق ولم تعقب لتلتقط المرأة انفاسها بصعوبة في تتابع مؤكدة:- منك لله يا لواحظ ..
تنبهت دلال لاسم لواحظ تلك الفتاة التي كانت سببا لمشكلة كادت ان تؤدي لصراع يوما ما وكانت هى السبب في وأده .. استطردت ورد بوهن:- لولاها ما كان زيدان چوزي عرف صفوت ولا اللي چانا من وراه .. والله زيدان كان طيب وبن حلال .. بس لولا صفوت ولواحظ وزنهم على ودانه ما كان مشي فسكتهم..كَتير جولتلهم ابعدوا عن چوزي ..و الغلبان بسبب غرسته السودا ف حكاويهم هرب من النعمانية ومبجيش ليه مكان حتى هنا .. محدش كان جابله .. الدنيا ضاجت بيه راح خلص على صفوت وكان حالف يخلص عليها هي كمان ..
شهقت دلال غير مصدقة ان دليل براءة عفيف بين يديها في تلك اللحظة:- انتِ بتقولي ايه !؟
ألتقطت ورد انفاسها في صعوبة:- بجول الحجيجة .. اني بموت و مش عايزة اشيل ذنب حد .. زيدان الله يرحمه هو اللي جتل صفوت عشان ينتجم منِه بعد ما خلاه يمشي وراه ..و اهاا هو كمان راح فيها چانا من اسبوع غرجان ف دمه بعد عاركة كبيرة و معرفناش نلحجه لحد ما دمه اتصفى .. وراح فيها جبل ما يملي عنيه بشوفة ولده ..و شكلي هحصله ..
اكدت دلال في حماسة:- لا .. متخافيش ..مش هتموتي .. خليكي معايا بس .. وباذن الله هتقومي بالسلامة .. بس اوعديني لو ربنا نجاكِ تشهدي بالكلام ده ..
همست ورد بوهن:- أوعدك يا داكتورة .. بس انچديني .. اني بموت ..
همست دلال بتضرع وعيونها تغشاها دموع الفرحة:- قولي يا رب ..
همست ورد:- يااارب ..
كان طايع يعسكر امام باب الخيمة ينتظر اي اخبار من داخلها تطمئنه ولم يكن يدرك ان لواحظ كانت قد جاءت الخيمة من خلفها لتساعد الدكتورة في عملها من اجل خاطر ورد فاستمعت للاعترافات التي أدلت بها لدلال والتي اصبح خروجها من مضاربهم خطر على الجميع ..
اندفعت لواحظ في اتجاه خيمة مرعي هاتفة باسمه في دلال ليخرج مسرعا اليها يهزه الشوق لسماع صوتها يخاطبه بذاك الغنج قائلا في سعادة ما ان طالع محياها:- لواحظ !؟.. اتوحشتك يا بت ..
همست باغواء مدروس:- وانا كمان ..
هتف بلهفة:- صحيح يا بت !؟..
هزت رأسها في إيجاب هامسة بنبرة تذيب الحجر:- وعشان كِده چت لك .. عشان خايفة عليك .. عشان انت عزيز عليا جووي .. ومرضاش اعرف انك هتروح ف مصيبة واجف ساكتة ..
هتف متعجبا:- مصيبة ايه !؟..
استدارت اليه متطلعة:- البت ورد راحت جالت للداكتورة دلال ان انت اللي جتلت صفوت النعماني عشان تخرچ عفيف ويتهموك انت .. معلوم .. ما هي بتموت اهااا والداكتورة عنديها واني سمعتهم بودني ..
كان مرعي يهم بالاندفاع متهورا في اتجاه خيمة ورد الا انها استوقفته هامسة:- لاااه .. انت رايح فين !؟.. مش دلوجت .. ورد مجدور عليها ده لو ربنا نچاها م الاساس .. اما الداكتورة فليها صرفة تانية تخرج بس من عندينا واجولك نعملوا ايه .. هو احنا هنطولها وسطينا ونچيب لنفسنا مصيبة..
اومأ مرعي برأسه موافقا وقد هدأت ثورته قليلا وظل ناظره معلقا بخيمة ورد منتظرا خروج دلال خارج حدود مضاربهم ليقوم باللازم ..
خرجت دلال من خيمة ورد وما ان طالعها طايع حتى انتفض من موضعه هاتفا في لهفة يطمئن على ورد:- هااا يا داكتورة ..!؟..ايه في !؟..
هزت دلال رأسها في إيجاب:- الحمد لله يا طايع.. هى تمام ..ربنا نجدها لكن المولود متكتبلوش يعيش .. جيت متاخر قووي .. والحمد لله ان هي عدت منها ..
هتف طايع في سعادة:- المهم هى يا داكتورة .. ربنا يبارك لك يا رب ..
اكدت دلال لطايع:- انا معملتش غير الواجب رجعني بسرعة بقى عشان خلاص الليل داخل..
اكد طايع:- من عنايا يا داكتورة .. اني وعدتك .. هرچعك من مطرح ما خدتك .. اتفضلي ..
خرجت دلال والعيون تتفرس بها من جديد ليحملها طايع علي عربته خارج حدود مضارب الحلب .. ولم يكن يعلم ان عيون مرعي تتربص بهما .. وعند انحدار ما على الطريق ظهر مرعي حاملا بكفه سكين ذو نصل برق امامها في ضي الشمس الغارب متوجها به نحو دلال التي صرخت تحاول الابتعاد عن مسار النصل ليقف طايع حائلا بينهما وكان بالمرصاد لمرعي دافعا اياه بعيدا..
زمجر مرعي في غضب عندما افشل طايع ضربته وجعلها تخطئ هدفها .. عاود الكرة من جديد وطايع يدفع به بعيدا عن دلال التي نزلت من العربة تركض في اتجاه النجع ..
أيقن مرعي انه لن يصل للدكتورة الا بالتخلص من طايع الذي اقسم لها على حمايتها بروحه وها هو يفعل عندها سدد مرعي نصل سكينه تجاه طايع ليسقط مدرجا في دمائه متأوها ومرعي يندفع خلف دلال يحاول اللحاق بها ..
كاد ان يصل لها لكن تلك الرصاصة التي انطلقت من فوهة سلاح ما اصابت يده التي تحمل النصل وجعلته ينفضه من كفه ويندفع هاربا بين الأشجار ليظهر شريف ومن خلفه نديم ..
اندفعت في لهفة تجاههما صارخة:- انا عرفت مين اللي قتل صفوت .. انا معايا براءة عفيف ..
هتف شريف متلهفا:- طب ياللاه معايا بسرعة ع النيابة .. كل كلمة ودقيقة ليها ثمن .
هتفت دلال مؤكدة:- بس ألحقوا طايع في واحد معرفهوش حاول يتهجم عليا وهو دافع عني .. و كمان اللي اسمها ورد .. هي اللي اعترفت لي .. لازم تلحقوها قبل ما حد يعمل فيها حاجة ..
اكد شريف متعجلا:- طب ارجعي انت مع نديم وانا هقوم بالازم ..
واندفع بقوته في اتجاه مضارب الغجر بينما اندفع كلاهما نديم ودلال في اتجاه البيت الكبير ليبشرا ناهد والخالة وسيلة التي كان لها الفضل في معرفة مكان دلال بعد ما رأتها وقد رحلت مع ذاك الغجري طايع حتى أبلغت نديم والذي بدوره ابلغ شريف واندفعا خلفها ليعودا ببراءة عفيف الوشيكة ..
تنهد شريف زافرا في ضيق وهو يتطلع الى خاتم زواجه الذي يطوق بنصر كفه اليسرى هامسا في شوق:- وحشتيني يا زوزو .. والنعمة انا هيحصل لي حاجة لو ما نزلت اجازة .. يرضيكِ كده يا حكومة !؟..
انتفض منتزعا نفسه من خلف مكتبه مندفعا للخارج هاتفا بعسكري الخدمة امرا وهو يضع نفسه خلف مقود السيارة الميري:- اللي يسأل عليا ..انا ف مأمورية سريعة وراجع .. مفهوم..!؟
اكد العسكري هاتفا وهو يؤدي التحية العسكرية في صرامة:- مفهوم يا فندم ..
انطلق شريف بعربته وتوقف عند اقرب سنترال ودخل يطلب نمرة بيتهما .. دخل احد الكبائن في انتظار رفع احدهم لسماعة الهاتف و تنفس الصعداء عندما ردت امها:- ايوه مين!؟..
هتف شريف:- ازيك يا طنط .. انا شريف .. عاملين ايه !؟..
هتفت ماجدة في سعادة:- اهلًا يا شريف .. اهلًا يا حبيبي ..عامل ايه !؟.. وهاتيجي امتى!؟..
هتف شريف متعجلا:- كله تمام يا طنط .. هو فين ماما وزينب !؟..
اكدت وهى تضع السماعة جانبا:- هناديهم لك حالا يا حبيبي ..
نادت ماجدة على زينب من الداخل بينما اندفعت تطرق باب الشقة المجاورة لاستدعاء شريفة ..
اندفعت زينب باتجاه التليفون تكاد تموت شوقا لسماع صوته في نفس اللحظة التي دخلت فيها شريفة من باب شقة امها .. تركت سماعة الهاتف مبتسمة:- تعالي يا طنط اطمني على شريف وبعدين ابقى أكلمه ..
ألتقطت شريفة سماعة الهاتف اطمأنت على ولدها وتركتها لزينب تغمز لها في مرح:- امسكي يا بنتي كلميه بدل ما يحصل له حاجة..
انفجرت ماجدة ضاحكة واشارت كل منهما للأخرى مبتعدة لتتناول زينب الهاتف تنأى به هامسة في لهفة:- ألوووو ..
هتف مازحا كعادته:- يا وعدي .. والنعمة احلي ألووو سمعتها ف الدنيا ..شكرًا مصلحة التليفونات ..
قهقهت لمزاحه فهتف لائما:- لا والنبي يا زوزو .. سرينة الإسعاف لااا .. انتِ عارفة ان دي نقطة ضعفي ..
همست لائمة بدلال:- يعني دي بس نقطة ضعفك !؟..
همس مازحا:- اسكتي .. مش ده اللي انا كنت فاكرة .. طلع غير كده خااالص .. تعالي عبي وشيلي .. نقاط ضعف بتتدلدق .. متعديش يا زوزو يا اختي ..
قهقهت من جديد ليهمس في شوق:- زوزو .. وزة ..!؟..
همست بدورها:- هاااا ..
همس بشوق من جديد:- وحشتيني ..
صمتت وأجابه شهقة لوعة من قبلها وساد الصمت للحظة قبل ان تهمس:- شريف .. انت راجع امتى !؟..
اكد متنهدا:- يعني اهو الحمد لله الدنيا هديت وعفيف خرج براءة ..
هتفت زينب في سعادة:- صحيح !؟.. الحمد لله..
اكد شريف مازحا:- اه .. الحمد لله .. وعقبال براءتي انا كمان.. يومين ..وابقى عندكم باْذن الله ..
تساءلت زينب في فرحة:- صحيح يا شريف!؟..
اكد لها:- قولي يا رب ..
همست:- يااارب ..
استطرد مازحا:- جاااايلك يا كرييييم ..
تساءلت زينب متعجبة:- كريم مين !؟..
اكد شريف:- لااا متخديش ف بالك ده انا بدعي.. كريم يااارب ..
قهقهت من جديد ليستكمل:- وقتك خلص معايا يا وزتي .. ونكتفي بهذا القدر من سرينة قلبي عشان هتجيب اجلي وانا بعيد كده .. حراااام..
كتمت ضحكاتها وحيته:- خلي بالك على نفسك يا شريف .. تيجي بالسلامة ..
همس مودعا:- مع السلامة ..
اغلق الهاتف واندفع في اتجاه عربته قادها عائدا للنجع وقد اتم مهمته ..عاد بوجه غير الذي غادر به مترنما وهو يدخل النقطة:-
يابو ضحكة جنان .. مليانة حنان ..
ليتطلع اليه عسكري الخدمة في إشفاق على حال ضابطه الذي اعتقد ان الزواج سيصلح حاله فإذا به ينقلب للأسوء وتصبح حالته مستعصية على العلاج ..
تنهد عفيف وهو يطالع ذاك الزحام والطبل والمزمار امام بوابة البيت الكبير وهو قادم بالعربة وأمر مناع:- اوجف جدام البوابة الورانية..
ترجل من العربة مندفعا في اتجاه الداخل هاتفا في مناع معاتبا:- كان ايه لزمته دِه يا مناع!؟..هو اني راچع من الحچاز .!؟..
انتفض موضعه عندما تناهى لمسامعه قولها:- يا عفيف بيه .. خلي الغلابة تفرح ..
استدار لموضع القائل لتطالعه بوجهها البشوش وابتسامتها الصافية البكر فاضطربت جوارحه واندفع مناع مبتعدا وعلى وجهه ابتسامة العالم ببواطن الامور ..
تنحنح عفيف وهو يدعك ذقنه الذي طال بسبب بقائه في الحبس محاولا اجلاء صوته ورغم ذلك خرج متحشرجا:- حمد الله بالسلامة يا داكتورة..
قهقهت دلال قائلة:- المفروض دي تتقال لك انت يا عفيف بيه .. بس دايما حضرتك سباق…
ابتسم يخفض رأسه حياءً يحاول ان يغض طرف فؤاده عن محياها الذي اشتاقه حد التهلكة قائلا:- خلاص .. حمدالله بسلامتنا احنا الاتنين.. وبتشكرك يا داكتورة لولاكِ كان ..
قالت دلال متعجبة:- بتشكرني على ايه!؟..انا..
قاطعها هامسا بنبرة حيرتها:- اشكرك مرة من نفسي .. ما انتِ شكرتيني كَتير ..
واندفع متوجها لداخل البيت الكبير تاركا أياها في حيرة من مقصده .. متي شكرته يا ترى!؟.. ولم تتذكر انها أرسلت له خطابا اعتقدت يوم وضعته بأحدي الروايات كى تضعه على مكتبه قبل رحيلها انه تاه ولم يصل وجهته .. لكنه وصل وكان يحمل الكثير من الشكر وان ذاك الخطاب المنسي لها قد حفظ هو كلماته بفؤاده لكثرة ما كرر قراءته وهو وحيدا داخل محبسه ..
جلس جميعهم حول مائدة الطعام في انتظار قدوم عفيف من الاعلى ليشاركهم اياه اخيرا..
هلّ من اعلى الدرج فتعلقت نظراتها به لاأراديا وتطلعت لوجهه الحليق الذي عاد سيرته الاولى بعد ان تخلص من لحيته التي استطالت بمحبسه فعاد عفيف الذي تعرفه بذاك الشارب المهذب والنظرات الفحمية المتستر خلفها حنان يغمر الكون وتفاحة ادم التي تزين منتصف حلقه تتحرك اذا ما تحدث فتورثها اضطرابا يهز عرش ثباتها ويثير بها فوضى من المشاعر اذا ما اقترن بصوته الرخيم المتحشرج احيانا والصارم اكثر الوقت والحاني في احيانا خاصة جدا ..
تنبهت انها أطالت النظر فخفضت نظراتها لصحنها حتى وصل للطاولة ملقيا التحية ومتخذا موضعه المعتاد على رأسها ..
تناول الجمع الطعام بهدوء ظاهري لكن كل منهم كان يحمل بداخله قصة لم تروى بعد .. وكان اول الغير قادرين على كبت البوح بها هو نديم الذي قال متنحنحا وهو يدفع بأوراق مطوية تجاه موضع جلوس عفيف:-اعتقد يا عفيف دول مبقلهمش لازمة ..
تناول عفيف الاوراق وابتسم عندما وجدها ممزقة وقال مازحا مشيرا برأسه لناهد:- هو البت دي زهجتك جوي كِده !؟..
اكد نديم مازحا:- قووي .. الله يكون ف عونك يا عفيف والله ..
هتفت دلال معاتبة لاخوها وهى تنظر الى ناهد لتجدها وقد احمرت خجلا وإحراجا:- نديم .. حد يقول كده برضو !؟..
اكد نديم مازحا:- بقول الحقيقة .. ده انا من كتر ما تعبتني مش عايز اخلص من زهقها طول عمري ..
انكمشت ناهد تود لو الارض انشقت وابتلعتها ونديم يستطرد:- انا قدام النعمانية كلها جوزها بس انا قلت للكل الزفاف مش هيكون الا بعد خروج عفيف بالسلامة .. وبما ان ربنا كرمك بالبراءة ..يبقى نخلي الفرحة فرحتين .. ايه رأيك!؟..
قهقه عفيف وقال في سعادة:- وماله .. دِه يوم المنى ..نجولوا على اول الشهر باذن الله ..انتِ ايه رأيك يا عروسة !؟..
اندفعت ناهد للأعلى غير قادرة على رفع نظراتها لعفيف تخبره رأيها ..
ابتسم عفيف مؤكدا:- على خيرة الله ..
ابتسم نديم بدوره وكان يشعر ان اول الشهر بعيدا جدااا عن ان يطاله وباركت دلال في فرحة غامرة سعادة اخيها وفرحته واستأذنت للصعود لناهد للمشاورة في امر الزفاف القادم بينما اطلقت الخالة وسيلة دفعات من الزغاريد مؤكدة ان الفرحة قد بدأت بشائرها تلوح اخيرا بالأفق ..
اندفع عفيف خارج البيت الكبير الذي اصبح العمل بداخله على قدم وساق لأجل الاعداد لزفاف نديم وناهد .. تنبه عفيف لمناع الذي كان يجهز الكارتة للخروج بها فهتف به:- يا مناع !؟.. واخد الكارتة على فين !؟..
اندفع مناع يقف قبالته مؤكدا:- رايح اچيب الداكتورة .. خرجت من بدري تولد مرت تهامي ابو محرز ..
اشار عفيف:- طب خليك انت انا رايح مشوار وهاچيبها ف طريجي ..
سأل عفيف يشاكسه:- مشوار ايه !؟..
هتف عفيف ناظرا اليه متعجبا:- واااه ..
ابتسم مناع وربت على صدره طالبا السماح ليصعد عفيف الكارتة واندفع خارجا من البوابة ونظرات مناع تتابعه يتمني لو يتحقق ما يتمناه داخله ..
وصل عفيف امام بيت تهامي لتندفع دلال خارجة ما ان سمعت صوت توقف الكارتة بالخارج ..
توقفت للحظة ما ان طالعها محيا عفيف يجلس بانتظارها وهتفت بالتحية وردها في اقتضاب .. صعدت اليها في احترافية اكتسبتها من تكرار الصعود والهبوط منها .. جلست جواره واندفع بها في اتجاه عكس اتجاه البيت فتساءلت:- هو أحنا مش رايحين البيت !؟..
رد باقتضاب:- لاااه ..
تساءلت من جديد:- امال رايحين فين !؟..
اكد بكلمة واحدة:- هاتعرفي دلوجت ..
مرت الدقائق في صمت حتى توقف على ذاك الجرف العال الذي يشرف على النعمانية كلها بما حولها ..
اخرج خطابها من مكان ما بجوار قلبه هامسا:- انتِ صح شايفة ان ايامك ف النعمانية كانت حلم ومكنتيش عايزة تصحي منِه !؟..
اضطربت بموضعها جواره واندفعت تهبط العربة مبتعدة تتطلع للأفق البعيد وشمسه الغاربة .. هبط خلفها وتوقف جوارها يتطلع للأفق بدوره وهمس من جديد مشيرا للطريق الذي سارت به السيارة راحلة منذ اسابيع:- الطريج اللي انتِ وعياله دِه خدك بعيد عن النعمانية .. يوميها كنت واجف هنا بفرسي بطلع للعربية وهى بتبعد وكنت حاسس انها واخدة روحي وياها ..
شهقت وانتفضت موضعها وتطلعت اليه في صدمة هامسة:- روحك ..
استطرد هامسا وهو يتطلع اليها:- ايوه يا داكتورة .. انتِ روحتي ومن يوميها حاسس اني مش عايش وانك خدتي معاك روح وجلب عفيف ووعيت ان عفيف مش هيرچع الا برچعتك ..
همست تتطلع اليه ولازالت الصدمة مسيطرة عليها:- انا !؟..
همس ولازالت نظراته تتجول على محياها الذي زادته الصدمة براءة:- ايوه انتِ يا داكتورة .. تتچوزيني ..
دمعت عيناها وتسمرت نظراتها على محياه وهو يتطلع اليها في عشق فضحته تلك النظرات التي جالت بمحياها المحبب لروحه وهمست هى في حروف مضطربة:- انا.. انا ..
همس يتعجلها في لهفة لسماع ردها:- انتِ ايه!؟…
انسابت دمعاتها التي اختلطت بابتسامتها وهمست في عشق:- انا ..موافقة ..
تنهد في راحة واتسعت ابتسامته واخيرا اندفع بدوره صاعدا العربة لتلحق به هاتفة في تعجب:- على فين !؟..
اشار لها فصعدت جواره العربة ليهمس متطلعا اليها من جديد:- هروح أطلبك من اخوكِ .. والفرح يبجى فرحين ..
همست وهى تشيح بنظراتها بعيدا في اضطراب خجل:- بسرعة كده !؟..
همس بدوره في عشق وهو يعيد الكارتة للطريق عائدين من جديد للبيت الكبير:- بسرعة ايه !؟.. دِه اني اللي حكمت يبجى فرح ناهد ونديم اول الشهر .. يا ريت لساني كان جال عشية ..
اتسعت ابتسامتها واضطربت موضعها جواره لا تصدق ان حلمها في وصاله بات وشيكا وانها مالكة قلبه وساكنة روحه .. عادت العربة للطريق والذي بات امام ناظريهما طريقا مفروشا بالورود يتناهي لمسامعهما شدو مضارب العجر القريبة وكأنها رسالة تحيي عشقهما:-
سلّم عليّ .. سلّم عليّ لما جابلني وسلّم عليّ
ولدي يا ولدي .. يا سلام يا سلام
سلّم عليّ ..
لو كان حبيبي يندهلي
أنسى حبايبي و أفوت أهلي
وأفرح بجربه على مهلي
حبيبي
دي فرحة العمر بحاله
يوم الفؤاد ما يروج باله
يضحك زمانه و يصفاله
حبيبي ..
كان يتطلع اليها غير مصدق انها ستصبح حلاله في غضون ايّام .. وان ليال بعادهما قد ان لها ان تنتهي ..
توقفت العربة امام بوابة البيت الكبير لتهبط دلال منها متجهة للداخل في عجالة تكاد تتعرقل في خطواتها اضطرابا ..
ظهر مناع متطلعا لعفيف الذي اشرق وجهه بضياء من فرحة لم ترتسم على محياه منذ زمن بعيد ..
همس مناع لعفيف وهو يترجل من العربة مستفسرًا:- كن اللي ف بالي حصل !؟.. صح يا بيه !؟..
اومأ عفيف مجيبا بايماءة من رأسه وابتسامته تتسع لتصل لعمق عينيه فهلل مناع في سعادة:- الله اكبر ..
دمعت عينا مناع وتحشرج صوته وهو لايزل يهلل بفرحة ليعاتبه عفيف في محبة محتضنا اياه هامسا:- واااه يا حزين.. تاريك واعي ان العشج واعر ..
همس مناع متمالكا حاله:- ربنا يتم فرحتك على خير يا بيه ويهنيك بحلالك ..
ربت عفيف على كتفه ممتنا وهمس مندفعا للداخل:- اني رايح اطلبها من اخوها ..
بحث عفيف عن نديم ليجده جالسا ببهو المندرة فتنحنح في اضطراب وجلس ملقيا التحية والتي بادله إياها في محبة ..
سادت فترة من الصمت حتى هتف عفيف فجأة:- ايه رأيك يا نديم لو نخلي الفرح فرحين!؟..
اجاب نديم:- طب ما هم فرحين فعلا يا عفيف!؟.. فرحي انا وناهد وفرحتنا بخروجك بالسلامة ..
تنحنح عفيف من جديد وابتسم قائلا:- طب نخليهم تلاتة ..
تطلع اليه نديم في شك مترقبا ليهتف عفيف بكلامه دفعة واحدة:- انا طالب يد اختك الداكتورة دلال ..
تطلع نديم اليه مشدوها لبرهة واخيرا اتسعت ابتسامته هاتفا:- ده يشرفني يا عفيف .. بس اسألها الاول وأشوف لو هى ..
هتف عفيف في تهور لم يكن يوما من طبعه:-هى موافجة ..
واستدرك عندما ادرك هفوته:- اجصد يعني..
قاطعه نديم مبتسما:- الف مبروك يا عفيف ..انا مش هلاقي لأختي راجل يصونها زيك ..
احتضن كل منهما الاخر رابتا على ظهره في قوة ممتنا ..
واستأذن نديم في الصعود لدلال التي ادرك لما دخلت من الخارج مهرولة بهذا الشكل ..
طرق باب غرفتها ودخل ما ان أذنت له .. تطلعت اليه في اضطراب ليقهقه وهو يفتح ذراعيه لها في محبة .. اندفعت اليه ليحتضنها في مودة هامسا:- مبروك يا دلال .. والله العظيم فرحتي بجوازك اكبر من فرحتي بجوازي انا شخصيا ..
هتفت تشاكسه:- يا بكاش ..
قهقه من جديد ثم تحولت نبرته للجدية هاتفا:- لا حقيقى يا دلال .. انا كنت ناوي بيني وبين نفسى اتجوز وأمشي فعلا في إجراءات نقلي للقاهرة بأي طريقة .. مكنش ينفع اسيبك تاني لوحدك .. لكن ربنا جاب الحل من عنده ..ربنا يسعدك يا رب .. عفيف راجل محترم وهيصونك بجد وده اللي يهمني ..
قبل جبينها وابتسم لها من جديد وما ان هم بالخروج من غرفتها حتى تناهى لمسامعها زغاريد تردد صداها المبهج بجنبات البيت الكبير ليقول نديم مازحا:- عفيف قام بالواجب والخبر وصل للكل.. ربنا يتمم لك بخير يا رب ..
هتفت في وجل تكاد تطير فرحا:- يتمم لنا كلنا بخير يا رب ..
اومأ نديم لها في سعادة وخرج مغلقا الباب خلفه تاركا إياها في دنيا أحلامها التي دخلتها منذ طلبها عفيف للزواج ويبدو انها لن تخرج منها ابداااا ..
فتح باب شقته متسللا واغلقه في حرص شَديد وخطى لداخل الشقة ..ترك المفاتيح بالخارج حتى لا تحدث صوتا يوقظها فقد قرر ان يكون وصوله مفاجأة لها .. وصل لغرفة نومه .. توقف بمنتصفها وخلع عنه سترته الميري واندس بفراشه محتضنا زينب هامسا:- وحشتيني يا زينبو ..
انتفضت زينب مذعورة من نومها وما ان تطلعت الي محياه على ضوء الممر الطولي المفضي للغرف حتى تعلقت برقبته في سعادة هامسة:- شريف ..
تطلعت اليه مستطردة:- كنت حاسة انك جاي النهاردة وصمتت ابات هنا مش تحت عند ماما.. برغم ان انت عارف ان انا جبانة وبخاف انام لوحدي..
همس يفتح ضوء جانبي بجوار فراشهما مازحا كعادته:- برافو عليكِ .. هي دي مراتي الجبانة.. قصدي الشجاعة ..
اتسعت ابتسامتها هامسة:- وحشتني قووى يا شريف ..
تحشرج صوته تأثرا وهو يهتف بمرح لمداراته:- ايه ده !؟.. انتِ خدتي عليا قووي وده خطر على فكرة .. ومن هنا ورايح فيه نظام .. فيه انضباط.. فيه التزام .. فيه جدول .. الدنيا مش سايبة ...
قهقهت فأدعى العبوس فكتمت ضحكاتها ليستطرد بصوت عسكري النبرة:-الصبح فطار مع شوية دلع.. العصر الغدا مع شوية هشتكة ..
همست تقاطعه مشاكسة:- طب وبالليل !؟..
همس بدوره مؤكدا:- بالليل العشا ثم اعلان حالة الطوارئ القصوى وتشتغل سرينة الإسعاف ..
قهقهت لتعلو ضحكاتها ليهتف محذرا:- بنت!؟.. انتِ بتخالفي الجدول ..
توقفت عن الضحك هامسة:- حقك عليا يا بيه.. هروح احضر لك الفطار بقى ..
همت بالنهوض ليجذبها اليه لتعاتبه هامسة:- ايه تاااني !؟..
هتف متسائلا:- انتِ رايحة فين !؟..
اكدت باسمة:- يا عم رايحة أنفذ الجدول ..
ضمها اليه هامسا في مجون:- لااا ..احنا نعلن حالة الطوارئ على طول..
همست تشاكسه:- كِده بوظت الجدول ..
هتف بغيظ:- يولع .. نبقى ننفذه من بكرة ..
علت ضحكاتها الرنانة ليهتف عابثا:- ايوون وبدأت الطوارئ في استقبال الحالات الحرجة ..افتح المشرحة يا بني وعدوا الجثث ..
لترتفع قهقهاتها من جديد ..
↚
هتفت زينب وهى تضع الاطباق امام شريف:- اعمل حسابك هسافر معاك النعمانية عشان احضر فرح دلال ونديم ..
هتف شريف مازحا:- اكيد طبعا .. دول فرحين مش فرح واحد .. النعمانية هتهيص وتغرق ف اللحمة ..
قهقت هاتفة:- ربنا يزيد الأفراح يا سيدي حد يكره !؟..
اكد وهو يتناول طعامه في شهية:- يكره مين!؟..والنعمة انا لو بأيدي لاطلع قانون و اجوز كل اتنين بيحبوا بعض ..
هتفت تشاكسه:- ده الشرطة هاتبقى ف خدمة الحب ..
هتف جاذبا إياها يجلسها على فخذه:- وماله .. حد يطول .. دي هاتبقى اخر منجهة ..
مد كفه يطعمها فتناولت اللقيمة من كفه مبتسمة له وهى تشعر انها ليست على ما يرام..
همست محاولة النهوض:- هروح اجيب باقي الاطباق ..
ما ان همت بالحركة من موضعها حتى مادت الارض بها وهمست بوهن:- ألحقني يا شريف ..
ما ان استدار متطلعا اليها حتى وجدها ممددة ارضا اندفع مذعورا نحوها يحاول إفاقتها لكنه لم يفلح .. رفعها بين ذراعيه متجها لفراشهما مددها عليه واتجه نحو قنينة عطر افرغ بعضها على كفه واتجه نحو زينب في اضطراب هامسا باسمها من جديد ..
تململت وبدأت تستفيق .. فتحت عينيها في بطء ليملس على جبينها هامسا بالقرب منها:- انتِ كويسة يا زينب !؟..
همست بوهن:- هو ايه اللي حصل !؟..
همس يضمها اليه:- محصلش حاجة .. خير .. انا هروح اجيب دكتور ..
ونهض يبدل ملابسه .. حاولت اثناءه لكنها لم تفلح ..
هبط الدرج مسرعا يبلغ امها وأمه اللتان اندفعتا للاطمئنان عليها .. لم تمر الساعة وكان الطبيب بالداخل وشريف يقف بالخارج يتأكله القلق ..
انتفض عندما انفرج الباب عن محيا الطبيب وأم زينب بالداخل تطلق الزغاريد ..
هتف متعجبا:- هو فيه ايه !؟..
ابتسم الطبيب مؤكدا:- ما هما قالوا كل حاجة اهو .. ومد كفه بوصفة الدواء مؤكدا على تناولها إياها بانتظام ..
رحل الطبيب وشريف لايزل متسمرا امام الغرفة غير قادر على تصديق ما اشار اليه ..
خرجت امه من الغرفة تربت على كتفه في سعادة مباركة تنساب دموع الفرحة على خديها، ابتسم هو متطلعا اليها لايزل يعيش صدمة الخبر، اشارت شريفة لماجدة لتخرج من الغرفة تهلل مباركة واخيرا اندفعتا معا راحلتين ..
ما ان اغلق باب الشقة خلفهما حتى بدأ يستعيد صفاء ذهنه قليلا .. تقدم بخطى وئيدة باتجاه الحجرة وتوقف على أعتابها يتطلع الى تلك الرائعة التي تتمدد على الفراش في وداعة لا يصدق انها ستصبح اما لطفله القادم ..
جلس على طرف الفراش متطلعا اليها وهو يداعب خصلات شعرها وخدها:- انتِ كويسة!؟.. طب مش محتاجة حاجة او نفسك ف حاجة !؟..
ونهض متذكرًا:- اه .. انتِ بتحبي الفراولة .. مع ان ده مش أوانها بس هقلب الدنيا واجيبهالك .. ولا تحبي حاجة تاني !؟..
هتفت تستوقفه:- شريف !؟..
تنبه وجلس من جديد متطلعا اليها:- نعم ..
همست وهى تربت على خده في حنو تشعر بحالة التيه والاضطراب التي يعيشها:- انا كويسة والله ..
وأمسكت كفه تضعها على بطنها هامسة بابتسامة:- وابننا بخير ..
ظلت كفه على بطنها وتتابعت نظراته بينها وبين كفه تلك واخيرا تسلل في بطء دافعا رأسه الى أحضانها لتضمه في قوة ليطوق خصرها بذراعيه هامسا:- بحبك قووي ..
قبلت رأسه القابعة بأحضانها وضمته اليها اكثر ..
وقفت ورد متطلعة لمرعي وهو يجذب لواحظ من ذراعها دافعا إياها تجاه خيمة القابلة وهي تأبى ليظل يدفع بها حتى وصلا لباب الخيمة .. خرجت القابلة فهمس بأذنها للحظة فتطلعت للواحظ وهزت رأسها في إيجاب لتجذب لواحظ بدورها تدخلها الخيمة دون اعتراضها هذه المرة وكأنها استسلمت لقدرها ..
تحرك طايع باصابة ذراعه جراء طعنة مرعي التي تلقاها بديلا عن دلال والذي كان يتابع المشهد بدوره متعجبا من ظهور مرعي بعد اختفاءه من يوم هجوم الشرطة على خيامهم للقبض عليه وكذا استجواب ورد عن ما أخبرت به الدكتورة دلال لإظهار براءة عفيف النعماني .. اقترب من موضع وقوف ورد هامسا:- انتِ اللي جولتيله يا ورد!؟..
هتفت ورد متعجبة:- كنت مستني مني ايه يا طايع!؟..
همس بشجن:- بس دي صاحبة عمرك !؟..
هتفت بوجع:- واني مكنتش صاحبة عمرها واجرب ليها من اهلها !؟.. ليه عِملت فيا اللي عملته!؟ .. راح چوزي وولدي بسببها ولازما تدفع التمن ..
هتف طايع:- بس مرعي هايجتلها لو عرف انها حبلى من صفوت !؟..
هتفت بلامبالاة وهى تبتعد:- هى ونصيبها عاد.. هى اللي چابته لروحها ..
خرجت القابلة من خيمتها مطأطئة الرأس ولم يكن مرعي بحاجة لإجابة سؤاله ..
كانت تلك هى الليلة الاخيرة قبل زفافهما وقد انشغلت بتحضير حالها حتى عنه .. لم يرها منذ طلبها من اخيها تقريبا وكأنها تدخر موعد لقياهما لليلة اجتماعهما الأبدية .. كان يشعر بشوق هائل لمجرد مرأها .. هى قاب قوسين اوادني من موضعه ذاك خلف مكتبه لا يفصله عنها الا حائط خراساني اصم لا يستشعر ما به من لهفة ..
تنهد في قلة حيلة ومد كفه يدير مشغل الأغاني جواره لعله يشاركه بعض من انين قلبه لبعدها وحنين روحه للقياها ..
انسابت كلمات الاغنية بسلاسة تعبر بصدق عما يجيش بصدره:-
في هويد الليل .. وناديتك ..
ما عرفت منين چيت لي ولاه
چيتك
ما اعرف غير اني لجيت روحي ..
و نچيت من همي .. وناچيتك ..
تناهى لمسامعها صوت موسيقاه فتراقص قلبها طربا وأرهفت السمع حتى تبينت كلمات الاغنية التي انسابت بين حنايا روحها كخرير من عشق مصفى .. دمعت عيناها فرحا وابتسمت في سعادة وهمست .. ان غدا ناظره لقريب ..
ما ان ظهرت خيوط الصباح الاولى حتى دبت الحركة فى اركان البيت الكبير فاليوم هو الليلة الكبيرة وفرحة النعمانية كلها بزفاف سيدها ..
ابتدأ الجميع يهل على البوابة الحديدية يقدم الخدمات وينتظر نصيبه من خيرات الذبائح التي بدأت تُسحب من الزرائب وامتدت الطبالي على امتداد ساحة البيت الكبير وخارجها لإطعام كل ذاهب وأيب ..
انتصف النهار والعمل على اشده والنساء لا تتوقف عن اطلاق الزغاريد المنتشية وبدأ الطبل يعلو من جانب المندرة معلنا ان النساء قد قررن بدأ مظاهر الفرحة .. وبدأت حلقات الرقص بالتبادل وكل عروس بغرفتها تستعد وتتزين ..
كانت ماجدة وشريفة كل منهما تحتل جانب من جانبي فراش زينب تحاول إقناعها بنوع معين من الطعام لعله يفيد طفلها القادم وهى تأبى الاصغاء لهما رغبة منها في تناول ما تستطيبه نفسها فقط ..
دخل شريف الغرفة متطلعا لامه وامها وقد ارتدي بدلته الميري في سبيله للعودة للنعمانية
وهتف بمرح:- بقولكم ايه !؟.. الاب عايز يطمن على صحة الام والجونين .. خمسة كده وهسبهالكم ومسافر وابقوا ألعبوا بيها زي ما انتوا عايزين !؟..
قهقهت كلتاهما وخرجتا من الغرفة لتغلق احداهما خلفهما الباب .. تطلع الي زينب التي نكست رأسها حزنا لا تريد مطالعته راحلا ..
جلس على طرف الفراش هامسا:- زنوبة ..
رفعت نظراتها الدامعة له ليهمس مداعباً:- انا خايف اسيبك لوحدك والنعمة .. انا حاسس اني هرجع الاجازة الجاية من اللي انا شايف امك وامي بيعملوه ألاقى العيل اللي حيلتنا بقى عشرة ..
اتسعت ابتسامتها ليقترب مقبلا جبينها هامسا:- كان نفسي تيجي معايا ونستعيد الذي مضى .. فاكرة رحلة القطر !؟..
قهقهت للذكرى مؤكدة:- اكيد فاكرة .. دي كانت اجمل سفرية ف حياتي ..
تبسم بدوره وهمس:- خلي بالك من نفسك ومن جعيدي ..
هتفت بفزع:- مين !؟..
قهقه مؤكدا:- حبيبتي ده اسم ابننا باْذن الله ..الموضة اليومين دول ف الاسماء .. يا جعيدي .. يا جعران .. اختاري بقى على بال ما انزلك اجازة ..
هتفت ضاحكة:- اختار ايه !؟.. لا انا عايزة كريم بقى .. ولو بنت ..
هتف يقاطعها مقهقها:- هاتقوم الحرب … يا اما شريفة .. يا اما ماجدة ..
قهقهت زينب متنبهة وتضرعت:- يا رب ولد..
قهقه بدوره هاتفا متضرعا لله:- اه والنبي يا رب .. ولد حقنا للدماء ..
علت ضحكاتها لينهض مستعدا للرحيل فتوقفت عن الضحك هامسة في شجن:- خلاص ماشي ..
هتف مازحا يحاول تخفيف حزنها:- ماشي ولا بيدي .. على رأي عبدالحليم ..
هتفت تذكره:- متنساش تبارك للعرسان بالنيابة عني .. كان نفسي قوي ابقى جنب دلال فيوم زي ده ..
هتف يطمئنها:- متقلقيش هبلغ عفيف ونديم يبلغوا دلال وناهد باعتذارك عن حضور الفرح لظروف الحمل .. عقبالهم ..
ما ان هم بالتحرك صوب باب الحجرة حتى عاد مسرعا لثم جبينها سريعا واندفع راحلا تتبعه نظراتها الملتاعة لبعاده ..
هلت المغارب والفرحة على اشدها حتى أُعلن وصول المأذون لتنطلق موجات متتابعة من الزغاريد تكفي لإقامة ثلاثة افراح دفعة واحدة.. ادخله عفيف ومعه نديم القاعة الجانبية بعيدا عن صخب النساء واندفع الرجال خلفه ليشهدوا مراسم عقدا القران ..
وكلت كل عروس أخيها ليتبادل كل من عفيف ونديم الأدوار ما بين ضحكات وقهقهات الرجال ليهتف مناع ما ان تم عقدا القران ليصل صوته للنساء:- الكتاب انكتب ..
اطلقت النساء المزيد من الزغاريد واندفعن باتجاه غرفة كل عروس لتهبط بها الدرج في اتجاه صحن الدار ليجتمعن مهللات في فرحة ويبدأن الرقص داخل دائرة واسعة تتبادل فيها الإدوار فيما بينهن وكذا شدوهن:-
يا عريس يا غالي .. فرحة ومكتوبالي
لتنهض الخالة وسيلة هاتفة بحماسة وخلفها النساء:-
يا عفيف يا غالي .. فرحة ومكتبوبالي..
عديت علشاني معدية .. يا ولااااه..
ولجيت رچالة مية مية.. ياولاااه ..
ومادام راح اشيلك فعنايا .. راح اكيد عزالي
لتشاركها النساء من جديد وهى تهتف:-
يا نديم يا غالي .. فرحة ومكتبوالي ..
انا قلبي حبك واختارك .. ياولااه
وهشرفك لو بيه زارك .. ياولاه ..
ومن الليلة دي هكون دارك واكيد عزالي ..
يا عريس يا غالي .. فرحة ومكتوبالي ..
لتبادرها سعدية تشدو في فرحة طاغية:-
اهو چالك اهو .. ريح بالك اهو ..
اعمليله حلة محشي .. هي هي ..
يوجع فيها ما يطلعشي.. هي هي ..
لتهتف نجية من موضع اخر:-
اطبخيله الصبح بطة .. هي هي ..
واطبخيله العصر بطة .. هي هي ..
كتري يا بت الشطة .. وأهو چالك اهو ..
ولم يكن الرجال باقل منهن حماسة وفرحة فما ان رحل المأذون حتى خرج عفيف ونديم الذي اصر على ارتداء الجلباب والعمامة للجلوس بين الرجال .. اشتد قرع الطبول و صدح المزمار ليندفع عفيف في سعادة ملقيا عباءته عن كتفيه حاملا عصاه وتوقف في وسط الدائرة التي يحيطها الرجال وبدأ في التمايل بعصاه ليهلل الرجال في نشوة:-
والبت بيضا .. بيضا بيضا
والبت بيضا وانا اعمل ايه
يا ولدي يا ولدي .. انا حبيت ..
وبنار الهوى انكويت ..
ويرتفع قرع الطبول والتزمير ليدخل مناع جاذبا خلفه فرس عفيف والتي اعتلاها بقفزة ماهرة ارتفعت لها صيحات الاستحسان من حناجر الرجال وبدأ الفرس في التمايل مع عزف المزمار فى سعادة وانتشاء لا تقل عن سعادة صاحبه ..
وكلما ارتفعت صيحات الرجال في الخارج كلما علا طبل وتصفيق النساء بالداخل وكأنها منافسة حامية الوطيس لنيل اعلى قسط من الفرحة ..
بدأ الرجال في مجاملة العريس وجذب احدهم عفيف بعد وصلة الرقص بالفرس للتحطيب بالعصا .. كانت جولة على اشدها لكن عفيف استطاع ان يفقد الخصم عصاه في لحظات .. توالى الرجال في تحديه واحد تلو الاخر .. واخيرا اندفع نديم معلنا الرغبة في النزول ..
هلل الرجال واشتدت الحماسة .. وعلى الرغم من عدم معرفة نديم بأصول فن التحطيب واللعب بالعصا الا انه ابلى بلاءً حسنا حتى اسقط عفيف عصاه متنازلا عن استكمال النزال. جاذبا اياه رابتا على ظهره في محبة ليرتفع صوت الرجال مستحسنا من جديد ..
امتدت الموائد هنا وهناك وجلس الجميع لتناول طعامه .. لم يبق فردا بالنعمانية لم ينل حاجته من خيرات تلك الليلة الميمونة .. كانت السعادة والاكتفاء هو عنوان تلك الساعات التي نشرت فيها الفرحة غلالتها على اجواء النعمانية كما لم يحدث من قبل ..
تعالت الطبول والمزامير مرة اخرى لتتعالى الزغاريد بدورها معلنة دخول العريسان لصحن الدار ليلحق كل منهما بعروسه التى صعدت برفقة الخالة وسيلة لحجرتها في انتظار زوجها لبدء حياتهما الزوجية ..
لم يستطع ان يتوقف لالتقاط انفاسه قبل ان يندفع لداخل الغرفة فالنساء بالأسفل يتطلعن لموضع وقوفه في انتظار دخوله لتصم أذنيه أصوات زغاريدهن وهو يضع كفه على مقبض الباب .. دخل بالفعل مغلقا باب الحجرة خلفه في هدوء .. جال بناظريه بارجاء الغرفة الشاحبة الضوء لتقع عيناه على محياها الناصع البياض من رأسها حتى اخمص قدميها والوضاء كقطعة سكر على سطح ابنوسي ..
دق الارض بعصاه دلالة على توتره لترتفع نظراتها اليه من خلف غلالتها التلية لتزداد ضربات قلبها وجيبا ..
هتف بصوت متحشرج:- السلام عليكم ..
ردت بصوت لم يتجاوز حلقها اضطرابا ..ترك العصا جانبا وخلع عنه عباءته وعمامته وتوجه لمجلسها ومع كل خطوة تجاهها كانت تستشعر انها تكاد تموت رهبة و رغبة .. وكان هو لا يقل عنها اضطرابا رغم ثباته الظاهري ..تتملكه رهبة المقدم على امر جلل ورغبة في وصل طال انتظاره ..
رفعت نظراتها اليه عندما توقف قبالتها .. مد يديه اليها لترفع أكفها تضعهما باحضان كفيه اللذين أطبقا على كفيها لتنهض قبالته وبدأ حديث الأكف المشتاقة للوصل منذ امد .. حديث طال ليتعاهدا على الا يفترقا ابدا ..
تطلع اليها من خلف غلالتها كمن يرى البدر من خلف السحب .. رفع عن وجهها غلالته وقلبه يعلن العصيان بين جنبات صدره معربدا في عشق طال كتمانه .. تشرب محياها كأرض شراقي غاب عنها المطر لعصور وهمس بصوت أبح:- مبروك ..
أفقدتها كالعادة بحة صوته وتفاحة ادم بحلقه اتزانها ونظراتها معلقة عليها وهمست منكسة الرأس خجلا:- الله يبارك فيك ..
مد كفه رافعا رأسها لتعاود النظر اليه ليزداد اضطرابها فتحاول الهروب مندفعة تهمس متوترة:- انا هروح أغير هدومي ..
همس باسمها في عشق:- دلال ..
كانت المرة الاولى تماما التي تسمعه ينطقه .. ما عاد هناك منطق .. فلقد اختفى بلحظة لمجرد نطقه اسمها بتلك النبرة التي كادت تدفعها للبكاء فرحة وبدأت الارض في الدوران عكس محورها .. استدارت تتطلع اليه وهمست ودمع يترقرق بمقلتيها:- اول مرة اسمعك تنطق اسمي ..
اقترب لها من جديد هامسا:- مكنش ينفع انطجه ولو بيني وبين نفسي .. مكنش حجي .. والمرة الوحيدة اللي نطجته فيها لما وجعتي بين دراعاتي وعرفت يوميها اني..
تطلعت اليه بنظرات متأرجحة على محياه تحثه ان يكمل اعترافاته الرائعة ليستطرد مجيبا دعوتها:- عرفت اني عاشج ..وانك سكنتي روحي..
شهقت دلال برقة ولازالت نظراتها معلقة به لا تقو على إرسالها بعيدا عن من أسرها للأبد ليدنو منها لتضطر لرفع هامتها اكثر حتى تصبح قادرة على النظر لتلك العيون الفحمية التي لطالما استشعرت ان خلف قناعهما الصارم ذاك كم من حنان ودفء يكفي ويفيض ليغرق قلبها وروحها الجائعة لهما حد اللامعقول ..
انحنى مقبلا جبينها ليخبرها انه يقدرها وسيرعاها دوما .. ورفع أكفها ليضع هناك بكل باطن كف قبلة غالية ليخبرها انه وضع قلبه وروحه أمانة بين يديها .. واخيرا جذبها لأحضانه ليهمس في عشق وهو يطوقها بروحه قبل ذراعيه:- واااه .. يا شج الروح ويا خل الجلب ..
همست باسمه في برقة وودت لو يضمها اليه اكثر حتى يغيبها بين أضلعه الا انها شهقت في صدمة عندما رفعها في خفة بين ذراعيه.. لم يسعها الا التعلق برقبته حتى وضعها على طرف فراشهما وانحنى متكأ على احدى ركبتيه مخرجا شيئا ما من جيب جلبابه ..
همس طالبا:- مدي رچلك ..
مد قدمها من بين طيات فستانها ليضع لها خلجالا من فضة .. انهى مهمته ورفع ناظريه اليها ليجدها مبهوتة تنظر اليه نظرات مشدوهة لا تقو على النطق واخيرا همست:- انت لسه فاكر ان كان نفسي ف خلخال !؟..
اومأ برأسه ايجابا وهمس مبتسما:- من يوميها وصيت عليه وكان على طول معايا .. وجلت لو ليا نصيب فيكِ هلبسهولك ليلة فرحنا..
ابتسمت في سعادة ليستطرد محذرا:- بس بجولك ايه !؟..
همست:- نعم !؟..
اكد ينبها هامسا:- دِه تلبسيه هنا بس .. خروچ بِه بره الاوضة .. لاااه ..
اكدت ايجابا بايماءة من رأسها وابتسامة تزين محياها العاشق ليمد كفه دافعا بترحتها التل بعيدا وجلس جوارها على طرف الفراش وفك خصلات شعرها من محبسها ليتساقط شعرها الغجري الذي يعشق خلف ظهرها وينساب حول وجهها كسعف نخلة شماء قررت مغازلة القمر .. مد كفه عابثا بالخصلات التي كادت ان تورثه الجنون ليال طوال ومد الكف الاخر محتضنا خصرها يدنو منها في شوق وهمس مغازلا:- يا بت الحچ محمود …
همست مضطربة:- هااا ..
استطرد بشوق:- انا عاشج ورب الكعبة ..
تطلعت اليه هامسة:- عفيف ..
همس وهو يضمها الي احضانه في عشق فاض:- والله راح عفيف ..
ونال ثأره من ايّام بعاد ولت بلا رجعة ..
دفع نديم باب حجرتهما لتنتفض ناهد مندفعة بعيدا مولية ظهرها للباب ما ان انفرج عن محياه ألقى التحية:- السلام عليكم ..
اجابت بحروف مرتعشة و لم يكن لديها الشجاعة لتستدير متطلعة اليه:- وعليكم السلام ..
تطلع للحجرة بنظرة خاطفة وما ان طالع صينية الطعام حتى توجه اليها في هدوء .. أزاح عنها غطائها وبدأ في تناول طعامه بأريحية شديدة..
تململت في وقفتها معتقدة انه في سبيله اليها وما ان طال انتظارها له حتى استدارت في حذّر لتتفاجأ بجلوسه لتناول طعامه متناسيا إياها ..
زفرت في غيظ وقد استدارت بشكل كامل تتطلع اليه تود لو ذهبت اليه لتريه كيف يكون غضب عروس اذا ما أهملها زوجها ليلة عرسهما مفضلا عليها رفقة الطعام لكنها تمالكت أعصابها وتحلت بأقصى درجات ضبط النفس وهى تقف موضعها لا تحرك ساكنا تراه مستمتعا بكل قضمة بشكل عجيب .. تململت وهى ترفع عن وجهها تلك الغلالة من التل والتي كان من المفترض عليه هو ان يرفعها عن محياها ..
تطلع اليها اخيرا مشيرا اليها:- تعالي هنا ..
توجهت اليه وتوقفت متخصرة جوار موضعه هامسة:- نعم !؟..
سألها في هدوء وترها:- انتِ مين اللي قالك ترفعي الترحة عن وشك .. !؟..
همت بالتحدث ليهتف مدعيا الشدة:- نزليها..
أسرعت تعيد الغلالة التل على وجهها من جديد متعجبة من افعاله وهمت بالاستدارة مبتعدة الا انه جذبها لتعاود النظر اليه امرا:-تعالي فكيلي العمة من على راسي ..
مدت كفها وبدأت في فك ادوار العمامة وما ان انتهت حتى همت بالابتعاد مجددا ليجذبها لتسقط بين ذراعيه .. شهقت في صدمة متطلعة اليه من خلف غلالتها ليهمس معاتبا في مزاح:- مضايقة ليه اني باكل !؟.. هاا!؟.. انا مبعرفش احب على معدة فاضية ..
همست تتساءل في تيه:- ايه !؟..
اكد هامسا يمعن في مشاكستها:- مبعرفش احب .. خليني بقى اظبط المشهد زي ما كان ف بالي ..
همست تسأل متعجبة معتقدة انه فقد عقله:- مشهد ايه !؟..
مد كفيه ورفع غلالة التل من على وجهها ليطالعه محياها بكل تفاصيله التي يعشق هامسا بنبرة تحمل قدر من الشوق لا يستهان به:- مش عارفة مشهد ايه !؟.. يوم ما أبقى معاكِ تحت سقف اوضة واحدة وابقى عارف انك حلالي بجد .. حلالي برضاكِ ورضى اهلك كلهم ..
تطلعت اليه بنظرات زائغة وقلب واجف غير قادرة على النطق بحرف مما دفعه ليستطرد هامسا:- انتِ عارفة حلمت كام مرة باللحظة دي..!؟ .. كام مرة فضلت عيني متشعلقة ف السقف بحلم بس انك ف حضني !؟..
سال دمعها سخينا ليمد كفه يزيله من على صفحة خديها ليهمس من جديد:- بحبك يا ناهد ..
شهقت وما عادت قادرة على مداراة سعادتها لتسقط دموعها من جديد مختلطة بابتسامة سعادة لا توصف ليهمس مشاكسا إياها:- ايه!؟.. مفيش وانا كمان بحبك يا نديم !؟..
انتفضت مبتعدة لينتفض بدوره خلفها جاذبا إياها لتواجهه ليهمس:- والله ما انا سايبك الليلة دي الا لما اسمعها .. هااا .. قولي بحبك يا نديم ..
همست متلجلجة:- بحبك .. يا.. نديم ..
هتف معترضا:- لااا .. مش سامع ..
همست من جديد بصوت اعلى قليلا:- بحبك يا نديم ..
هتف متصنعا الضيق:- لااا .. الأداء مش عاجبني .. عايز اعلي بقى وطالعة م القلب ..
هتفت تجادله:- نديم .. هنلم علينا البيت ويجولوا اتچننت ومش مصدجة انها اتچوزته!؟..
قهقه يدنو منها وجذبها بين ذراعيه حاولت ان تتملص لكنه احكم ذراعيه حولها هامسا:- هو أنت مصدقة بصحيح !؟.. والنعمة انا اللي ما مصدق..
قهقهت لتتعلق نظراته بثغرها الباسم ليدنو من مسامعها هامسا في عشق:- جننتيني يا بت النعماني .. بحبك ..
ضمها الي صدره لتتعلق به في فرحة فها هي باحضانه اخيرا وما عادت بحاجة لسترته تستمد منها أمانا ودفءً زائفا فقد اضحى هو منذ اللحظة أمنها وسترها الحقيقي..
كانت قابعة بين ذراعيه تتلمس دفء احضانه عندما همست:- عفيف ..
همس بدوره:- هااا ..
سألت في فضول:- هو لو مكنش حصل موضوع التهمة بتاعتك دي ومكنتش رجعت النعمانية كنت هتعمل ايه !؟..
همس مجيبا ببساطة:- كنت هعمل ايه يعني!؟.. مكنتش هعمل حاچة !؟..
همست في خيبة امل:- صحيح !؟..
قهقه مبعدا إياها عن احضانه قليلا واخفض ناظريه متطلعا لها هامسا:- لااه طبعا مش صحيح .. دِه انا كنت ههد الدنيا واچيب مية حچة عشان ارچعك تاني ..
همست في عشق:- وبعد ما ارجع !؟..
همس مبتسما:- كنت هخدك مطرح ما طلبت يدك واطلبها وأجول لك ان عفيف محسش انه كامل الا لما وعيلك ..
دمعت عيناها ولم تعقب ليهمس مستطردا وابتسامة واسعة مرسومة على شفتيه:- تعرفي !؟.. اول مرة وعيت لك فيها مكنتش عارف ايه اللي بيچرى .. كني اول مرة اوعى لحريم ..
انتفضت جالسة تزم ما بين حاجبيها هاتفة:- لا استني بقى .. ايه سيرة الحريم اللي جت ف النص دي !؟..
قهقه ليعتدل جالسا قبالتها هامسا وهو يتطلع اليها يشاكسها:- دلال .. انا شامم ريحة شياط .. ايه اللي بيتحرج عِندك !؟..
ادعت الغضب لكنها لم تستطع الا ان تبتسم لمزحته ليهمس وهو يدنو منها:- والله دي الحجيجة .. يوم ما وعيت لك حسّيت ان حاچة اتخطفت مني .. وااااه لما كنتِ بتعانديني… كنت ببجى عايز اكسر راسك الواعرة دي ..
شهقت ممسكة برأسها بكلتا يديها ليقهقه هامسا:- ولما كنت بشوفك مع حد غيري كان بيجى هاين عليا افرغ فيه عيارين وأخلص وأجول لحالي ايه حتة الداكتورة اللي كد الكف دي اللي تعمل فيك كل دِه !؟.
قهقهت ليستطرد في عشق:- ولما كنّا بنتعارك مكنتش ببجى عارف اعمل فيكِ ايه وخصوصي لو بكيتي .. بيبجى حالي عچب .. نفسي افش غليلي ونفسي اخدك ف حضني ومسيبكيش ..
تطلعت اليه في عشق هامسة في عدم تصديق لذاك الكم من المشاعر:- معقول بتحبني كده !؟..
همس مؤكدا:- وااه يا بت الحچ محمود .. والله راس عفيف اندارت من تحت راسك .. مبجيش عارف اذا كان رايح ولا چاي ..انتِ متعرفيش كان ايه حالي وانت چنبي فالكارتة ولاه لما كنت بمد كفي لكفك ساعة ما كنتِ بتبجيي طالعة ولا نازلة منيها .. ولاه وعيتي لحالي يوم ما وجعتي بين درعاتي والله شجيتي روحي نصين ..
واستطرد هامسا بعشق وهو يقبل اطراف جدائلها المنسابة على كتفيها:- شجلبتي حالي يا كل حالي ..
همست بحروف متلجلجة:- انا مش مصدقة يا عفيف .. انا كل ده !؟.. انا حاسة اني بحلم.. انا مش مصدقة اني معاك ..
همس مشاكسا:- انا هخليكِ تصدجي ..
وجذبها بين ذراعيه ضاما إياها هامسا:- صدجتي دلوجت !؟..
همست وقد قررت تشاكسه بالمثل:- مش قوي..
ابعدها عن احضانه وغرس كفيه بشعرها الغجري وانحنى يقبل جبينها هامسا:- طب وكِده !؟..
همست بصوت متحشرج:- يعني !؟..
تطلع لعينيها بنظرات ولهى هامسا في مزاح:- شكل الحلم مطول معاكِ وباين نومك تجيل…
ارتفعت ضحكاتها بدلال أشعره ان الارض توقفت عن الدوران فأسكت قهقهاتها بطريقته لعلها تصدق اخيرا ان الحلم اضحى حقيقة وليغرقا معا في بحور عشق بعرض السماء..
همس نديم بوهن وهو مغمض العينين كمن كان بمجاعة:- جعااان .. جعااان ..
انتفضت ناهد من نومها على همسه واخيرا هتفت ما ان وعت مزحته:- چعان ايه !؟.. ده انت جومت بالصينية كلها لوحدك امبارح !؟.. انزل اچيب لك اكل منين دلوجت !؟.. و اه لو وعت لي خالة وسيلة الساعة دي بالمطبخ .. اجولها ايه !؟..
قهقه هاتفا:- مليش فيه .. شوفيلي حاجة أكلها تصبيرة لحد الفطار.. اقولك .. روحي خبطي على اخوكِ يمكن يكون عنده جوز حمام مركونين من امبارح مش محتاجهم .. الجيران لبعضيها برضو ..
قهقهت غير قادرة على التوقف حتى سال دمعها واخيرا هتفت من بين ضحكاتها:- انت عايزني اروح لعفيف اجوله جوز حمام سلف لحسن چوزي ياكلني مطرحهم .!؟..
هتف متطلعا اليها في عشق:- قوليها تاني.. تساءلت في تعجب:- ايه هى دي !؟..چوز الحمام !؟ .. انت مش طايل تاكلهم عايزني اصبرك ولا ايه !؟ ..
قهقه وهمس عابثا:- اه صبريني لحد ما الفطار يجي .. قولي كِده تاني .. جوزي ..
نكست رأسها في حياء:- چوزي ..
لينتفض هاتفا في تهليل:- والنعمة احلى جوز ف الدنيا .. بلاها جوز الحمام ..
انتفضت تخرسه واضعة كفها على فمه هامسة:- شكل فضيحتنا هتبجى على يدك ..
تطلع اليها مقبلا كفها الموضوع على فمه مادا كفه ليزيحه ليعيد تقبيله من جديد هامسا في مجون:- هى الفضايح حلوة كده !؟..
وما ان هم بتقبيل الكف الاخرى حتى تعالت الزغاريد القادمة من صحن الدار لينتفضا موضعهما .. لحظة مرت ليسمعا بعدها طرقا بالباب وهتاف الخالة وسيلة من خلفه:- الفَطور يا عرسان .. صبحية مباركة..
انتفض نديم مبتعدا تجاه الباب ليحضر الصينية لتزمجر هامسة في عتاب:- نديم ..
همس يذكرها عاتبا في مزاح:- وبعدين .. انا قلت ايه !؟..فين الدرس الاول !؟..
وربت على معدته الجوعى لتقهقه هاتفة:- مبتعرفش تحب على معدة فاضية ..
جلس ارضا هاتفا بها:-شاطرة مراتي حبيبتي.. اجرى بقى هاتي الصينية .. عشان نعرف نقول احلى كلام ..
قهقهت من جديد وهى تحضر صينية افطارهما لتضعها امام زوجها ليبدأ في تناولها بشهية كبيرة أورثتها ضحكات متتابعة تسربلها السعادة وهى تتطلع اليه في عشق …
طرقت الخالة وسيلة بابهما هاتفة:- الفَطور يا عرسان .. صباحية مباركة ..
استيقظت دلال على هتاف الخالة وسيلة فتطلعت حولها في تيه لتقع عيناها على محيا عفيف الناعس جوارها .. اخذت تتطلع اليه في عشق تجول بناظريها على تفاصيل وجهه المستكينة في وداعة والتي أورثته مظهرا بريئا يتنافي كليا مع طبيعته الصلبة .. لكن هذا هو عفيف كما عهدته وكما اعتادته وكما عشقته يحمل كم من متناقضات قلما اجتمعت بشخص واحد.. ابتسمت في سعادة وبدأت في مشاكسته تمسك بأطراف خصلاتها تملس بها على وجهه .. تململ قليلا لكنه لم يستيقظ لتعاود الكرة من جديد .. ليرفرف بأهدابه في تشوش لكن ما ان وقعت ناظريه عليها حتى ابتسم في وداعة وجذبها بين ذراعيه ..
همت بالهتاف باسمه الا انه اسكتها امرا:- هششش ..
ابتسمت مستسلمة ليضمها اليه اكثر هامسا:-خلينى اصدج اللي انا واعيله ده ..اشمعنى انت مكنتيش مصدجة عشية وانا عِملت الواچب ..
علت ضحكاتها لترفع رأسها مقبلة ذقنه هامسة:- انا قلبي عليك .. خالة وسيلة لسه جايبة الفطار واكيد انت جعان ..وانا كمان جعت ..
ابتعد عنها مرغما وهمس:- امري لله ..
فتح باب الغرفة وتناول الصينية وعاد بها للداخل من جديد .. وضعها ارضا وعاد اليها جاذبا إياها لتجلس جواره ومد كفه اليها بأول لقمة يضعها بفمها هامسا:- بالهنا والشفا ..
تطلعت اليه في محبة واستشعرت حنان ما كانت تعتقد انه موجود من الاساس ..
انهى تناوله طعامه وهى شاردة فيه لا قبل لها لترفع ناظريها بعيدا عن محياه غير قادرة على التعبير عما تستشعره تجاهه .. فلم تكن تتوقع يوما ان تعيش قصة عشق كما تمنت .. لكن هاهى تجلس قبالة ذاك الرجل الذي ظنت يوم ان هل عليها مهددا انها واهمة وان قصص العشق لا تروى الا في الحكايا والأشعار ..
انتفضت مستفيقة عندما مال عليها واضعا رأسه على فخذها رافعا ناظريه متطلعا اليها متسائلا:- مكلتيش ليه !؟..
همست بعشق:- شبعت لما بصيت لك ..
همس يشاكسها:- هو انا اسد النفس جوي كِده!؟..
اتسعت ابتسامتها معاتبة:- انت .. انت متعرفش انت ايه يا عفيف !؟..
تعلقت ناظريه بعينيها هامسا في فضول:- لااه معرفش .. عرفيني ..
همست بنبرة تفضح مكنونات قلبها المتيم:- انت احلى حاجة حصلت لي ف حياني ..يوم ما خلطت عليا بابي اول مرة قلت خلاص .. روحة بلا رجعة .. فدا اخويا .. مكنتش اعرف انها فعلا روحة بلا رجعة لقلبي .. انا مشيت من النعمانية وانا سايبة قلبي بين ايديك..
تألقت نظرات عينيه وهى تستطرد هامسة:- لما كتبت الجواب ده كنت خلاص قررت انى امشى .. كان كل كلمة فيه لو بتنطق لكانت قالت لك هى قصدها خليني ومتبعدنيش عنك..
حتى لما بعدت .. مكنتش بتفارقني ابدا ..
همس متسائلا بنبرة متأثرة:- كيف يعني !؟..
ابتسمت تداعب شعره بأناملها هامسة:- كنت دايما بحلم بيك .. مكنتش لسه اعرف موضوع الحادثة بس كنت بشوفك دايما ف زنقة وانا اقعد اصرخ انادي عليك .. وأول ما عرفت رجعت ..
همس في وله:- يومها بعتيلي المرسال يجول لى انك هنا ..
ابتسمت بدورها وأومأت برأسها ايجابا:- ايوه.. الجلاب اللي بعتهوله وسط الأكل .. عارفة انك بتحبه وبيفكرك بوالدتك ..فبعته ..
همس بهيام:- وبيفكرني بيكِ ..
همست منكسة رأسها تتشابك نظراتها العاشقة بنظراته المتيمة:- عفيف يا نعماني .. انا بعشقك ..
لم يهمس بحرف بل مد كفه لما خلف عنقها جاذبا رأسها لتسقط جدائل شعرها الليلية كستار تحجبهما عن الاعين وهو يفضي لها بمكنونات قلبه المسربل بعشقها .
↚
اندفع مناع صارخا فى اتجاه البيت الكبير مناديا عفيف:- يا عفيف بيه .. يا عفيف بيه ..
خرج عفيف متعجبا يسأل:- ايه فيه يا مناع !؟.. ايه الجلبان اللي انت عاملة ع الصبح !؟..
هتف مناع ملتقطا انفاسه:- جتيل يا بيه .. جتيل ..
انتفض مناع هاتفا في صدمة:- جتيل!؟.. فين يا واد !؟..
اكد مناع:- ف الرياح الجريب .. العالم ملمومة هناك .. چتتها مرمية كن بجالها زمن وتوى البحر راميها ..
هتف عفيف:- بتجول جتتها !.. هى جتيلة ..!؟
اومأ مناع مؤكدا ليتساءل عفيف:- بلغتوا شريف بيه !؟..
اكد مناع:- ايوه يا بيه هو هناك والحكومة كلها على وصول دلوجت ..
هز عفيف رأسه هاتفا:- طب تمام .. انا هحصلهم اشوف ايه فيه !؟..
وصل عفيف لموضع الجثة المغطاة فوجد شريف وقد ألقى السلام وهتف:- المية بهدلت معالم الجثة .. محدش عارف دي جثة مين ..
تنهد عفيف:- ربنا يرحمها على اي حال ..
فجأة ظهر خفاجي مندفعا في اتجاه الجثمان ودفع عنه غطاءه وأخذ يصرخ في لوعة ..
تنبه شريف مندفعا نحوه:- ايه ده !؟.. انت تعرفها !؟.. وعرفتها ازاي من اساسه !؟..
هتف خفاجي صارخا:- دي بتي .. دي لواحظ بتي .. هى لواحظ ..
هتف شريف متسائلا من جديد وهو يعيد الغطاء على الجثة المشوهة:- عرفت ازاي انها بنتك ومعالم وشها مش واضحة !؟..
اكد خفاجي من بين دموعه المقهورة:- هى يا بيه .. لبسها ودهبها .. هى بقالها فترة غايبة ومعرفناش راحت فين .. بس دلوجت أديني عرفت ..
هتف شريف:- طب بتتهم حد !؟.. اي حد كان بينكم وبينه اي عداوة !؟..
هتف خفاجي موجوعا:- يا بيه احنا غلابة .. حلب دايرين ف الموالد .. هنعادوا مين بس !؟.. احنا ماشيين چنب الحيط ..
ربت شريف على كتفه مواسيا وهتف عفيف الذي ظل صامتا طوال فترة الاستجواب:- البقاء لله يا خفاجي .. جوم .. جوم على حيلك خليك شَديد .. ربنا يعينك ..
وربت على كتفه مواسيا وقد وصلت النيابة لموضع اجتماعهم ليتواصل التحقيق .. امام جثمانها الذي ألقاه البحر عندما اصبح غير قادرًا على الاحتفاظ بجثمان نجس بين أحشائه ..
اندفع شريف لداخل شقته متنهدا في تعب لتخرج زينب من المطبخ هاتفة في سعادة:- شريف !؟.. حمد الله بالسلامة..
هتف يتلقاها بين ذراعيه هامسا:- الله يسلمك.. انا جعاااان اكل وجعان نووووم .. بقالي كام يوم منمتش ..
اندفع لداخل غرفته يضع سترته الميري جانبا ويتمدد على الفراش هامسا:- يقطع الغازية واللي جه من تحت راسها..
انتفضت زينب متوجهة اليه تطل عليه هاتفة في حنق:- غازية مين يا شريف!؟.. انت تعرف غوازي !؟.. انطق !؟.. اعترف !؟..
انتفض هاتفا ينفي التهمة:- ماتت وعهد الله ماتت ..
هتفت متشنجة:- وانت مالك زعلان عليها كده !؟... وانا اقول بقى بيطول ف الصعيد ليه !؟..
هتف شريف يكاد يولول:- والنعمة اتقتلت ..غااارت .. دي القتيلة اللي كنت بحقق ف قضيتها عشان كده اتاخرت ف الاجازة ..
نظرت اليه في مهادنة وتساءلت:- يعني متعرفش اي غازية يا شريف !؟.
تطلع اليها في عشق هامسا:- وحياة سرينة الإسعاف اللي مبحلفش بيها باطل ابدااا.. معرفش الغازية ولا شفتها الا مقتولة .. وبعدين انتِ بتغيري عليا يا زينبو !؟..
اكدت هامسة:- ايوه بغير ..
ثم تغيرت لهجتها فجأة هاتفة بحدة:- طب خلي اي واحدة تفكر تبص لك بس وانا اخليها تندم ع اليوم اللي اتولدت فيه..
قهقه شريف يصفق بكفيه في تشجيع هاتفا:- ايوه يا زينبو .. أموت انا ف خُط الصعيد ..
قهقهت وهتفت وهى تخرج من الغرفة تتحرك في بطء ببطنها المتكور امامها في سبيلها للمطبخ:- اجيب لك حاجة تشربها على بال ما احضر الغدا!؟..
اكد وقد قرر مشاكستها مندفعا خلفها:- اه يا ريت .. هاتيلى مياه غاااااازية .. و ركزي قوووي ع الغازية دي ..
انفجر ضاحكا عندما تنبه لملامح وجهها الذي انقلب فجأة وأصبحت اشبه بريا وسكينة وخاصة وهى تحمل سكينة المطبخ .. فاندفع عائدا لداخل الغرفة مغلقا بابها وقهقهاته ترتفع من خلفه ..
تسللت من بين الخيام قبل ان يبدأ نور الصباح في الظهور بالأفق محاولة الخروج مبتعدة عن مضاربهم غير راغبة في العودة لهذه الحياة من جديد.. انتفضت فى ذعر عندما لاح لها شبحا خرج من خلف احد الأشجار هامسا:- على فين يا ورد وفيتانا !؟..
تنهدت في راحة هامسة بعتاب:- كِده يا طايع!؟.. والله كنت هروح فيها ..
همس بعشق:- بعيد الشر عنك يا ورد .. مجلتيش !؟..واخدة بعضك ورايحة على فين !؟..
اكدت بلامبالاة:- على اي مطرح .. بلاد الله لخلج الله .. خلاص معدش ليا مكان هنا يا طايع.. لا صاحب ولا جريب ..
همس يتساءل في وجل:- ولا حبيب يا ورد !؟..اني رايدك ف حلال ربنا ..
اخفضت نظراتها هامسة:- تجدر على مهري ..
اكد في لهفة:- اجدر بعون الله ولو كان ايه ..
همست:- ننزل نشتغل ف النعمانية .. انا هنزل لعفيف بيه النعماني والداكتورة واطلب شغل ف ارضهم و متوى .. وهم مش هيرفضوا وخصوصي ان شهادتي كانت السبب ف خروجه م المصيبة اللي دبسته فيها لواحظ الله يرحمها بجى..
اكد هامسا في محبة:- وانا فين ما تكوني هكون معاكِ .. اني كمان لا ليا فيها جريب ولا صاحب.. بلدي اللي فيها الحبيب .. ونكون مطرح ما تكوني يا ورد..
ابتسمت في سعادة واندفعا سويا بعيد عن مضارب الغجر مفارقين لدنيا وحياة جديدة ..
اندفع شريف حاملا إياها يهبط الدرج في عجالة ويحاول في نفس اللحظة السيطرة على أعصابه والانتباه لخطواته ..
كانت صرخاتها كافية لتعلمهن بما يجري لتندفع كلتاهما من شقتها وقد اصبحت بكامل هيئتها تندفعان خلفه تحمل امها حقيبة الصغير القادم وتلهث امه للحاق بهم حتى باب العربة..
دقائق وكانت تُدفع لغرفة العمليات.. ليتوقف هو وأمه وامها بالخارج يتضرع الجميع الي الله ان يمن عليها بالسلامة لكليهما .. زينب وجنينها ..
مر الوقت في رتابة ليهتف صارخا بعصبية شديدة:- ما حد يرد علينا يطمنا .. هو ايه اللي بيحصل !؟..
هتفت امه تهدئه رابتة على كتفه:- اهدى يا شريف .. ان شاء الله خير يا حبيبي ..
هتفت ماجدة امها رغم اضطرابها:- هي البكرية كده يا شريف .. ربنا يقومها بالسلامة ..
هتف شريف وهو يخلل أصابعه بين خصلات شعره في توتر:- يا رب ..
واستطرد في حنق:- هاين عليا ادخل اجيب الدكتور اللي جوه ده من رقبته .. ما يطلع يقولنا ان الدنيا ماشية تمام .. اي حاجة تطمنا..
انتفض من موضعه مندفعا باتجاه باب غرفة العمليات وأمه وماجدة خلفه في لهفة هاتفا في الممرضة التي خرجت لتوها:- ايه الاخبار !؟..
هزت رأسها في سعادة هاتفة:- الف مبروك .. ولد زي القمر .. يتربى ف عزكم ..
تساءل شريف في لهفة:- وهى!؟..اقصد امه ..
اكدت الممرضة:- زي الفل .. هيخرجوا لكم حالا ..
هلل شريف في فرحة واندفع يحتضنهما امه التي بكت بين ذراعيه وكذلك ماجدة امها التي ضمها مقبلا جبينها في سعادة..
واخيرا استعاد روحه المرحة هاتفا في مزاح:- بقت كل واحدة فيكم تيتة رسمي .. اسمعش واحدة منكم تقولي جوزني يا شريف ..
قهقت كلتاهما لتنتفض شريفة مندفعة خلفه ما ان وعى لسرير زينب المدولب يخرج من الغرفة وتلقفت امها الطفل بين ذراعيها تلحق بهما..
استقرت بالفراش ليجلس جوارها في انتظار إفاقتها ..
تناوبت الأمهات حمل الطفل لتفتح عيونها بعد فترة هامسة:- شريف ..
انتفض ملبيا في لهفة:- حمدالله ع السلامة يا زوزو ..
همست:- ربنا جاب ايه !؟..
اكد في فخر:- كريم شريف عبدالواحد..
دمعت عيناها فرحة وهمست:- عايزة اشوفه ..
اكد وهو ينحني مقبلا جبينها في محبة:- عنايا .. هروح احاول اسلكه من أيدين الأختين الحلوين هناء وشيرين .. زمانهم بيتخانقوا عليه مين شاله اكتر ..
اتسعت ابتسامتها في وهن وهو يندفع من الحجرة باتجاه حجرة الحضانة حيث تقف كل من امه وامها امام زجاجها تتطلعان لحفيدهما في سعادة وفخر …
هتفت به تستحثه ان يتوقف بالكارتة:- استنى يا عفيف ..
شد لجام الفرس ليتوقف هاتفا:- ايه فيه!؟..
اشارت لفتاة ما متسائلة:- مش دي نادية !؟..
اكد عفيف بشجن:- ايوه هى ..
همت بالنزول فاندفع عفيف يساعدها هاتفا في لوم:- رايحة فين بحالك ده!؟
نزلت من العربة مستندة عليه وهى تضع كفها على بطنها المتكور امامها هاتفة:- عايزة أشوفها يا عفيف .. عايزة اطمن عليها .. عشان خاطري..
تنهد بقلة حيلة وهتف ينادي نادية التي تنبهت لتندفع بذاك الطفل الذي تحمله على كتفيها ليبادرها عفيف متعجبا:- انتِ ايه اللي نزلك الارض يا نادية !؟.. اني مش جلت لامك طلباتكم عنِدي !؟
نكست نادية رأسها حياءً واخيرا همست:- معلش يا عفيف بيه .. بس اني ولدي ميكلش الا من تعبي.. والفلوس اللي كتر خيرك بتبعتها لامي اخواتي اولى بيها ..
هتفت دلال مشفقة:- بس ابنك على كتفك .. حرام عليك نفسك .. وابنك..
لم تجيب نادية بحرف ليأمرها عفيف في صرامة:- ارچعي دار ابوكِ وانا هشوف لك شغلانة ومتنزليش الارض تاني .. مفهوم !؟..
اومأت برأسها ايجابا وعدلت من حمل ولدها على كتفها ورحلت تترنح في مشيتها بحملها..
تابعتها دلال ودمعة تتأرجح بجفونها هامسة لعفيف:- هو ايه اللي حصل!؟..بتقول لها ترجع بيت ابوها ليه !؟..
همس عفيف:- طب اطلعي وانا هحكيكي كل حاچة ..
صعدت بمساعدته ليستدير صاعدا جوارها مندفعا بالعربة هاتفا:- اصلك انا مكنتش عايز اجول لك عشان متزعليش ..البت چوزها مات..
شهقت دلال في صدمة هاتفة:- ده حصل امتى!؟..
اكد عفيف:- من فترة صغيرة.. مات ف حادثة ف البلد اللي بيشتغل فيها جبل ما يعجد عليها رسمي ..
هتفت دلال موجوعة:- لا حول ولا قوة الا بالله.. وبعدين !؟..
تنهد عفيف مستكملا:- اخو الواد جال لابوها اعلى ما ف خيلكم اركبوه .. وبتك ولا ليها حاچة عندينا .. ولا ولده نعرفه .. ابوها لانه عارف انه غلبان مش هيجدر على اهل الواد لانهم واعرين من جهرته وجع من طوله راح فيها ..
شهقت دلال من جديد:- طب وبعدين!؟ حقها هيضيع كده !؟..
تنهد عفيف مؤكدا:- ما هو لو نعرف فين الكمبيالة اللي ابوها خدها على چوزها يوم ما كتبوا العجد العرفي كنت اتصرفت .. لكن مش لجيينها.. وانا بحاول اجعد مع اخو چوزها الله يرحمه واشوف اجدر اعمل ايه ..
تنهدت في وجع هاتفة:- ليه ده كله يحصل لبنت مكملتش ١٧ سنة ..اللي زيها يا دوب داخل الجامعة وبيظبط مستقبله مش شايل لقب ارملة وشايل كمان حمل طفل اولى تكون اخته مش امه .. والله ده ما يرضي ربنا !؟..
ربت على كفها هاتفا:- اهدي بس .. كلها أرزاج وكاتبها المولى .. محدش ليه ف نفسيه حاچة ..واحنا ياما جلنا ومحدش سمع ..
هتفت تؤكد:- انا هجيبها اشغلها معايا ف العيادة يا عفيف ..
هتف بدوره:- وماله .. أهي تبجى معاكِ ..
توقفت العربة امام البوابة ليساعدها
لتهبط منها ويسيرا منعا لداخل البيت الكبير ..
صعدا بعد العشاء لحجرتهما ولكن قبل ان تدخلها هتفت تستوقفه:- انا هروح اجيب رواية من المكتبة وارجع يا عفيف ..
همس:- طب ما تدخلي انتِ ارتاحي وانا اچيب لك اللي انت عوزاه ...
هزت رأسها نفيا هاتفة:- لا هختار على ذوقي وارجع بسرعة .. انا فعلا حاسة اني تعبانة ومع ذلك مش حاسة ان جايلي نوم ..
هز رأسه موافقا وسبقها لداخل الحجرة.. اتجهت هى للمكتب وقبل ان تمد كفها لرف الروايات شعرت ان شئ ما داخلي يقودها في اتجاه غرفتها القديمة التي كانت تحتلها منذ قدومها للنعمانية .. تخطت باب المكتب المفضي للمندرة وفتحت باب تلك الحجرة وتطلعت فيها بمحبة ودون وعي وجدت نفسها في اتجاه الغرفة التي حلمت فيها حلمها العجيب الليلة الاولى لها عندما قدمت للنعمانية اول مرة .. تلك الغرفة التي رحلت فيها جدة عفيف وهى تضع اخر أطفالها .. لا تعرف لما تستشعر رابط خفي بينها وبين تلك الحجرة .. كأن هناك رسالة ما تصلها عندما تطأها بقدميها .. دخلتها في اضطراب وشعور داخلي عجيب يحثها على الخروج ..
قاومت هذا الشعور ومدت كفها تفتح احد الأدراج بخزينة الملابس والتي يبدو انها لم تفتح منذ عصور ..
وجدت بعض الاوراق الصفراء القديمة المهترئة .. قلبت فيها لعلها تستطيع ان تستكشف بعض اسرار تلك المرأة التي جاءت لها في أحلامها طالبة المساعدة والعون ..
تنبهت لورقة وحيدة بين تلك الاوراق فتحتها في حذّر وقرأت جملة واحدة.. "كل شئ يؤخذ بالقوة..
الا القلوب تؤخذ باللين .. وهو كان لين ..لكن قلبي انا من تحجر" .. تنهدت وهى تقرأ تلك الجملة لانها تعكس مدى معاناتها لكنها تساءلت كيف يمكن لامرأة منذ ذاك العهد ان تكتب بتلك الفصاحة اوحتى تكتب من الاساس .. فتلك الفترة لم يكن هناك تعليم للفتيات .. وابتسمت في سخرية وهى تهمس انهم يحاولوا في نشر تعليم الفتيات حتى الان .. تركت الاوراق الصفراء وتتبعت شعورها الذي كان يلح عليها لتهم بالخروج فعلا الا ان شئ ما اشتبك بقدمها فاختل توازنها وسقطت ارضا ..
تأوهت وهى تضع كفها على بطنها وقد استشعرت بداية ألام المخاض ..
هتفت تحاول استدعاء عفيف مرارا وتكرارا لكن صوتها كان من الضعف حتى لا يصل لمسامعه بالجانب الاخر من البيت .. وربما يكون قد ذهب في نوم عميق فلا يدرك انها على هذه الحالة ..
تمدد على فراشه يحاول مغالبة النعاس حتى يطمئن انها عادت .. ففي شهرها الاخير ذاك كانت دوما ما تعاني الأرق.. وكم أيقظته باكية لعدم قدرتها على النعاس ولو لدقائق قليلة ..
استشعر انها غابت اكثر من اللازم فنهض يطمئن عليها ..
ما ان اقترب من باب مكتبه حتى سمع نداء واهن باسمه .. اندفع من المكتب في اتجاه المندرة ومنها حيث موضع الصوت وصاحبته ..
هتف في صدمة ما ان وجدها ممددة على الارض بذاك الوضع حتى هم بحملها خارج الغرفة هاتفا:- ايه اللي حصل !؟..وانتِ ايه اللي چابك الاوضة دي م الاساس !؟..
صرخت ما ان حاول حملها واشارت له بتركها موضعها ارضا هاتفة:- مش قادرة يا عفيف خلاص .. ابعت جيب الدكتورة بتاعت الوحدة وابعت لى الخالة وسيلة وناهد ..
هتف مذعورا:- انتِ هتولدي هنا !؟.. ف الأوضة دي !؟.. لاااه هنروحوا المستشفي !؟..
اكدت بوهن:- مفيش وقت يا عفيف للمستشفي .. روح نادي الدكتورة .. بسرعة يا عفيف ..
وبدأت ف التأوه من جديد ..
اندفع كالمجنون ينفذ ما طلبت لتتحامل هى على نفسها حتى وصلت الفراش بصعوبة بالغة واشتدت ألام المخاض اكثر لتصرخ في وجع وقد اندفعت ناهد والخالة وسيلة لداخل الغرفة ما ان أخبرهما عفيف ..
ليعود هو في أعقابهما ما ان امر مناع باحضار طبيبة الوحدة الصحية التي تم تعيينها خلفا للدكتور طارق .. كان يقف مضطربا كليث جريح خارج الغرفة يود لو يدخل لينقلها للمشفى او حتى لأي غرفة اخرى وليكن ما يكون.. وما ان هم بفعل ذلك حتى وصلت الطبيبة ودخلت للغرفة التي كانت تأوهات دلال تصل لخارجها تفعل به الافاعيل فتزيده قلقا على قلق ..
ظل على إيابه وذهابه حتى طل نديم الذي كان خارج النعمانية ووصل لتوه هاتفا في اضطراب:- ها ايه الاخبار!؟...
هتف عفيف مضطربا:- لسه مفيش اخبار .. اديك واعي .. الحريم كلهم چوه ..
كان نديم لا يقل عنه قلقا على اخته لكنه هتف رابتا على كتفه في محاولة لبثه الطمأنينة:- متقلقش .. هتقوم بالسلامة باذن الله ..
همس عفيف في تيه:- باذن الله ..
وكان كل ما يشغل فكره هو ذعره من تكرار ما حدث بتلك الغرفة منذ زمن بعيد .. رفع أكفه للسماء متضرعا يتمنى لها السلامة والنجاة ..
لا يعلم كم مر من الوقت الا انه اخيرا تنفس الصعداء عندما اطلقت الخالة وسيلة البشارة..
فقد ارتفع صوت زغاريدها يطاول عنان السماء وانفرج الباب عن محياها هاتفة في فرحة طاغية:- النعماني الصغير شرف يا عفيف بيه..
لم يسع عفيف الا ان يخر ساجدا شكرًا لله ونهض ليتلقفه نديم بين ذراعيه معانقا في فرحة ..
هتف عفيف بلهفة:- ودلال كويسة !؟.
اكدت ناهد وهى تندفع خارج الغرفة مباركة:- كويسة وزي الفل ..وراغب بيه زي البدر الله اكبر ..مبروك ما چالك يا عفيف ..
ابتسم عفيف رابتا على كتفها في سعادة هامسا:- عجبالك يا ناهد ..
تنهدت مؤكدة:- كله على الله ..
ما ان خرجت الطبيبة واستأذنت في الانصراف حتى اندفع عفيف للداخل في لهفة .. ألقى الجميع التحية والمباركة من جديد واكدت الخالة وسيلة على ضرورة اطعام النفساء في التو واللحظة فذهبت للتنفيد من فورها ورحل الجميع ليتركوه برفقتها..
همس متطلعا اليها:- والله حرام عليك اللي عملتيه فيا دِه .. انا عمري ما خفت كِده ..مش بس عشان انتِ بتولدي .. لاااه .. عشان بتولدي ف الاوضة دي بالذات ..
همست متطلعة اليه في وهن وابتسمت:- انا شفت جدك يا عفيف ..
انتفض مذعورا:- ايه !؟.. شفتي مين!؟..
اكدت:- شفت جدك النعماني الكبير وهو شايل راغب وبيديهولى .. وبيقولي خلي بالك عليه .. وجدتك واقفة مستنياه بعيد بصت لى وابتسمت وزي ما يكونوا اتصالحوا اخيرا لانه خد بايدها وبعدوا ..
ربت على كفها التي باحضان كفه وهمس مضطربا:- خير .. الحمد لله انك جومتي بالسلامة.. وربنا رزج براغب الصغير ..
حمله عفيف في سعادة مؤذنا في أذنه اليمني وهمس مرددا في فخر:- راغب عفيف راغب النعماني ..
اندفع عفيف من خلف مكتبه حاملا جريدة اليوم هاتفا في حماسة متوجها لدلال التي كانت تجلس على كرسيها المفضل قبالته:- بصي يا دلال ع الخبر دِه كِده ..
تطلعت للجريدة وتناولتها من يده وبدأت في القراءة وما ان انتهت حتى رفعت رأسها ودمع السعادة يترقرق بمقلتيها هاتفة:- حق براءة واللي زيها بيرجع..
اكد عفيف هازا رأسه مؤكدا:- القانون اللي بيچرم الختان من غير ضرورة طبية يأكدها داكتور متخصص لسه طالع اهاا .. اللي كنتِ بتحلمي بيه وفضلتي تحاربي عشان توصليه لستات النجع بجي حج ..
هتفت دلال في تأثر:- ولسه يا عفيف .. لما المدرسة الإعدادي والثانوي بتاعت البنات اللي بتبنيها تكمل .. معظم بنات النجع والنجوع اللي جنبنا كمان هييجوا يتعلموا وميبقاش في حجة لبعد المدرسة وخوفهم ع البنات .. والتعليم شوية بشوية هيفتح العقول ويخلي اللي كان مرفوض امبارح يبقى مقبول النهاردة ..
تطلعت اليه هاتفة:- خبر حلو قووي .. بس اللي هيفرحني بجد هو يوم ما اشوفك بتناقش الدكتوراة .. ها لسه كتير يا دكتور !؟..
ابتسم مؤكدا:- لسه كَتير جووي ..بس بصراحة انتِ مش مجصرة .. التجصير چاي مني انا ..
تطلعت اليه في عشق هامسة:- تقصير ايه بس!؟.. كتر خيرك هتلاقيها من الارض ومشاكلها ولا النعمانية وأحوالها ولا الرسالة ولا المدرسة اللي بتبنيها .. ولا دلال وعيالها .. انا بعمل ايه غير اني بساعد شوية.. ويا ريت اقدر اعمل اكتر من كده..
قهقه مؤكدا:- تجدري !؟..
هتفت بلهفة:- اقدر اعمل ايه !؟..
اكد وهو يجذبها من كرسيها المفضل داخل مكتبه والذي تحتله دوما لتقرأ بينما هو يتابع كتابة رسالته العلمية دافعا بها في رفق باتجاه الباب هاتفا:- تجدري توريني عرض كتافك.. عشان طول ما انت جصادي كِده مش هكتب حرف ف الرسالة .. هااا .. ايه جولك!؟..
اتسعت ابتسامتها هامسة:- طيب .. اروح بدل ما تعملني حجتك .. بس شد حيلك عايزة مبحث كامل م الرسالة يخلص الليلة دي ..
هتف مازحا:- أوامرك يا داكتورة ..
توجهت لحجرتها وتمددت على فراشها تحاول الخلود للنوم .. كانت تعلم انه لن يغمض لها جفنا وهو لا يجاورها .. تستأنس بأنفاسه وتخلد للنعاس وهى تستشعر عبق دفئه ..
احست بقدومه فابتسمت رغما عنها وهى تراه يندفع لداخل الحجرة ثم لداخل الفراش ..
همست معاتبة توليه ظهرها وهى تكتم ضحكاتها:- مش كنت عاملني حجتك!؟..فين المبحث يا دكتور !؟..
دنا منها مطوقا خصرها هامسا بالقرب من مسامعها:- المبحث بكرة ان شاء الله .. دلوجت فيه حاچات اهم ..
امسكت قهقهاتها هامسة بتعجب تدعي الدهشة:- حاجات اهم!؟..
وأكدت وهى تستدير لتواجهه متطلعة اليه:-عفيف .. الدكتوراة دي انت ناوي تاخدها امتى!؟.. هااا !؟..
اكد مبتسما بحرج كطفل يتهرب من اداء واجبه المدرسي رغبة في بعض العبث:- ما جلنا بكرة.. يصبح ويفتح ..
وضمها اليه هامسا مدعيا الجدية:- تعالي بس انا عايز اجولك على حاچة مهمة م الحاجات اللي جولت لك عليها..
تعالت ضحكاتها وهى توليه اهتمامها كاملا مصغية لكل حرف من كتاب العشق الذي يجيد قراءته على مسامع قلبها ولا تمله روحها ابدااا ..
وقفت تعدل من هندامه وتضبط رابطة عنقه التي لايزل يفشل في إتقان عقدتها.. مال اليها حتى تتأكد ان كل شئ على ما يرام فتذكر اول مرة تتطوع لربطها .. فهمس مشاكسا:- بلاها من خنجة !؟..
قهقهت عندما وعت عما يتحدث متذكرة بدورها هامسة:- لا متقلقش .. انا اللي بقيت الخانقة شخصيا .. وهتلاقيني متشعبطة ف رقبتك على طول ..
قهقه بدوره هامسا:- والله احلى خانجة ف الدنيا .. وبعدين هو انت متشعبطة لحالك .. انت وكوم اللحم اللي ورايا واخرهم اللي چاي ف السكة دِه ..
وربت على بطنها المكور امامها لتتعالي قهقهاتها مؤكدة:- وراك .. وراك .. انا بنفذ تعليمات خالة وسيلة .. يغلبك بالمال .. أغلبيه بالعيال ..
هتف ساخرا وهو يتوجه لطاولة الزينة يتناول من عليها ساعة يده ليضعها:-- جال داكتورة نسا جال !؟.. فين حملات تنظيم الاسرة ياچوا يشوفوا..!؟..
اقتربت منه لتقف قبالته تتطلع اليه في عشق هامسة وهى تضع كفيها المنسبطين على صدره:- انا لو اطول اجيب منك كل شهر عيل مش كل سنة بس والله هجيب ..
تنحنح يحاول اجلاء صوته تأثرا هاتفا:- بجولك ايه !؟.. انا مش حمل الكلام الواعر دِه دلوجتي .. لازم اچري اچهز أموري ..المناجشة خلاص..
همست تؤيده:- صح .. ياللاه احنا فعلا اتأخرنا..
هتف مترددا وهو يرى حالها ووضع حملها بشهرها الاخير:- انا خايف عليك .. ما ترتاحي وبلاها تيچي !؟..
شهقت معاتبة:- لا يا عفيف حرام عليك .. بقالي اكتر من خمس سنين مستنية اللحظة دي.. وبحلم يوم ما اشوفك بتناقش الرسالة واسمع لجنة المناقشة بتمنحك الدكتوراة.. وتقولي خليكي .. ده لو كان فيا ايه برضو هروح.. وبعدين ما انا كويسة الحمد لله وبعدين انت نسيت اني دكتورة نسا وبقولك بكل ثقة ان الأمن مستتب وكله تمام ..
اتسعت ابتسامته وانحنى مقبلا جبينها وضم كتفها بعرض ذراعه وخرجا سويا باتجاه الجامعة حيث تنتظر ان ترى حلمهما يتحقق ..
جلس الحضور في هدوء تام وبدأت المناقشة وكل عضو من أعضاء لجنة مناقشة رسالته يحاور عفيف والأخير يرد بكل ثقة واقتدار ..
كانت دلال تجلس بجوار ناهد ونديم اللذان جاءا خصيصا من القاهرة بعد انتقالهما اليها منذ اكثر من عامين من اجل مناقشة الرسالة بقلب وجل تتضرع الى الله ان يتوج مجهودهما السنوات الماضية ويحصل على حلمه الذي دوما ما تمناه وتناساه في غمرة الأعباء الملقاة على عاتقيه والذي اصبح حلمها بالتبعية وجاهدت لكى يصل اليه..
شعرت بانقباضات وألام حاولت ان تتجاهلها ولا تلق لها بالا وهى تركز على ما يقال ..
اخيرا قررت اللجنة المداولة واتجهت لغرفة جانبية للتشاور .. اندفع هو من خلف منصة المناقشة تجاههم هامسا يسألهم:- ايه رأيكم !؟
هتف نديم:- الله اكبر .. رسالة قيمة فعلا..
أكدت ناهد:- ايوه بچد .. ممتازة ..
اكد عفيف:- بصراحة لولا تعب دلال معايا مكنتش هخلص ولو بعد عشر سنين ..
وابتسم لها فحاولت التظاهر بان الامور كلها على ما يرام وهى تؤكد مبتسمة:- مفيش بعد كده كلام .. هتاخدها وبامتياز كمان ..
ابتسم في سعادة:- حتى ولو اجل من امتياز .. هعتبرها كِده طالما انتِ اللي عطيتيهالي ..
ابتسمت لكنه استشعر تغير ملامحها التي تعكس وجعا تحاول مداراته فهمس:- انتِ كويسة !؟..
اكدت تربت على كتفه:- اه تمام .. قوم ياللاه اللجنة رجعت أهى .. ربنا معاك..
اصطفت اللجنة وبدأت في الاشادة بالرسالة وجوانب القوة فيها واخيرا قررت منح الباحث عفيف راغب النعماني درجة الدكتوراة بامتياز ..
هلل الجمع وعلا التصفيق .. لكن لم يكن وحده الذي علا بل كذلك صوت تأوه دلال التي ما عادت قادرة على تحمل آلامها اكثر من ذلك فأعلنت عنها بصرخة دفعت عفيف ليترك كل من حوله مندفعا اليها في قلق ..
هتفت دلال معاتبة:- ليه ماشيين بسرعة كده!؟.. ما تخليكم معانا كمان يومين !؟..
هتف نديم مؤكدا:- لا يومين ايه يا دلال !.. ده انا خدت الاسبوع اللي فات ده اجازة بالخناق.. ومرضناش نمشي الا لما تشدي حيلك شوية كده و كمان عشان ناهد مكنش ينفع تاخد الطريق رايح جاي من غير ما ترتاح عشان..
نظر الى ناهد مهددا بمزاح:- اقول..!؟.. ولا تقولي انتِ !؟..
هتفت بلامبالاة:- هجول وهو عيب ولا ايه !؟..
وتطلعت لدلال هاتفة:- انا حامل ..
قهقه عفيف هاتفا:- هو انا ليه مش متفاچئ .. طب ما دِه العادي يا نديم .. دلال تولد ناهد تحمل عجبال ما ناهد تولد هتلاجي دلال حامل وراها ودوخيني يا لمونة ..
علت ضحكات نديم هازا رأسه مؤكدا:- والله صدقت .. ربنا ما اردش بالعيال الا بعد سنتين من جوازنا .. ومن ساعتها قالت خد عندك .. الظاهر الفرن لما تحمى بطلع عيشها بسرعة ..
قهقه الجميع ماعدا ناهد التي نظرت اليه شذرا تكتم غيظها ليهتف عفيف مازحا وهو يتطلع لملامح اخته:-انا بجول يا نديم ان من مصلحتك تجعد معانا .. انا خايف عليك والله ..
قهقه نديم مؤكدا:- لاااا .. هو انا ليا بركة الا ناهد وعيال ناهد ..
ابتسمت وتعدل مزاجها فورا لترتفع ضحكات كل من دلال وعفيف وخاصة ونديم يستدير هاتفا على أولاده ليجمعهم:- العصابة تجمع ..
اندفع أطفاله .. محمود ومروان قبالته ليسألهما متعجبا:- أمال فين اختكم عاليا !؟..
رفع كل منهما كتفه وخفضه دليل على جهلهما بموضع أختهما الكبرى ..
اكدت رقية ابنة عفيف ودلال والتي كانت تقارب عاليا سنا مشيرة للخارج:-راغب خدها يفرچها ع الخيل ..وهى مرضتش تلعب معايا وراحت معاه وانا مخصماها ..
اندفع نديم ومن خلفه عفيف ولحق بهما النساء في اتجاه الاسطبلات القابعة خلف البيت الكبير.. لاح لهما طيفهما ليهتف عفيف يستوقف ولده البكر الذي كان يمسك بكف ابنة خاله في تشبث مناديا اياه:- راغب .. وجف .. انت رايح على فين كِده !؟..
استدار راغب متطلعا لأبيه هاتفا في ثقة تخطت أعوام عمره السبع:- رايح افرچ عاليا ع الفرسة بتاعتي .. هى جالت لي انها عايزة تشوفها ..
تنهد نديم ما ان وصل موضعها هاتفا:- حد يعمل كده برضو !؟.. طب قولوا واحنا نجبكم.. افرض حصل لكم حاجة!؟..
اكد راغب بنبرة صارمة:- متخفيش يا خالي .. انا راچل معاها .. والغفير اهاا كمان واجف ..
قهقه نديم مؤكدا:- طبعا يا سي راغب .. راجل وسيد الرجالة كمان ..
أمسك نديم بكف ابنته وعادا لموضع العربة التي كانت جاهزة بانتظارهما بصحبة مناع للعودة للقاهرة ..
تمت التحيات والسلامات لتندفع العربة مبتعدة والأطفال يلوحون من نافذتها مهللين .. انتظر كل من عفيف ودلال اختفاء السيارة حتى عادا لداخل البيت الكبير .. الا راغب الذي عاد من جديد لفرسه متحسرا ان من تشاركه محبة الخيل قد رحلت ..
اغلق عفيف خلفه باب الغرفة بعد دخولها وهتف مازحا بعد مكالمة طويلة مع اخته وأخيها:- ناهد چننت اخوكِ ..
اكدت مدافعة عن ناهد على عكس المتوقع:- محبب على قلبه ..
واقتربت منه هامسة:- وبعدين متقلقش اخته بتاخد بتاره من اخوها ومجنناه هى كمان ..
اتسعت ابتسامة عفيف مؤكدا:- أهى ف دي عندك الف حج .. وانتوا الاتنين ان كان انت ولا هى .. ما شاء الله عليكم .. ماشيين على تعليمات الخالة وسيلة بالمظبوط ..
تطلعت اليه تهتف محتجة في دلال:- عفيف يا نعماني.. انا قلت لك لو مش عايز عيال .. خاصمني ..
همس وهو يقترب منها:- أخاصمك كيف !؟.. مجدرش .. حد يخاصم روحه ..
لانت قسمات وجهها ليستطرد:- بس مش كفاية كِده يا بت الحچ محمود ..٣ عيال ف سبع سنين چواز .. رضا ..
اعترضت هاتفة وهى تدنو منه:- مش هو ده الهدف اللي كان نفسي أحققه.. كان نفسى أعدي النص دستة يا عفيف..
قهقه غير قادر على مغالبة ضحكاته هاتفا من بينها:- دلال .. محسبتيش المرتين السجط .. كِده يبجوا خمسة .. اعتبريهم چم ..
هزت رأسها محتجة:- لااا .. دول جم أوت .. بره الحسبة يا روح دلال ..
انفجر ضاحكا حتي دمعت عيناه هاتفا:- ايوه يعني انتِ عايزة ايه دلوجت !؟
استطالت تقف على اطراف أصابعها حتى تستطيع تطويق رقبته بأحد ذراعيها ورفعت ثلاثة أصابع من كف الذراع الاخرى امام ناظريه دون ان تهمس بحرف ..
فك ذراعها من حول رقبته في هدوء وأبعدها عنه في رقة واندفع هاربا من الغرفة وهى تلحق به هاتفة:- استني بس يا عفيف .. بص بس هفهمك .. يا دكتور ..طب حد يجري من مراته كده..!؟..
عادت للغرفة ليتناهى لمسامعها صوت صغيرها البالغ من العمر قرابة الشهرين يبكي .. اندفعت لحجرته تحمله وجلست تطعمه على احد المقاعد باحد اركان الحجرة و ما ان انتهت حتى اخذت تهدهده ..
انتفضت عندما شعرت بيد تحاول حملها فيبدو انها غفت.. تنبهت بعض الشئ لتجده عفيف وقد وضع طفلهما بفراشه وها هو يحملها ليعود بهما لغرفتهما ..
همست وهى تدفن رأسها باحضانه معاتبة:- انت مش مخاصمني !؟.. مرجعني الاوضة ليه !؟.
دفع باب الغرفة بقدمه لينفرج ليدخل متجها لفراشهما يضعها عليه مقبلا عليها من عليائه هامسا في جدية:- انتِ جولتي فاضل لنا كام ع النص دستة !؟
رفعت كفا كاملة مفرودة الأصابع قبالة ناظريه ليمسك ضحكاته هامسا وهو يقترب منها:- انتِ ضلالية يا داكتورة .. وبتخميني كمان.. كانوا تلاتة ..
دنا منها لتهمس وهى تتعلق برقبته:- كل اللي يجي منك انا قبلاه ..
طوقها بذراعيه هامسا بعشق:- انتِ مودياني معاكِ على فين يا بت محمود المصري !؟..
قهقت ولم تجبه لكنه ما كان بحاجة لإجابتهاوقد كان يعلم يقينا انه عثر على فردوسه المفقود بين ذراعيها ..
خلصتي؟ الرواية الجاية أقوى وأحلى… تعالي وعيشيها معانا👇